Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أعشاب عائمة" ليوسيجورو أوزو يرسم صورة مجتمع ياباني منسي

كيف نحول الفشل ولو كان مزدوجاً إلى انفتاح على المستقبل؟

مشهد من فيلم "أعشاب عائمة" (موقع الفيلم)

ربما يكون من المنطقي إلى حد ما في عالم اليوم، أن يُنسى واحد من أهم أفلام المخرج الياباني يوسيجورو أوزو، حتى من قبل هواة السينما الأشد وفاء لسينما المؤلف. فهؤلاء قد يفضلون على "أعشاب عائمة" أفلاما لأوزو نفسه أكثر شهرة وبساطة، مثل "طعم الساكي" أو "رحلة إلى طوكيو"، ومع ذلك يرى كبار نقاد السينما ومؤرخوها أن "أعشاب عائمة" الذي يعود في نسخته الأحدث إلى عام 1959، بعدما كان مخرجه حققه مرة أولى عام 1934، ليس فقط واحداً من أهم أفلام هذا المخرج، بل واحداً من أهم عشرة أفلام في السينما العالمية. وهذا على الأقل رأي الناقد الراحل روجر ايبرت، الذي كان يذكرنا دائماً بأن هذا الفيلم "المنسي" لأوزو، هو بالتحديد العمل الذي يخطر في بال نقاد السينما حين يتلمسون لدى مخرجين معاصرين وحداثيين يتراوحون بين جيم جارموش وايليا سليمان، تلك الابتكارات الأسلوبية البديعة، أو لدى سينمائي كجيمس غراي، عمقاً في موضوعات تبدو في غاية البساطة أول الأمر. ومن هنا ما يمكننا قوله من أن أوزو يبدو دائماً، وأكثر قليلاً في "أعشاب عائمة"، مخرجاً يعيش من خلال أعمال الآخرين. من خلال التأثير الذي مارسته أعماله، لا سيما أساليبه في هذه الأعمال على أجيال متعاقبة من كبار السينمائيين.

فرادة داخل الاستثناء

في هذا السياق واضح أن لـ"أعشاب عائمة" مكانة فريدة، حتى في السياق الاستثنائي لسينما أوزو نفسه. بيد أن تلك المكانة لا تؤمن للفيلم تلك الشهرة التي يستحقها، ما يجعل من الضروري التذكير به بين الحين والآخر. وهو ما يفعله عادة سينمائيون كبار يعتبرون هذا الفيلم خلاصة لشاعرية أوزو ونزعته الإنسانية وابتكاراته الأسلوبية، كما يقول المخرج الأميركي جيمس مانغولد بين آخرين.

في نهاية الأمر يكاد "أعشاب عائمة" يكون مجرد حكاية عائلية تدور في أوساط مسرحية. لكن تلك الحكاية إذ تدور في فترة زمنية محددة، نراها تمتد إلى الماضي كما تنفتح على المستقبل وذلك من خلال شخصية مدير فرقة مسرحية يصل يوماً مع فرقته إلى منطقة نائية تقع في مدينة على جزيرة في ما يسمى بالبحر الداخلي، حيث ستقدم الفرقة عروض كابوكي تقليدية. لكننا سرعان ما نكتشف أن كوماجورو مدير الفرقة له هنا عشيقة سابقة تملك مطعماً. وهو حين يزورها يكتشف أن لهما ابناً يعمل الآن في دائرة البريد ولا يعرف شيئاً عن أبيه. وهكذا تتشابك الحبكة العائلية مع تقديم العروض، ويسفر كل ذلك عن فشل ذريع في المجالين. فلا العائلة تلتئم ولا العروض تقنع المتفرجين... إنهما معاً جزء من عالم يموت. ولكن، في المقابل يبقى الجمال التشكيلي لفيلم صوره أوزو بالألوان، على غير عادته، ويبقى إعادة إحياء مرحلة من التاريخ الياباني الحديث في عمل تتسلل متعته بالتدريج إلى عواطف المتفرج الذي سيلاحظ كيف أن أوزو يحول الفشل المزدوج إلى انفتاح على مستقبل ممكن رغم كل شيء!

الثلاثي الذي صنع عالمية السينما اليابانية

كان يوسيجورو أوزو واحداً من  ثلاثة صنعوا، أواسط القرن العشرين، سمعة السينما اليابانية في العالم، وبالتحديد لدى نخبة هواة السينما الجديين، إلى جانب كوروساوا، وميزوغوشي. وعلى الرغم من أن أوزو كان الأقل فولكلورية بين الثلاثة والأكثر "حداثة" بمعنى أن أفلامه العديدة التي حققها كانت تتماشى، إلى حد ما، مع ما كانت تذهب إليه نوعيات معينة من السينما الواقعية الأميركية، وربما الأوروبية أيضاً، فإنه اعتبر، على الدوام، الأكثر يابانية بين الثلاثة، وربما بين السينمائيين اليابانيين جميعاً.

وكان هذا هو السبب الذي جعل "اكتشافه" يتأخر في الغرب. ولكن منذ اللحظة التي اكتشفه فيها الأميركيون ثم البريطانيون، وبعدهم الفرنسيون صارت سينما أوزو السينما اليابانية المفضلة لدى الهواة، وصارت أفلامه علامات، وأساليبه السينمائية مثلاً يحتذى. ما يدفعنا إلى القول، بأن أوزو ربما كان هو المخرج الوحيد في العالم الذي كانت الحياة الكاملة لأفلامه، حياة تلت رحيله، حيث بدا واحداً من قلة من مخرجين تعمدوا، بالفعل، أن تكون لأفلامهم أكثر من حياة واحدة، حيث إنه في هذا المجال عرف بكونه قد أعاد في النصف الثاني من مسيرته، تحقيق عديد من الأفلام التي كان حققها خلال النصف الأول من تلك المسيرة. فإذ حققها في المرة الأولى صامتة، صارت في المرة الثانية ناطقة، وإن كانت بالأسود والأبيض أولاً، صارت بعد ذلك ملونة... الخ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صورة صادقة للمجتمع

واليوم، تعد أفلام مثل "طعم الساكي" و"رحلة إلى موسكو" و"ربيع متأخر" وبخاصة "أعشاب عائمة"، بعض أشهر كلاسيكيات السينما العالمية. وهو أمر لم يكن أوزو نفسه يتوقعه. فهو حين كان يحقق سينماه، طوال فترة بلغت ربع قرن من الزمن، كان همه الأساس أن يرسم، من وجهة نظره، صوراً صادقة لمجتمع بلاده، ولصراع الأجيال، وللعلاقة مع الموت ومع المدينة. وتلكم هي على أي حال المواضيع الرئيسة التي طغت على معظم أفلام أوزو.

ولد أوزو في طوكيو عام 1903. وحين أرسله أبوه، بائع الأسمدة في حي شعبي بطوكيو، إلى كيوتو لكي يتعلم، كان أول ما اكتشفه في تلك المدينة، الأفلام السينمائية التي كانت تعرض بانتظام. وهكذا قرر أن يصبح سينمائياً وراح يرسم خططه على ذلك الأساس، وتمكن أوائل العشرينات من أن يغوص في العمل السينمائي فصار مساعداً للمصور ثم مساعداً للمخرج حتى كان العام 1927، حين عُهد إليه تحقيق أول فيلم من إخراجه وكان فيلماً تاريخي الموضوع، وكان بإمكان هذا الفيلم أن يكون أول وآخر فيلم تاريخي في مسيرة أوزو، لكنه لم يكمله. ومن هنا ظلت مسيرته السينمائية مطبوعة بالمواضيع الاجتماعية، التي انبعثت أصلاً من تجاربه الحياتية نفسها، ما أضفى عليها طابعاً شخصياً لا شك فيه. وكان فيلماه الأولان الحقيقيان، "حصلت على دبلوم ولكن" (1929) و"حياة موظف مكتب" (1930)، صامتين، ولكن خلف صورهما عرف أوزو كيف يلقي نظرة قاسية وناقدة على المجتمع الذي كان يعيش في ذلك الحين واحدة من أهم فتراته الانتقالية. وقد عرف أوزو كيف يجعل من سينماه صورة لتلك الفترة، وتألفت تلك السينما في ذلك الحين من أفلام تتحدث، في معظمها عن بؤس طبقة الموظفين، وحال العاطلين من العمل، وكيف أن أوضاع مثل هؤلاء الناس تقود إلى أزمة في القيم الأخلاقية في المجتمع. وهو واصل مساءلته للمجتمع بعد ذلك عبر أفلام جعل شخصياتها الرئيسة شخصيات أطفال، كما في فيلمه الشهير "ولدت ولكن" (1932)، الذي كان لا يزال فيه خاضعاً لتأثير نوع معين من السينما الاجتماعية الأميركية.

ابتعاد عن تأثيرات الغرب

غير أنه سرعان ما بدأ يخوض السينما الناطقة، ليبدأ بعدها بالتخلي عن تأثيرات السينما الغربية عليه، في الوقت الذي راح يبتدع لغة سينمائية خاصة به، ظلت مواكبة لأفلامه حتى أيامه الأخيرة. أما الجديد لديه في تلك الفترة (أواسط سنوات الثلاثين) فكان انتقاله من سينما المكاتب والموظفين، إلى سينما القيم العائلية وصراع الأجيال. وهذا الموضوع سيكون على أي حال موضوعه الأثير من الآن وصاعداً، وبخاصة منذ فيلمه الناطق الأول "الابن الوحيد" (1936). ولم يتوقـف بعد ذلك عن تحقيق أفلامه، وبكثرة، حيث كان يحدث له أحياناً أن يحقق فيلمين أو اكثر في العام الواحد. وكان معظم ما يحققه، حتى من دون أن يلقى نجاحاً تجارياً كبيراً، يتحول إلى عمل مفضل لدى النقاد. وهكذا على التوالي كانت أفلامه الكبرى، "ربيع متأخر" (1949) الذي شكل مرحلة نهوضه، وسيعيد تحقيقه لاحقاً، ثم "بداية الصيف" (1951) فـ"رحلة إلى طوكيو" (1953) حيث بدأت موضوعات الموت تطغى على تعبيره، فيما راحت تترسخ لغته السينمائية التي قلدها كثيرون منذ ذلك الحين، و"غروب في طوكيو" الذي كان واحداً من أكثر أفلامه تشاؤماً، ثم "خريف عائلة كوهايا غاوا" وصولاً بالطبع إلى "طعم الساكي" (1962) و"أعشاب عائمة" الذي سيظل أعمق وأجمل أفلامه، ولو لأنه يختصر في حد ذاته كل عوالمه ومواضيعه وأساليبه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة