Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فلسفة المشارقة بحسب الفرنسي إميل برهييه

ما يلفتنا هو أن المبتغى الفكري للكاتب هو "وحدة العقل البشري واستمرارية تطوره"

الأشغال الفلسفية العربية ربطت الفكر الإغريقي بالإلهيات (غيتي)

من ناحية مبدئية، تشكل النصوص التي كتبها ونشرها مؤرخ الفلسفة الفرنسي إميل برهييه وتتعلق بفلسفة العصور الوسطى، جزءاً أساسياً من كتابه العمدة "تاريخ الفلسفة" الذي اشتغل عليه ونشره بأجزائه العديدة طوال سنوات كان من بينها النصف الثاني من العقد الثالث من القرن العشرين حين كان منتدباً للتدريس في مصر، ما سهل عليه الاطلاع على الفلسفة العربية والإسلامية، غير أن برهييه لم يكتف بذلك في ما يتعلق بذلك الجزء المهم من تاريخ الفلسفة، بل عاد في عام 1949 ليصدر كتاباً هو تطوير لنصوصه القديمة، مكرساً بأكمله لفلسفة العصور الوسطى إضافة إلى ملحق حول "الفلسفة الشرقية" كان أصدره على شكل ملحق مستقل لـ"تاريخ الفلسفة". كان واضحاً أن برهييه المفتون بذلك الجزء الذي انتقلت فيه الفلسفة من بعدها الديني إلى بعد ديني/ دنيوي إنما أراد أن يؤكد أن الفلاسفة المسلمين قد لعبوا دوراً أساسياً في عملية الانتقال تلك.

نهاية إهمال طويل

من هنا، لئن كان "تاريخ الفلسفة" يضم تلك النصوص التي تحلل فلسفة العصور الوسطى كما تجلت بين بعديها الغربي والشرقي وما جرى من اتصال وتفاعل بينهما، فإنه وجد لزاماً عليه أن يكرس ذلك الكتاب الإضافي محملاً إياه العديد من الإضافات التي ستبدو لمن يقرأها بإمعان وكأنها الجانب من تاريخ الفلسفة الذي يعني مؤرخها أكثر من أي جانب آخر.

وعلى هذا النحو، يروي لنا برهييه في الكتاب المضاف، كيف أن التاريخ الثقافي للعصور الوسطى قد بقي لزمن طويل مهملاً حتى أتى كتاب للألماني باومكر متزامناً مع أشغال إتيان غبلسون الفرنسي ليطبعا حيوية تلك الدراسات معلنين في طريقهما أهمية الدور الذي لعبته الفلسفة العربية/ الإسلامية في ما سيسميه "النهوض الفلسفي الغربي". وهنا إذا كان المؤرخ يحدد بداية تلك الفلسفة الغربية بالعصر الكارولنجي ونهضته الفكرية، فإنه يحكي لنا كيف أن القرنين التاسع والعاشر شهدا في الشرق يقظة عربية في هذا المجال تدين كثيراً لهارون الرشيد وحكمه العباسي. وهنا، يحلل برهييه تركيبية وتعقد ذلك العمل الذهني الذي ازدهر في بغداد وغيرها من الحواضر العربية الإسلامية ليدور من حول تأمل فلسفي إغريقي الأصل، كان همه الأساسي الوصول إلى نوع من المصالحة بين أفلاطون وأرسطو أي بين الإلهي والدنيوي، ولكن انطلاقاً من عناصر مشرقية خالصة- لا تخلو من علوم الفلك والتنجيم والتصوف... الخ، متعايشة مع نهضة في الترجمة شجعها الخليفة المأمون وتناولت بشكل خاص معظم المتن الأرسطي بين نصوص إغريقية متنوعة. وكان الفارق الأساسي هنا بالنسبة إلى برهييه أن الأشغال العربية ربطت الفكر الإغريقي بالإلهيات. ويؤكد برهييه أن تلك الأشغال التي سرعان ما وصلت إلى الغرب مؤثرة فيه، ستصل إلى أوجها في القرنين الحادي عشر والثاني عشر مع "الكندي، وابن سينا، والفارابي، والغزالي، وابن رشد"، وغيرهم من الذين كان العنوان الرئيس لعملهم الوحدة بين الأفكار والثقافات، بالاستناد إلى المدارس الفكرية التي تكاد جميعاً ترتبط بالأفلوطونية والأفلاطونية الحديثة.

وحدة العقل البشري

ولعل ما يلفتنا هنا هو أن برهييه ينطلق لاحقاً من هذا ليصل إلى مبتغاه الفكري: "وحدة العقل البشري، واستمرارية تطوره: ذلك هو اليقين القلبي الذي يفرض نفسه على المؤرخ حتى قبل أن يبدأ بحثه، ويضع بين يديه الخيط الذي سيمكنه من الاهتداء إلى بغيته، وما تفترضه هذه الأطروحة هو وجود نوع من معطى قبل- تاريخي، معطى سابق على التجربة يتمثل في طبيعة العقل، ومعرفة غير خاضعة على الإطلاق للطرائق التاريخية. إن تاريخ الفلسفة (استناداً إلى هذا) هو تاريخ تجليات الروح، وبصفته هذه يكتب له الانعتاق من ربقة ما هو احتمالي وعارض، وللمؤرخ أن يكون على ثقة من أنه واجد رابطة جدلية بين المذاهب التي تتعاقب".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والحقيقة أن هذه الفقرة التي يوردها برهييه في مقدمة سفره الضخم "تاريخ الفلسفة" تكاد وحدها تلخص ليس فحسب نظرته إلى تاريخ العمل العقلي الذي مارسه الإنسان منذ نشأته، وحل عند انبثاق الوعي التاريخي بماهيته باسم "فلسفة" بل كذلك فلسفة برهييه نفسه، هذا الذي لكثرة ما قرأ طلاب الفلسفة وهواتها، أجزاء كتابه الضخم في تاريخ الفلسفة، نسوا في أحيان كثيرة أنه، هو الآخر، فيلسوف، وأن كتاباته لأجزاء "تاريخ الفلسفة" كانت أمراً عارضاً في حياته التي امتلأت بالمجادلات والكتابات الفلسفية الضخمة. بل لعل برهييه لم يسع للتأريخ للفلسفة، إلا على سبيل رغبته في عرض فلسفته نفسها، كما قال من قبله المعلم الكبير هيغل، إذ كان برهييه من المؤمنين بأن الفلسفة وتاريخ الفلسفة إنما هما أمر واحد في النهاية. وأنه لئن كان ثمة من يؤرخ للفلسفة انطلاقاً من منطق سردي تقني بحت (أي حيادي وصفي بمعنى من المعاني)- من أمثال ويل ديورانت- فإن تواريخهم هذه لا تعدو كونها ملخصات مدرسية بدائية. أما التاريخ الضخم الذي وضعه برهييه فإنه، في حقيقته، عمل فلسفي خالص، ولو لمجرد أننا نكتشف ونحن نقرأه أن من كتبه كان في داخل اللعبة الفلسفية لا مجرد مراقب لها.

هذا الكتاب الضخم نقل إلى العربية خلال سنوات السبعين والثمانين، من قبل الباحث والكاتب جورج طرابيشي، وأسهم كثيراً في الشهرة التي يتمتع بها برهييه لدى القراء العرب، لكنها- كما حال برهييه دائماً- تظل شهرة ناقصة، لأن نقل الأجزاء السبعة من "تاريخ برهييه" لم يؤد إلى توضيح علاقة هذا الأخير بالفلسفة نفسها. ومع هذا كان برهييه، منذ بداياته حتى عام 1952، عنصراً فاعلاً في الحياة الفكرية في فرنسا، ناصر أفلوطين وغاص في أعمال شوبنهاور، وساجل الوجوديين، وناقش بلونديل، وترأس تحرير "المجلة الفلسفية"، وكان عضواً في العديد من الأكاديميات، ودرس الفلسفة وتاريخها في السوربون طوال ما يقرب من ثلاثين سنة، وأصدر- إلى موسوعته الفلسفية الضخمة- عدداً كبيراً من الكتب والدراسات.

حياة مفكر أصيل

ولد برهييه في أبريل (نيسان) 1876 في شرق فرنسا، ونال دراسة اعتيادية قادته للحصول، أوائل القرن العشرين، على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، وكان تخصصه في الفلسفة الأخلاقية، وكان في الثالثة والأربعين من عمره حين التحق بجامعة السوربون بكرسي للفلسفة، لن يتركه إلا غداة الحرب العالمية الثانية في عام 1946 حين كان بلغ السبعين من عمره وأحيل على التقاعد. وخلال تلك الفترة مارس برهييه تأثيراً كبيراً في الحياة الفكرية الفرنسية، من خلال كتبه ودراساته كما من خلال أسلوبه الحاذق في تعليم الفلسفة، وهو أسلوب شبهه كثيرون بأسلوب أرسطو في مدرسته الأثينية. مهما يكن فإن برهييه كان يكتفي في أكثر الأحيان بعرض آرائه الفلسفية وفلسفته، من خلال عرضه للفلاسفة الذين يتماشى فكره مع فكرهم، وهو كان في موقفه الفلسفي "أقرب إلى العقلانية الصوفية منه إلى العقلانية المجردة" بحسب دارسيه. وهو إلى هذا كان من دعاة التأمل الفلسفي الهادئ إذ كان يحلو له أن يقول في آخر أيامه إن "دعوة الفلسفة كانت ولا تزال إدخال الروية والتروي في التفكير". ومن هنا نراه دائماً وقد فضل الحكمة الصرف على الممارسة الفعالة، مما وصفه على تناقض مع أطروحة كارل ماركس الشهيرة إن "الفلاسفة لم يفعلوا حتى الآن أكثر من أنهم فسروا العالم، وما يتعين عليهم عمله إنما هو تغييره".

عبر برهييه عن فلسفته في العديد من الكتب، التي تكاد تكون اليوم منسية لحساب سفره الأضخم "تاريخ الفلسفة" (1927- 1932) أو من تلك الكتب "الفلسفة وماضيها" وأطروحته للدكتوراه حول "الأفكار الفلسفية والدينية لدى فيلون الإسكندري" (1901)، وكتابيه عن "شيلينغ" و"أفلوطين" و"تاريخ الفلسفة الألمانية" و"تحولات الفلسفة الفرنسية" و"القضايا الراهنة في الفلسفة" الذي كان آخر كتاب يصدر له على حياته. وفي 1944، وكتتويج لمساره الفلسفي، انتخب برهييه عضواً في أكاديمية العلوم الأخلاقية، وصار رئيساً للأكاديميين في 1950، وهو منصب ظل يشغله حتى وفاته في 1952. ولقد جمعت مقالاته المتفرقة بعد وفاته ونشرت في مجلد واحد أثار كثيراً من الأسئلة حول إذا ما كان يجب اعتباره فيلسوفاً أو مجرد مؤرخ للفلسفة.

المزيد من ثقافة