Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سيدة راقصات الباليه في العالم "مناضلة يسارية" رغم أنفها

مارغو فونتان ذكريات مدهشة ورقصة وداع قبل الرحيل القاسي

مارغو فونتان تؤدي عرضا راقصا مع الفنان الروسي رودولف نورييف في دبلن عام 1975 (غيتي)

كان الحدث الكبير عام 1990 في "كوفنت غاردن" إحدى أشهر قاعات الاستعراض الكلاسيكي في العالم كله، ونقطة العبور الإلزامية لأي فنان أوبرا أو موسيقى أو باليه يريد أن يقترب من عالم الخلود. في ليلة من ليالي ذلك العام، وفي حضور العائلة المالكة البريطانية اعتلت خشبة المسرح لترقص رقصة الوداع امرأة كان من الصعب على أحد أن يخمنّ أنها بلغت في ذلك العام الستين من عمرها، امرأة كان لاسمها نفسه سحر لا يقاوَم. فرشاقة جسدها وأناقة حركاتها وابتسامتها الطفلة وعشقها لفنها: رقص البالية، كل هذا كان يشي بأن الجمهور إنما يشاهد فتاة في العشرينات من عمرها. وخلال تأديتها رقصة الوداع تلك، كان قلة من الناس الذين أفاقوا بين لحظة وأخرى من انبهارهم بالرقص ليتذكروا أنهم هنا إنما يجلسون في مواجهة حقيقة بالغة المرارة. ولم تكن تلك الحقيقة تنحصر في العمر المتقدم الذي بلغته يومها تلك الطفلة الرشيقة، بل تمتد لتشمل الظرف نفسه، فإذا كانت السيدة ترقص رقصة الوداع فما هذا إلا لأنها اعتباراً من تلك الليلة سوف تترك الرقص إلى الأبد، لا لأنها سئمته، بل لأنها مصابة بسرطان قاتل سوف يقضي عليها بعد شهور. وإضافة إلى ذلك كان ما يزيد المأساة حدة أن تلك السيدة نفسها كانت منذ سنوات قد خفّفت، على أي حال، من اهتمامها بالرقص، لتنصرف إلى العناية بزوجها الديبلوماسي البانامي، روبرتو آرياس، الذي عانى خلال محاولة لاغتياله إصابة أقعدته إلى الأبد.

ولنعد سنوات إلى الوراء

الحال أننا هنا، قبل أن نتابع "مشهد الوداع" لا بد من التوقف عند لحظة مريرة أخرى من حياة مارغو تعود سنوات عديدة إلى الوراء. حينها كانت واحدة من أكبر راقصات الباليه في العالم، ولم يكن من المعروف عنها أي نشاط سياسي، كرست حياتها للرقص وللموسيقى. ولئن كان اسمها ارتبط باسم الراقص الروسي المنشق نورييف في تلك السنوات، فإنها مطلقاً لم تشاطره حتى مواقفه الاحتجاجية على ما كان يقوله من "تعرض الفنون للقمع على أيدي السلطات السوفياتية"، ما دعاه يومها للانشقاق والرحيل. "لا يمين ولا يسار والرقص للجميع" هذا ما كان يمكن أن يكون عليه شعار مارغو فونتان ولسان حالها حتى ذلك الحين. مع هذا، فإن هذه الساحرة التي كانت ذات مكانة كبرى في صحافة العالم ولدى هواة فن الباليه، تعرضت ذات يوم من عام 1959 لمغامرة ما كان يمكنها أن تتوقع تعرضها لمثلها. مغامرة سياسية، جعلت اسمها يرتبط بأسماء الثوار، تحديداً الكوبيين. صحيح إن مارغو بعدما نجت وكادت تودع السجن لتقضي على حريتها ومستقبلها، صرحت أن في الأمر سوء تفاهم لا يد لها فيه، غير أن ذلك لم يمنع المناضلين اليساريين، في العالم أجمع، من أن ينظروا إليها بشيء من الإكبار منذ ذلك الحين.

أما السبب الرئيسي في ذلك، هو زوجها نفسه الدكتور روبرتو آرياس، الذي كان قبل ذلك يشغل منصب سفير بلده باناما في لندن، ثم انشق محتجاً على ممارسات قمعية وترك منصبه. في ذلك الحين قالت مارغو إنها لا تعرف شيئاً عن نشاطات سياسية ثورية كانت سلطات باناما تقول إن زوجها كان يمارسها، تحديداً بالتواطؤ مع ثوار كاسترو وغيفارا الكوبيين الذين وصلوا إلى السلطة بعد انقلابهم على الدكتاتور باتيستا المدعوم من الأميركيين، في ذلك الحين.

مغامرة لم تكن في الحسبان

حدثت "مغامرة" مارغو فونتان التي أحاطتها وسمعتها الفنية وحريتها الشخصية بالخطر، حين كانت راقصة كوفنت غاردن اللندنية الشهيرة تمر بباناما، فإذا بالسلطات هناك تعتقلها وتودعها السجن والتهمة: التواطؤ مع زوجها آرياس الذي كان، بحسب الشرطة يخطط لانقلاب يطيح السلطات، متواطئاً مع الكوبيين. وكانت زيارتها لباناما سيتي، في ذلك اليوم بالذات دليلاً ضدها، إذ، تساءلت الشرطة، ما الذي جاءت هذه الراقصة الكبيرة تفعله، هي التي لا يتسع وقتها عادة لتلك الزيارات الخاطفة؟. قالت الشرطة إن زوجها الدكتور آرياس، كان قد شحن، في الأسبوع الفائت، قارباً بكميات كبيرة من الأسلحة بينها بنادق رشاشة وقنابل ومدافع صغيرة ومسدسات، وسعى لإيصال المركب إلى السواحل البانامية. ورأت الشرطة أن آرياس كان يستخدم زوجته الفنانة المشهورة غطاء لذلك. أما هي خلال التحقيق معها، تمكنت - بحسب قولها لاحقاً حين أطلق سراحها ووصلت إلى مطار نيويورك بعد يومين -، من إقناع الشرطة بأن لا علاقة لها بالأمر لا من قريب ولا من بعيد، من دون أن تتمكن - بالطبع - من إقناعها بأن زوجها أيضاً لا يمكن أن يكون بأي حال من المخططين لأي انقلاب.

الذين عرفوا مارغو فونتين منذ ظهورها القوي في حياة فن الباليه على الصعيد العالمي منذ أواسط سنوات الأربعين، وعرفوا عنها تمسكها بالفن وإقبالها على الحياة، ما كان بإمكانهم أن يتصوروا أنها يمكن أن تكون قد كذبت يومها تماماً وأنهم بعد ذلك بسنوات طويلة وفي ليلة الوداع التي أشرنا إليها سيدركون أن نهايتها سوف تكون مأسوية إلى ذلك الحد. بل إن الكثيرين من الذين كان فن مارغو فونتين الراقص قد ملأهم سعادة وحباً طوال عشرات السنين ما كان بإمكانهم أن يصدقوا أن إصابتها بسرطان قاتل صحيح. كانوا يعتقدون أن الأمر مزحة. لكن حين أتى يوم 21 شباط (فبراير) 1991، وقضى السرطان على مارغو فونتين بالفعل، زال كل وهم وأمل.

بريطانية تنافس الروس

كان الإنجليز بالطبع الأكثر إحساساً بالخسارة، لأن مارغو كانت مواطنتهم التي عرفت كيف تجعل لنفسها مكانة أساسية وأولى في فن كان قبل ذلك وقفاً على الراقصات الروسيات، فمن آنا بافلوفا إلى مايا بلستسكايا، كان المشهور إن فن رقص الباليه الكلاسيكي صار في القرن العشرين فناً روسياً. أما الأميركيون فكانت لهم الريادة والزعامة في الرقص الحديث والمعاصر.

حين برزت مارغو فونتين (واسمها الأصلي بيغي هوكمان) وزاحمت الروسيات على العرش، كان الإنجليز يشعرون بأنهم حققوا ثأراً كبيراً، حتى ولو كان فرحهم قد تضاءل بعد ذلك حين علموا أن مارغو تتلمذت، في صباها الباكر على الراقصين الروسيين الكبيرين غونتشاروف وآستا فييغا، قبل أن تلتحق بفريق "سادلرز ويلز باليه" البريطاني. وكان أول ظهور عالمي كبير لمارغو فونتين، يوم قصدت باريس لتقدم عام 1954، باليه "الحسناء النائمة في الغابة"، وحصدت النجاح إلى درجة تذكّر المتفرجون أن بدايتها الحقيقية تعود إلى 1934، وإن الفرنسي رولان بيتي كان قد أخرج من بطولتها في 1948 باليه "آنسات الليل". غير إن العرض الباريسي الجديد كان نقطة الانطلاق الأولى والحقيقية لمارغو فونتين، التي ستعرفها خشبة هياكل بعلبك في لبنان في الستينيات حين جاءت لترقص وكانت أضحت نجمة الرقص الكبرى في العالم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عالمية أخيرة مع نورييف

أما العالمية الحقيقية فإنها تحققت لمارغو فونتين، مرة أخرى بفضل الروس، حين وصل الراقص الروسي الأشهر رودولف تورييف إلى لندن، هارباً من الاتحاد السوفياتي في 1962، لتتلقفه العاصمة البريطانية وتجمعه سريعاً بنجمتها البراقة مارغو فونتين، ليرقصا في تقديم لا ينسى لباليه "جيزيل". منذ تلك اللحظة صار الراقص الروسي والبريطانية ثنائياً يدور في شتى أنحاء العالم يعرض فنون الرقص، ويقدم أعظم أعمال الباليه. والحقيقة إن شراكة مارغو فونتين مع رودولف نورييف أعطتها حياة ثانية وأنستها أنها في ذلك الحين كانت تقترب من الخمسين من عمرها.

لكن كما إن لكل شيء نهاية، كذلك فإن للسعادة نهاية، إذ بالتدريج ومع حلول سنوات السبعين، بدأ الثنائي ينفصل، ورحل نورييف عن عالمنا مبقياً مارغو فونتين وحيدة. ثم كان القدر لها بالمرصاد، فإذا بمحاولة اغتيال زوجها تهزمها، فكرست له وقتها، ثم علمت بإصابتها بالسرطان وأن أيامها معدودة، فرقصت رقصة الوداع، وانتظرت عاماً ورحلت.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة