Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بعد عقود على تحريمها... جمعية فلسفة في السعودية

ترخيص الدولة نشاطها اعتبر علامة تجاوز "حقبة الانغلاق والفكاك من سلطتها"

إحدى مناسبات معرض الرياض الدولي للكتاب، الذي شهد في السنوات الماضية الجدل حول كتب فلسفية وأخرى ابداعية. (واس)

وصفت أوساط فكرية في السعودية إنشاء أول جمعية تعنى بالشأن الفلسفي في الرياض أخيراً، بأنه خطوة جريئة شكلت علامة فارقة على كسر سلطة الانغلاق من الجذور في البلاد التي لا تزال عشرات الجامعات فيها حتى الآن خالية من الكليات والأقسام الفلسفية.

وقال رئيس مجلس إدارة الجمعية وأبرز مؤسسيها، عبد الله المطيري، على سبيل الحفاوة "أزف لكم خبر تأسيس جمعية الفلسفة كجمعية أهلية غير ربحية تعنى بالشأن الفلسفي في المملكة العربية السعودية، وتسعى لتمكين المهتمات والمهتمين بالشأن الفلسفي من المشاركة المجتمعية العامة. وبهذا تصبح أول جمعية فلسفية في تاريخ المملكة العربية السعودية".

وأكد أن الكيان الجديد كان ثمرة توفير قيادة بلاده "فضاءً ثقافياً متفائلاً، وبنية قانونية حديثة جعلت من تأسيس هذه الجمعية أمراً ممكناً".

وفي اتصاله مع "اندبندنت عربية"، لم يرَ المطيري إطراءه للخطوة مبالغاً فيه، بل أكد أن المناسبة "حدث استثنائي بمقاييس عدة".

تحول من السرية إلى العلنية

وقال المطيري "إن تحريم الفلسفة كان علامة واضحة على حقبة تاريخية منغلقة من تاريخ المجتمع السعودي، وبالتالي فإن تأسيس جمعية الفلسفة يعتبر علامة على تجاوز تلك المرحلة والفكاك من سلطتها. ومن جهة أخرى ثقافية فإن الفلسفة لها رمزية معرفية باعتبار صلتها الوثيقة بباقي العلوم، خصوصاً العلوم الإنسانية واهتمامها بالمبادئ الخاصة بها، وبالتالي فإن غيابها يعتبر ملمحاً على حالة من الفراغ المعرفي والثقافي"، معتقداً أن "الطابع الاجتماعي الأهلي للجمعية يعطيها دلالة إضافية باعتبارها دعوة للمهتمات والمهتمين بالفلسفة في السعودية للخروج من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام المباشر للقاء مع أهل التخصص، وكل ذلك يجعل هذا الحدث استثنائياً".

 لكن مع هذا التفاؤل، فإن تأسيس المنبر الفلسفي الذي أعلنه الكاتب السعودي وأستاذ الفلسفة في جامعة الملك سعود، احتاج إلى تمهيد استغرق أكثر من 10 سنين، إذ بدأ هو وجمع من رفاقه الـ16 مؤسسي الجمعية في مغازلة صانع القرار السياسي والمجتمع بالنقاش الفلسفي منذ 2008 في منتدى محدود أطلقوا عليه "حلقة الرياض الفلسفية"، أخذت تتوسع شيئاً فشيئاً حتى بدا أن الأجواء مهيأة للترخيص للنشاط، ورد الاعتبار له، بعد أن دخلت البلاد في عهد جديد؛ سمته الانفتاح الثقافي والترفيهي.

وجاء الترخيص لأول مؤسسة فلسفية في البلد المحافظ، في سياق حملة إصلاحية شاملة أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حاصرت فيها الدولة التيار المتشدد، ولاحقت عناصره المتعاطفين مع تنظيم الإخوان المسلمين، وأخضعت عدداً منهم للمحاكمات، ونقضت التشريعات والتقاليد التي سايرت فيها الدولة في عقود مضت رغباتهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"كان التعايش مع التطرف خياراً مطروحاً"

وقال ولي العهد، أمس، عن حصيلة تلك التحولات، إنه "خلال سنة واحدة؛ استطعنا أن نقضي على مشروع أيديولوجي صنع على مدى 40 سنة"، لكنه أقر بأن تلك النتيجة ما كانت سهلة، فـ"ظاهرة التطرف استشرت بيننا، حتى وصلنا إلى مرحلة نهدف فيها في أفضل الأحوال إلى التعايش مع هذه الآفة؛ إذ لم يكن القضاء عليه خياراً مطروحاً من الأساس، ولا السيطرة عليها أمراً وارداً".

وأضاف "منذ أول عملية إرهابية في 1996، وبشكل متزايد حتى عام 2017، بل إنه بين عامي 2012 و2017 وصل هؤلاء الإرهابيون إلى داخل المقار الأمنية نفسها، ولكن منذ إعادة هيكلة وزارة الداخلية وإصلاح القطاع الأمني منتصف عام 2017، انخفض عدد العمليات الإرهابية في السعودية حتى الـ(صفر) تقريباً لمعدل العمليات الناجحة، باستثناء محاولات فردية معدودة"، وذلك بسبب ما وصفه بـ"سياسة التحول إلى العمل الاستباقي".

وكانت السعودية قد أعلنت قبل نحو عام العمل على تدريس مادة "الفلسفة" في مناهج التعليم، قبل أن تمنح وزارة الإعلام إحدى المؤسسات المحلية (معنى) ترخيصاً  لتوزيع ترجمة مجلة "فيلسوف الجديد"، المختصة في المجال، وهي خطوات كان أقل منها يثير ضغينة المحافظين السعوديين والمتشددين المهيمنين سابقاً على منابر الخطابة في البلاد التي تضم نحو 12 ألف مسجد تقام فيه خطبة الجمعة كل أسبوع.

إلا أن وزارة الشؤون الإسلامية في الدولة قامت هي الأخرى بقلب تلك المنابر لصالح التوجه الجديد، فبينما كان بعضها منبراً للتحريض على العنف وميداناً للخوض في السياسة، تم منعها من ذلك، فكانت خطبتها جمعة هذا الأسبوع على سبيل المثال، عن التنديد بـ"جماعة الإخوان المسلمين"، التي قالت هيئة كبار العلماء السعودية في بيان أصدرته أخيراً، إن نهجها مضاد لتعاليم الإسلام، بوصفه يحرض على "العنف والإرهاب، والتفرقة بين المسلمين، والوصول إلى الحكم".
 

وتنفي الجماعة التي صنفتها السعودية ومصر والإمارات والبحرين منذ 2014 منظمة إرهابية تلك التهم، لافتة في بيانات عدة إلى أن رسالتها دعوية وسلمية، لكن دولاً غربية، مثل فرنسا وأميركا وألمانيا؛ أصبحت تقترب من رؤية الدول الرباعية، بعد أن لاحظت تحريض عناصر من الجماعة في أوروبا على العنف، باسم الدفاع عن قيم الإسلام ورموزه أحياناً.

الفلسفة خطر على هذا الإيمان

عودة إلى إنشاء أول منبر فلسفي يؤسس للتفكير الحر في السعودية، فإن الأكاديمي المطيري في حديثه معنا، لفت إلى أن السياق الاجتماعي تجاوز التحكم في المشهد من جانب تيار واحد، والتوجس من الآراء الأخرى، وذلك في اعتقاده لأن "التوجس كان نتيجة الأحادية في الفكر والتعلق برؤى تاريخية من دون تقدير تغير الظروف والعوامل التاريخية. واليوم، الفلسفة جزء طبيعي من حياة المجتمعات من دون حالة ضرورية من الصراع بمنطق الأحادية انطلاقاً من تصورات تاريخية تنتمي لسياقات مختلفة. فالتنوع والاختلاف والتعامل مع التعددية باعتبارها مكسباً ثقافياً واجتماعياً علامة أساسية على حيوية المجتمعات، وفي عصرنا الحالي فإن المجتمعات المحظوظة هي من تجد طريقها لكل ذلك".

وبسؤالنا هل لا يزال خطر الفلسفة على الإيمان قائماً، وكيف يمكن إثبات العكس للجمهور؟ يرد قائلاً "قد تكون الفلسفة خطراً على إيمان ما، وقد تكون رافداً لإيمان آخر. فالعلاقة بين الفلسفة والإيمان ليست محسومة سلفاً، بل هي في حد ذاتها قضية فلسفية وموضع لخبرات وتجارب شخصية مختلفة ومتفاوتة، ولذا تجد في تاريخ الفلسفة فلاسفة مؤمنين، وفلاسفة غير مؤمنين. والمؤكد أن الفلسفة خطر على الإيمان المنغلق عن حقائق الفكر والحياة، والإيمان الأناني الذي يدفع الإنسان باتجاه العنف. أما الإيمان المفتوح على لا تناهي الوجود وآخرية الإنسان فهو إيمان على علاقة وثيقة مع الفلسفة ومدارسها".

وحول التشكيك في امتلاك التجربة الخليجية قدرات ثقافية تمكنها من الاستقلال بتجربتها الفلسفية، يوافق المطيري على أن هناك أيديويوجيات "دأبت على تقديم المجتمعات الخليجية في صور نمطية سلبية نتيجة لأهداف سياسية في المقام الأول، ولكنها تغلف رُؤاها أحياناً في أحكام ثقافية واجتماعية تعكس عدم الإنصاف وعدم المصداقية. هذه المشكلة تتعمق حين يتبنى بعض أفراد المجتمع السعودي هذه النظرة بوعي أو من دون وعي ليمارسوا نوعاً من الاتكالية البليدة على مصادر خارجية".

أما الذي يدعو للتفاؤل في اعتقاده فهو أن هناك وعياً قوياً ومتنامياً تجاه هذا الأمر، وأعتقد أن تجاوزه بالكامل لن يستغرق كثيراً من الوقت. وهناك اهتمام حقيقي بالفلسفة يتمثل في أنشطة فلسفية متعددة ودراسات وكتب وإقبال متزايد على دراسة الفلسفة أكاديمياً، سواء في البعثات في الخارج، أو حتى في الدبلومات المتوفرة إلكترونياً.

هل تجتمع الفلسفة والسلفية؟

مع ذلك، يذهب الأكاديمي الذي كافح سنوات عدة لخدمة الفكر الفلسفي في المجمل إلى أن الجمعية التي أسسها هو والمهتمون أمثاله، مع ضرورتها ليست كافية؛ إذ إن "هناك حاجة ماسة لفتح تخصصات في الفلسفة في الجامعات السعودية. أعتقد أن غياب الفلسفة عن الجامعات سيبقى علامة على نقص حاد في البيئة الفلسفية السعودية. ولدينا الآن اهتمام شعبي متزايد ومميز، ولدينا سوق لتوفير المواد الفلسفية، ولدينا الآن مع الجمعية فضاء رسمي أهلي غير ربحي، وبقي وجود أقسام متخصصة في الجامعات توفر رافداً أساسياً للحراك الفلسفي السعودي".

في سياق الجدل الثقافي حول تضاد الفلسفة مع البيئة السعودية السلفية، وفقاً لما يتردد، فإن الباحث شائع الوقيان الذي يقدم نفسه على أنه "فيلسوف سعودي"، ليس متأكداً من صحة المزاعم بأن "السلفية والفلسفة مثل الماء والنار ضدان لا يجتمعان"، بيد أن المهم في نظره هو التعايش المشترك بين الأفكار والأنشطة "فوجود التضاد في الأفكار لا يقتضي بالضرورة أن يقوم طرف بإقصاء طرف آخر".

ولأن الجمعية يراها المهتمون تحولاً ضخماً ليس كأي جمعية في قطاع ما، سألت الصحيفة الوقيان عما إذا كانت المؤسسة تضم كل الأطياف والأفكار والمذاهب في السعودية مثلما حرصت على التنوع الجغرافي، من كل أرجاء البلاد مترامية الأطراف؟ وأجاب "الفلسفة ليست مذهباً جماعياً، بل جهد عقلي فردي. وكل فيلسوف له موقفه وتصوراته عن الوجود والدين والمجتمع. ومن ناحية تاريخية فإن هناك فلاسفة مؤمنين مثل ابن رشد وتوما الأكويني وديكارت وباسكال، وهناك بالمقابل رجال دين متفلسفون، وهم من يطلق عليهم اللاهوتيين، أو علماء الكلام".

يأتي هذا في وقت يتهم فيه بعض المثقفين ذوي الميول المحافظة نظراءهم الليبراليين المنشغلين بالفلسفة بأنهم ينحازون للمدرسة الإلحادية في الفلسفة على حساب المقابلة لها والمناصرة للإيمان والداعمة لبراهينه، وخصوصاً بعد النقاش الذي أشعل أواره الناقد السعودي عبد الله الغذامي، وهو المؤلف لكتاب "العقل المؤمن/ العقل الملحد... كيف لعقول البشر أن تؤمن أو تلحد"، تلقى على أثره انتقادات عدة بترجيحه حجج الإلحاد على نظيرتها الإيمانية، لكنه نفى ذلك قطعاً، واتهم ناقديه بـ"الانتقائية".

 لكن الفلسفة حتى وإن جاءت في بيئة تعلي من شأن الإيمان والمذاهب، فإن المختصين فيها يرون أنها يجب أن تبقى على استقلال، فيقول المطيري رداً على سؤال اعتراف الفلسفة بالمذاهب والأديان من عدمه؛ إن الجواب "سيتوقف على المعنى المراد من كلمة الاعتراف الواردة في السؤال؛ فإن كان المقصود الاعتراف بوجود المذاهب والأديان فهذا أكيد بدليل دخول الفلسفة في حوار قديم مع مختلف المذاهب والأديان التي تبناها البشر، لكن إذا كان المقصود بالاعتراف هنا التسليم الدوغمائي بالمذاهب والأديان فالفلسفة لا تقبل بذلك، بل تدعو دائماً للتفكير النقدي والروح الحوارية مع جميع المذاهب والأديان".

 

المزيد من ثقافة