في الأوقات العصيبة وخلال الأزمات المتلاحقة التي شهدها لبنان ولا يزال، خصوصاً خلال العام الحالي، لجأ قسم كبير من اللبنانيين إلى الحبوب المهدئة والمسكنات ليتمكنوا من التعاطي مع واقعهم الأليم. وجاء كلام نقيب الصيادلة في لبنان غسان الأمين ليؤكد المؤكد لناحية الزيادة الكبيرة في استهلاك هذه الحبوب خلال العام الحالي، الذي حفل بأحداث مصيرية خطيرة ومدمرة للبنان على أكثر من صعيد. وفي وقت شهد عام 2020 تشريع زراعة الحشيشة في البرلمان اللبناني، فإن المواطن العادي لجأ من أجل ضبط أعصابه ونسيان مشاكله الظرفية والمستعصية، إلى الحبوب المهدئة مثل "كزاناكس، وسيروكزات، وسيبرالكس، وإنبالتا"، فيما انتشر في أوساط الشبان تعاطي العقاقير والحبوب المخدرة، وبلوغ مرحلة الإدمان عليها نظراً إلى سعرها المقبول مقارنةً بالمواد المحظورة.
الصحة النفسية متردية
ويُعتبر الاكتئاب من الاضطرابات الشائعة. وشهد العالم في عام 2020، ازدياد حجم هذه الشريحة التي تعاني من مشاكل نفسية عدة. وبحسب منظمة الصحة العالمية، يعاني أكثر من 300 مليون شخص من كل الأعمار حول العالم من الإكتئاب. واعتُبر الاكتئاب السبب الرئيس للعجز في العالم، وهو المساهم الأساسي في العبء العالمي الكلي للمرض، كما تتأثر النساء بهذا الاضطراب أكثر من الرجال.
وينسحب ذلك على لبنان، حيث يتناول المواطن الأدوية المهدئة والمضادة للاكتئاب بكثرة. بدأت رحلة جوانا مع الحبوب المهدئة منذ خمس سنوات إثر صدمة عائلية أليمة. وتُقر أن "لهذه العقاقير مفعولاً شبيهاً بمسكن الآلام، الذي يُنسينا مؤقتاً الألم إلا أنه لا يُلغيها أو يقضي عليها بصورة نهائية". وتقول إنها عاشت في بعض الأحيان "حالات من السكون المفرط والمنفصل عن الواقع"، وتشعر "بارتياح مزاج معتدل، وذهن صافٍ".
وتشير جوانا إلى أنها تحصل على حبوب "كزاناكس" بوصفةٍ طبية، أما أدوية الاكتئاب فتحاول تأمينها بالاتفاق مع الصيدلي، وبمتابعة من الطبيب الذي تحرص على استشارته، لأن "كزاناكس" يحتوي على نسبة كبيرة من المخدر. كما تطمح إلى وقف استخدام هذه الأدوية لأنها تسبب آلاماً بالعظام وأنحاء مختلفة من الجسد.
في المقابل، لاحظ مالكو الصيدليات ازدياد الطلب على الأدوية المهدئة بشكل عام مثل "أبوباراكسوتين" و"سولوتين". وتشدد سالي عنتر وهي مديرة صيدلية في منطقة الكورة، شمال لبنان، على ضرورة التعامل بحذر مع هذه المجموعة من الأدوية، لأن لها آثاراً جانبية خطرة، بدءاً من آلام الرأس إلى انحطاط الجسم، والغثيان والدوار، لذلك يجب البدء في تناولها تدريجاً "نصف حبة لمدة أسبوعين، ومن ثم حبة كاملة. وتستمر هذه الحالة لفترة من الزمن إلى أن يقرر الطبيب عكس ذلك وبصورة تنازلية".
وتلفت عنتر إلى أن هذه الأدوية دخلت مرحلة الخطر لأن بعضها فُقد من السوق بسبب عدم تزويد المستودعات للصيدليات بطلباتها حيث "تطلب الصيدلية 20 علبة دواء، ولا تُعطى أكثر من 5"، إلى جانب قيام المواطنين بـ"تموين أنفسهم بالأدوية خوفاً من رفع الدعم عنها وانقطاعها كلياً". ويحرص الصيادلة على وجود وصفة طبية من أجل بيع أدوية "الكزاناكس، والليكزوتانين، الستينوكس، الليبوتريل، والفاليوم"، ويتم وضعها في خزنة مقفلة ومعزولة، ويتم قيدها في دفتر مصادَق عليه من قبل نقابة الصيادلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الطب النفسي يحذر
وبحسب المحللة النفسية ستيفاني غانم، "شهد لبنان فيضاً من المشاكل التي انعكست على الصحة النفسية للمواطنين والمقيمين. فهذه السنة كانت استثنائية بكل المعايير، وكانت وطأتها شديدة على الصحة النفسية". وأكدت غانم أنه "بات شائعاً وصف العقاقير الطبية للمرضى من أجل مساعدتهم على تجاوز مشاكلهم". وميّزت بين "عوامل ذاتية، وأخرى موضوعية تؤدي إلى مشاكل الخوف والقلق والعدوانية لدى الأفراد وداخل الجماعات. فمن ناحية أولى، فإن بعض الأشخاص يمرون بتجارب مختلفة، تؤدي إلى خلق مشاكل نفسية لديهم، وتجعلهم عرضةً لطلب علاجات دوائية للتعايش مع مشاكلهم، ومن ناحية أخرى فإن أحداثاً كبرى تعرض لها المواطن اللبناني، جعلته عرضةً للاكتئاب والقلق الوجودي، بدءاً بالأزمة السياسية والفساد المستشري، مروراً بأزمة فقدان القدرة الشرائية، وصولاً إلى فترة الحجر المنزلي والتعليم عن بُعد التي زادت من مستويات العنف والمشاكل داخل الخلية الزوجية". وفي موازاة حالات الاكتئاب والاضطراب، ازدادت مستويات العنف الأسري والزوجي، وبحسب غانم، فإن "الفترة الماضية شهدت تزايداً في العُنف ضد الزوجات والأزواج الذكور أيضاً، وأخذ هذا العنف أشكالاً متعددة من الجسدي إلى اللفظي، والترهيب المعنوي".
وشرحت غانم أن مستوى التكيّف مع الواقع المستجد، ومقاومته، يتفاوت على ضوء البنية النفسية للأفراد والدعامات التي يمتلكونها، لذلك كان بديهياً وصف الأدوية للمرضى. ولاحظ الأطباء النفسيون ازدياد مستوى "الأمراض الموهومة"، التي أوضحت غانم أنها عبارة عن خوف الأفراد المستمر من الإصابة ببعض الأمراض، وتحديداً فيروس كورونا، ما يجعلهم يعانون من أعراض المرض كاملةً لشدة الضغط النفسي وحالة التوتر والاكتئاب الذي يعيشونه، لكنه حين يتوجه المريض لإجراء الفحص الطبي يكتشف أنه غير مُصاب وأنه كان "يتوهم" ذلك.
"الكورونا المخيفة"
وإلى جانب المشاكل السياسية والأزمات الاقتصادية وهشاشة الوضع الأمني، تحتل كورونا موقعاً متقدماً على قائمة التحديات التي تسبب المشاكل النفسية والاكتئاب لدى المواطن اللبناني. ويجزم الدكتور عبد الرحمن البزري (رئيس لجنة استقبال اللقاح في لبنان) في حديث لـ"اندبندنت عربية" أن "الوباء ضرب لبنان في أسوأ مرحلة يعيشها من اهتراء على كل المستويات، ولامبالاة أفرقاء السلطة بأوضاع المواطنين، وكذلك فإن الدولة مفلسة ومنهوبة والشباب عاطل عن العمل. وأسهمت هذه الأمور مجتمعة في زيادة الضغوط الاقتصادية والنفسية الناجمة عن البقاء في المنزل وإقفال المصالح من أجل التباعد".
وحذر البزري من انتشار ظاهرة تعاطي العقاقير وأدوية الاكتئاب المنتشرة بين اللبنانيين، مؤكداً أنه "يُمنع على سائر الأفراد سواء كانوا من مرضى كورونا أو غيرهم اللجوء إلى استعمال أدوية الاكتئاب والمهدئات من دون وصفة وإشراف طبي، لأن لذلك آثاراً سلبية كبيرة". وأمل أن تؤدي الأخبار الإيجابية عن لقاح "فايزر" إلى إشاعة نوع من الراحة في أوساط المواطنين، لافتاً إلى أن "للمواطن الحرية في أخذ اللقاح من عدمه، كما أنه سيكون مجانياً، وسيشمل كل مقيم على الأراضي اللبنانية سواء كان مواطناً أو لاجئاً بسبب المسؤولية المجتمعية والمصلحة الوطنية". وكشف البزري أن "اللبنانيون استفادوا من الوجود السوري للحصول على اللقاحات، لأن المجتمع الدولي يلحظ اللاجئ في لبنان كمحتاج".
ودعا البزري إلى "مصارحة الناس وتبسيط الطروح العلمية في موضوع جائحة كورونا من أجل التقليل من مستويات القلق والاكتئاب". وقال إن "البشرية لا تحتمل البقاء من أربع إلى ثماني سنوات في حياة مضطربة"، معبراً عن اعتقاده أن "الحل المؤقت هو باللقاح الذي يتوقَع وصوله في شهر فبراير (شباط) إلى لبنان"، لافتاً إلى أنه "من أجل الوصول إلى مستوى تلقيح حامٍ مجتمعياً، نحن بحاجة إلى نحو السنة ونصف السنة، فهي ليست مسحة سحرية، ولن تنتج مفعولها خلال أيام، وسيحتاج كل فرد للتلقيح مرتين" في رحلة الوصول إلى المناعة الجسدية والنفسية التي ستبدأ مع الأشخاص الموجودين في الخطوط الأمامية لمواجهة الوباء، ومن ثم كبار السن الذين يعانون من أمراض مزمنة، والأفراد الذين يديرون شؤون البلاد.
في المحصلة، تحول تعاطي الأدوية المهدئة إلى نمط حياة في لبنان. فالمواطن الذي حرم من كل متع الحياة، لم يبق له إلا حبوب مهدئة، تعطيه أملاً لحظياً كاذباً بـ"غدٍ أفضل".