Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جامعة القرويين الأقدم في التاريخ... منارة علمية على مر العصور

إجازة في الطب سُلّمت في بداية القرن 13 ميلادي من هذا الصرح العظيم الذي يعدّ الأول في التاريخ

يعود الفضل في بناء جامع القرويين إلى فاطمة الفهرية الملقبة بأم البنين (اندبندنت عربية)

يُتداول أخيراً في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي صورة اعتُبرت أقدم إجازة في الطب سُلمت من جامعة القرويين. وقد أكد أمال جلال رئيس الجامعة في حديث للـ "اندبندت عربية" صحة الوثيقة الموجودة منذ سنوات في متحف مديرية التاريخ العسكري في العاصمة الرباط، وأضاف "ان الإجازة موثقة عدلياً عرفت إشهاد عدلَين، كما شهد قاضي مدينة فاس آنذاك على هذه الوثيقة التي سلّمت من أقدم جامعة في التاريخ". وتابع "أن منظمة اليونسكو وموسوعة غينيس للأرقام القياسية تؤكدان أن "القرويين" هي أول جامعة في التاريخ.

يقول الباحث في مجال المخطوطات محمد زين العابدين في كتابه "جامعة القرويين تمنح أول إجازة في الطب"، "ان الإجازة مُنحت للطبيب عبد الله بن صالح الكتامي في العام 1207 ميلادي، وسُلمت بحضور القاضي الموثق عبد الله طاهر الى جانب الأطباء ضياء الدين المالقي الملقب بأبي البيطار، وأبو العباس بن مفرج المعروف بالنبطي، وأبو عمر الملقب بالإشبيلي".

فضل أم البنين

يعود الفضل في بناء جامع القرويين إلى فاطمة الفهرية الملقبة بأم البنين، فبعدما هاجرت مع أختها وأبيهما الفقيه القيرواني محمد بن عبد الله الفهري التاجر الثري ذي الأصل الحجازي الى مدينة فاس، عقب مغادرتهم مدينة القيروان إثر القلاقل التي عرفتها بين عام 818 وعام  826 ميلادي، قررت هي وأختها مريم تسخير الثروة التي خلّفها والدهما بعد وفاته في أعمال الخير. فقامت مريم ببناء مسجد في الأندلس، وشيّدت فاطمة جامع القرويين وقامت بوقف ثروتها عليه من أجل ضمان استمرار مهمته وصيانته.

تروي بعض المصادر التاريخية أنها صامت طوال فترة بناء الجامع، ويقول المؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب في كتابه "شهيرات التونسيات" عن مدى أمانة أم البنين واستقامتها، "إلتزمت ألا تأخذ التراب وغيره من مادة البناء إلا من نفس الأرض التي اشترتها دون غيرها، فحفرت كهوفاً في أعماقها وجعلت تستخرج الرمل الأصفر الجيد والجص والحجر لتبني به، حرصاً منها على ألا تدخل شبهة في تشييد المسجد".

أول جامعة في التاريخ

بدأ العمل في بناء الجامع بحسب بعض الروايات التاريخية في 30 يونيو (حزيران) في العام 859 ميلادي، كان يقتصر في بداية الأمر على إقامة الصلاة، ومع مرور الوقت ضم حلقات الدروس. يقول بعض المؤرخين "إن انتقال الجامع الى جامعة يعود الى عام 877 ميلادي أي بعد عام واحد على الانتهاء من بناء الجامع. ويقول أمال جلال "إن جامعة القرويين هي أقدم جامعة في التاريخ لا تزال إلى الآن تقوم بوظيفتها التعليمية من دون انقطاع، إن الدراسة في القرويين بدأت بعلوم القرآن الكريم والحديث والسيرة النبوية والفقه، ثم توسعت لتشمل علوماً كالطب والرياضيات والفلك والفلسفة".

يضيف "كانت حلقات العلم مفتوحة للطلبة كما كان يحضرها بعض التجار والصناع الذين يزاولون عملهم بمحاذاة جامعة القرويين، وتالياً عُرف حرفيو مدينة فاس بمستواهم الجيد في علوم الدين الإسلامي، لاحقاً ضُمّت بعض المباني المجاورة إلى الجامع للوقف بهدف إقامة الطلبة فيها وضمان أكلهم، وشكل ذلك النواة الأولى لما يعرف حالياً بالأحياء الجامعية".

يقول المؤرخ الدكتور عبد الهادي التازي في كتابه "جامع القرويين" "لما قال المؤرخون إنه أقدم جامعة كانوا يقصدون أنه المعهد الوحيد الذي استمر في آداء رسالته المقدسة من دون أن يتعثر فيما تعثرت فيه "الزيتونة"... وما حل بالأزهر الشريف من نكبات وما أصاب المدرسة المستنصرية من أزمات، ظلت القرويين بعيدة عن التيارات العاتية التي غيّرت من معالم عواصم المشرق بغداد ودمشق والقاهرة، فاحتفظت نتيجة ذلك بكل ملامحها".

استقلال مالي

بالإضافة الى الثروة التي أوقفتها فاطمة الفهرية على "القرويين" قام  أثرياء المدينة على مدى العصور بوقف العديد من المباني على الجامعة التي أصبحت موازنتها تفوق موازنة الدولة. يقول عبد التازي في كتابه "لقد استغنت واتْرت حتى نافست مداخيلها ميزانية الدولة نفسها لِما توفرت عليه من جليل العقار وفسيح الأرضين والغابات... اضطرت الدولة أحياناً الى الالتجاء الى مال أوقافها لتسدد به خصاصها وتغطي به عجزها".

إشعاع على مدى التاريخ

 توافد على جامعة القرويين أهم العلماء للدراسة او للتدريس فيها، وشكّلت ممراً علمياً بين الأندلس والمشرق العربي. يقول الدكتور عبد الهادي التازي في كتابه "في مدينة فاس... هناك قلب المدينة النابض الذي ظل يهيمن بما يمتلكه من حيوية وفعالية على كل أجزاء الإمبراطورية المغربية... جامع القرويين الذي يرجع له الفضل في استمرار الوجود الإسلامي بهذه الديار وفي حياة الحَرف العربي بسائر أطراف أفريقيا، إن دوره لم يقتصر على استقبال المؤمنين... ولكن تجاوزه الى المركز الذي كان مصدر إشعاع فياض على مختلف جهات المغرب الكبير وعلى بعض بلاد المشرق وعلى مدن الأندلس".

من جهته يَعتبر أمال جلال أن الإشعاع العلمي لجامعة القرويين بلغ حد توافد العلماء من المشرق العربي إليها في طريقهم الى الأندلس من جهة، ومن جهة ثانية علماء الأندلس الراغبين في الذهاب الى المدن العربية التي كانت تضم جامعات مثل الأزهر في القاهرة أو بغداد أو دمشق أو المدينة المنورة، وهم مجموعة من كبار العلماء عبر التاريخ كابن خلدون، وابن الخطيب، وابن البيطار، وابن رشد. وأضاف "تضم مكتبة الجامعة أربعة آلاف مخطوطة منها ما يعود تاريخه إلى القرن الثالث هجري، تضم مخطوطات لابن سينا وابن خلدون".

جامعة التعايش

عرفت جامعة القرويين توافد طلبة ومدرسين من الديانات الثلاث، فاليهودي موسى بن ميمون القادم من الأندلس درس بالقرويين وأصبح في ما بعد مدرساً فيها في مجال الطب والفلسفة ثم رحل للعمل في بلاط صلاح الدين الأيوبي. وفي أواخر القرن العاشر الميلادي حلّ الفرنسي جربرت دورياك عالم الرياضيات القادم من إشبيلية طالباً فيها، وكان أول من أدخل الأرقام العربية إلى أوروبا التي كانت تستخدم آنذاك الأرقام الرومانية. وأصبح بابا الفاتيكان سيلفستر الثاني في العام 999 ميلادي، ويعتبر البابا الوحيد الذي أتقن اللغة العربية.

يقول عبد الهادي التازي "شيدت الى جانبها طائفة من المدارس الداخلية لاستقبال الطلبة... أوت آلاف الأسر من مختلف الجهات المغربية وإليها يرجع الفضل في تجميع أكبر عدد من العشائر والقبائل...، بل إنها أغرت طائفة كبرى من الأندلسيين والإفريقيين، ووجدنا الى جانب هؤلاء نفراً من الفرس والكرد والعجم وجدوا ضالتهم في الاقتراب منها".     

عمليات التوسعة

عرف جامع القرويين عمليات توسع عدة في عهد الحضارات المتعاقبة على حكم المغرب، بدأت في العام 956 ميلادي في عهد الخليفة الأموي عبد الرحمان الناصر لمضاعفة مساحته وتعويض مأذنته الأولى. 

شيّد المنصور بن أبي عامر القبة الموجودة في مدخل البلاطة المحورية في العام 958 ميلادي، وتَمكّن المرابطون بعد قرن واحد من جعل القرويين أكبر جامع بالمغرب نتيجة هدم المنازل المجاورة والبلاطة المحورية وحائط القبلة، وإضافة  ثلاث بلاطات جهة القبلة ووُسّعت البلاطة الوسطى، وشُيدت قباب كما وُضع منبر يشبه منبر جامع الكتبية، قام الموحدون بإذابة الثريا القديمة وصناعة ثريا البلاطة الوسطى، أما المرينيون فقد هيأوا غرفة الموقت قرب الصومعة ووضعوا فيها آلات لضبط مواقيت الصلاة كالساعة المائية التي اخترعها ابن الحباك سنة 1286، وأعادوا ترميم الرواق الشمالي ومحراب الصحن ووضعوا ثريا من البرونز في الجامع.

وبنى السلطان أبوعنان المريني في العام 1350 خزانة القرويين، في حين أقام السعديون جناحين متقابلين في صحن الجامع. كانت مساحة الجامعة في بداية الأمر 225 متراً مربعاً وأصبحت بعد عمليات التوسعة 5845 متراً مربعاً، وتضم 17 باباً.

دور سياسي

قامت جامعة القرويين إلى جانب مهمتها العلمية بدور في المسار السياسي للمغرب، إذ شكلت بيعة علماء القرويين حدثاً جوهرياً في تثبيت الملوك على مر القرون الماضية نظراً للمكانة التي كانوا يحظون بها لدى العامة. كما شكلت الجامعة نواة الثورة على الاستعمار الفرنسي الذي احتل المغرب في بداية القرن العشرين، وعملت على إحباط المخططات الاستعمارية الهادفة الى إشعال فتيل النزاع بين العلماء والملوك. كذلك شكل منبر الجامع آلية لتشجيع الفدائيين ومصدراً لإطلاق شرارة الاحتجاجات المطالبة بإنهاء الاحتلال. ذلك الدور الذي قامت به "القرويين" كان يثير حفيظة الجنرال الفرنسي "ليوطي" حتى أنه كان يتمنى إقفالها، بحسب ما نقلت بعض الروايات التاريخية تكراره عبارة "متى سيُغلق هذا البيت المظلم"؟

وشكلت جامعة القرويين منارة علمية في المغرب الاسلامي أسهمت في تطوير العلوم في المشرق العربي وساعدت أوروبا في الدخول الى عصر التنوير حين أُنشئَت أول جامعة فيها في العام 1050 وهي جامعة "ساليرن" بإيطاليا. 

المزيد من ثقافة