حسرات مريرة تلك التي توالت على عائلة الضحية ناصر البوز في الضفة الغربية ولا تزال، فبعد أن سلمت إسرائيل جثمانه المحتجز لديها منذ نصف قرن عام 2012 مع 90 جثماناً أخرى، فوجئت العائلة بأن الرفاة المسلمة إليهم لا تعود له، وقطعت الشك باليقين بعد إجرائها فحص الحمض النووي (DNA ) الذي أكد أن العظام لضحية أخرى مجهولِة الهوية وليست للبوز، ومنذ ذلك الحين، لا تنفك العائلة عن مطالبة إسرائيل والجهات الفلسطينية المختصة، بمعرفة مصير ابنها، الذي تعتقد حتى اللحظة، أنه يقبع داخل زنزانة معتمة في معتقل سري لإسرائيل.
مقابر الأرقام
صبحي البوز شقيق البوز قال، "ما إن فتحنا الصندوق لإلقاء نظرة الوداع عليه، حتى وجدنا رجلاً في الأربعينات من العمر، وأخي ناصر حين اختفت آثاره عام 1989 لم يكن يتجاوز الـ 23 سنة، كما أن الرجل كان يرتدي بنطالاً كبير الحجم ليس بمقاس أخي آنذاك، وهذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها إسرائيل باللعب بمشاعر عائلات الضحايا نتيجة الإهمال والسياسة المقصودة، فما حدث معنا كعائلة حدث مع عائلة فلسطينية أخرى".
مئات العائلات الفلسطينية تكابد كما عائلة البوز مرارة الحرمان واللوعة، فإسرائيل تحتجز منذ عام 2015 حتى اليوم، جثامين 66 فلسطينياً بشكل غير قانوني داخل الثلاجات، إضافة إلى وجود 253 جثماناً في ما يعرف بمقابر الأرقام (اسم رمزي لمجموعة من المقابر أنشأتها إسرائيل لدفن جثث الضحايا والأسرى) قتلتهم في ظروف مختلفة منذ عام 1967، وهناك 68 مفقوداً لا تعرف عوائلهم إن كانوا أموتاً أم أحياء.
الحمض النووي
مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، طالب النيابة العسكرية للمحكمة العليا الإسرائيلية، ولأول مرة بإقامة قاعدة بيانات للحمض النووي، وأخذ عينات من أسر الضحايا للمساعدة في التعرف إلى الجثامين، استخلاصاً للعبر من الحالات السابقة التي تابعها المركز منذ عام 2008، مع المطالبةِ المتكررة بتحرير الجثامين، لما في ذلك من مخالفة صارخة للقوانين والأعراف الدولية، لا سيما بعدما أجازت المحكمة العليا الإسرائيلية مبدأ احتجاز الجثامين كأوراق للمساومات السياسية، ما يعني التجارة بجثامين الضحايا كسلوك غير إنساني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عصام العاروري مدير مركز القدس يقول، "بعد سنوات طويلة ومريرة من المطالبات القانونية بكشف ملف الضحايا والأسرى المحتجزين والمفقودين في فلسطين، استطعنا إحراز تقدمٍ نوعي بسحبِ اعتراف إسرائيلي موثق من النيابة العسكرية بأماكن دفن 123جثة تعود معظمها لسبعينيات القرن الماضي، بعد أن كانت النيابة الإسرائيلية بداية الإجراءات عام 2016، قد أبلغت المحكمة بعدم قدرتها على تحديد مكان الجثامين المشار إليها، لعدمِ التوثيق، ودفن الجثامين أحياناً بواسطة شركات خاصة من دون حفظ وثائق الدفن".
محكمة جنائية
أضاف العاروري، "عشرات المذكرات والرسائل التي تم إرسالها منذ سنوات لجهات دولية وحقوقية عالمية، وعلى رأسها الصليب الأحمر الدولي والأمم المتحدة، بضرورة وقف سياسة إسرائيل المجحفة في تعذيبِ أهالي الضحايا واحتجازهم في مقابر الأرقام والثلاجات، ولا ردود حتى اليوم، ففي الوقتِ الذي يرفض فيه منسق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط نيكولاي ميلادينوف السماع لقضيتنا (ملف احتجاز الجثامين لدى إسرائيل)، كان قد التقى بعائلات أسرى وقتلى إسرائيليين، لذلك سيتوجه المركز مع عدد من المؤسسات الحقوقية ذات العلاقة، بالشراكة مع وزارة العدل الفلسطينية، ومجلس رئاسة الوزراء، ووزارة الخارجية، برفعِ قضايا فردية لأهالي الضحايا، لدى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي".
قرارات غانتس
وصادق بداية سبتمبر(أيلول) المنصرم مجلس "الكابينت" الإسرائيلي الأمني السياسي المصغر، على اقتراح وزير الأمن بيني غانتس، الذي يقضي بعدم تسليم جثامين الفلسطينيين بشكل نهائي؛ حتى لو لم يكونوا منتمين لحركة "حماس". وبحسب صحيفة "يسرائيل هيوم" العبرية قال غانتس في تصريح "منذُ دخولي وزارة الجيش أمرت بحزمة ردع واسعة وجهت فيها بعدم الإفراج عن الجثامين، والإعلان عن أموال المنظمات والإستيلاء عليها، وتكثيف الهجمات والردود على أي خرق في أي جبهة"
سرقة أعضاء
القناة الثانية الإسرائيلية كانت نشرت في وقت سابق تقريراً مصوراً يظهر شهادة مسجلة لمدير معهد الطب العدلي الإسرائيلي يهودا هيس، اعترف فيه بأنهم في التسعينيات، كانوا ينتزعون من كل جثمانٍ يصل للمشرحة رقعاً جلدية تستخدم لاحقاً في عمليات جراحيةٍ للجنود الإسرائيليين، إضافة لانتزاع قرنيات من دون إذن مسبق من عائلات الضحايا.
وكشفت الطبيبة الإسرائيلية مئيرة فايس في كتابها "على جثثهم الميتة" عام 2014 عن سرقة أعضاء من جثث الفلسطينيين وإرسالها إلى بنك الأعضاء، من أجل زرعها في المرضى الإسرائيليين أو إلى كليات الطب لإجراء الأبحاث.
ولفتت مديرة الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الضحايا سلوى حماد إلى أنه "عندما تحتجز إسرائيل جثامين الشهداء لفترات طويلة داخل الثلاجات يصبح من الصعب معرفة هل سرقت الأعضاء أم لا، فهي تحتاج لثلاثة أيامٍ تقريباً حتى تتفكك، وقد تتعفن أجزاء من الجثمان جراء ذلك، كما أن السلطات الإسرائيلية تَفرض شروطاً قاسية على ذوي الضحايا تعقد من عملية التحقيق، كاشتراط الدفن فور التسليم من دون جنازة، وعدم فتحِ الجثمان لرؤيته، حتى أن بعض الأهالي وردتهم تهديدات هاتفية من الاستخبارات الإسرائيلية بِعدم الذهابِ للتشريح، وترفض عائلات كثيرة أن تُشرّح جثث أبنائها "لأسباب دينية"، لذلك نحتاج الى لجنة قانونية وطبية مختصة للإشراف على تشريح الجثامين وإثبات سرقة الأعضاء منها، وهو ما قد يمكننا من ملاحقة إسرائيل قانونياً بحسب اتفاقية جنيف".
جرائم ضد الإنسانية
وفوق كل قبرٍ من "مقابر الأرقام" لوحة معدنية صغيرة تحمل رقماً، تحتفظ به جهات أمنية إسرائيلية يقود لملف حول اسم الضحية ورقمها وتاريخ مقتلها، وعلى عكس ما تفرضه التعليمات العسكرية الإسرائيلية، قد يدفن بعض الجثامين من دون تصوير أو استصدار أمر دفن، ومن دون أن ترفق معه بطاقة حديدية، ما أدى لصعوبات في التعرف إلى جثامين بعض الضحايا لدى استخراجها بعد سنوات طويلة.
الخبير في القانون الدولي حنا عيسى قال، "المادة 120 من اتفاقية جنيف الثالثة والمادة 130 من اتفاقية جنيف الرابعة، خصوصاً المادة 34 من البروتوكول الأول لسنة 1977 الملحق باتفاقيات جنيف الأربع، أن احتجاز الجثامين انتهاك للإعلان العالمي للأمم المتحدة حول الاختفاء القسري، الذي يعتبر جريمة ضد الإنسانية، ويدان بوصفه إنكاراً لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة، وانتهاكاً خطيراً وصارخاً لحقوقِ الإنسان والحريات الأساسية التي وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعلى الرغم من النصوص القانونية الملزمة في القانون الإنساني الدولي، إلا أن الحكومة الإسرائيلية وممارساتها على أرض الواقع، تظهر أنها تتنكر بشكل واضح لهذه المبادئ والالتزامات".
وخلال السنوات الأخيرة تم الكشف عن أربع مقابر تحتجز فيها إسرائيل تلك الجثامين، إحداها في منطقة عسكرية عند ملتقى الحدود الإسرائيلية- السورية- اللبنانية، والثانية في شمال مدينة طبريا (شمال فلسطين)، واثنتان بمناطق عسكرية في غور الأردن.