Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروائية ياسمينة صالح ترصد تحولات الجزائر وأزماتها منذ الاستقلال

"كحقل مليء بالفراشات" رواية تقارب التاريخ السياسي والاجتماعي برؤية نقدية

الناس الذين ثاروا على الاستعمار الفرنسي في الجزائر هم فقراء البلاد ومهمشوها (أ ب)

ليست رواية "كحقل مليء بالفراشات" للكاتبة الجزائرية ياسمينة صالح (دار فضاءات 2020) تأريخاً للثورة الجزائرية. ليست مديحاً ولا هجاء، إنها حكاية رجل وجد نفسه المتعالية كإقطاعي يتنقل من حقل إلى آخر، حيناً بإرادته وأحياناً من دون إرادته أو رغبته. رجل انتقل من إقطاعي كبير في بلدة "باراناس" بالجزائر إلى ثائر في الجبال، وجد نفسه مرغماً على عبور تلك المسافة. لم يكن مؤمناً بالثورة ولا معنياً بها، لكن الحياة لا تسير دائماً وفق مشيئتنا.

لكن أهم ما جاء في الرواية هو صوت الجيل اللاحق لجيل الثورة، وهو الجيل الذي رأيناه في الشوارع أخيراً، يطالب بإسقاط من سماهم بالديناصورات الذين تشبثوا بالسلطة، على الرغم من أن كثيراً منهم لم يكن من أبناء الثورة بحق، بل استغل الثورة حين أتيحت له الفرصة مثل سي السعيد الإقطاعي. والمفاجأة الكبرى أن ابنته التي رفضت دراسة الطب واختارت الفن التشكيلي، أصبحت واحدة من الإعلاميين الذين يهاجمون الطاقم المهترئ الممسك بجبهة التحرير، بوصفها القَدر الجزائري الذي لا ينبغي لأحد الخروج عليه، أو رفضه أو حتى انتقاده.

يتعامل سي السعيد الإقطاعي مع العمال الجزائريين بفظاظة وقسوة مفرطتين. لا يهتم بشؤون العمال في أرضه، ولا يفكر إلا في رفاهيته ورغباته، لكن نقطة التحول التي غيرت مسار حياته تمثلت في وصول عمر أستاذ المدرسة. لقد فوجئ سي السعيد بتصرفات عمر التي تنم عن معاملة الند للند، وهو ما جعل سي السعيد يتقبل الأمر لأنه لم يحدث من قبل مع أحد آخر سوى شيخ زاهد في البلدة.

إقطاعيون ومزارعون

لا تنطوي الرواية على أساليب غريبة أو جديدة، فالروائية اكتفت بتقنية الفلاش باك، حيث بدأت روايتها من نهايتها، لتعود لنا في فصول قصيرة إلى تاريخ الإقطاعي وجده، من دون أن نعرف كيف أصبح إقطاعياً. وهو أمر غالباً ما يحدث في الروايات، كأن الإقطاعي يولد إقطاعياً بجذور إقطاعية لا نعرف من غرسها في الأرض ذات يوم، وهذه تكاد تكون حقيقة في الرواية العربية. فمصائر الشخوص دائماً محددة ومعروفة باستثناء هؤلاء الأسياد، فمن يُدعى بلقاسم شبه الحيوان البري، يعمل عند سي السعيد، أو للدقة، يختاره سي السعيد للإفراط في قمع العمال الفقراء، والمزارعين البسطاء. لكن بلقاسم بقيام الثورة يلتحق بها، ويصبح نتيجة صفاته القوية وشجاعته أحد قادتها. وهذا الرجل الذي كان سي السعيد يأنف من رؤيته من قبل، يجد نفسه يوماً ما في أحضان بلقاسم في أحد الجبال، مرحباً به كمقاتل من أجل الجزائر.

وما يحدث لبلقاسم يحدث لآخرين، ومنهم سي السعيد نفسه لاحقاً، أي حين تصل الثورة إلى "براناس" نفسها من طريق المدرس عمر الذي دخل إلى عالم الإقطاعي من باب التعليم، مؤكداً أن كبار البلدة أكدوا له أن سي السعيد لن يخذله في تأمين المتطلبات الضرورية كي تتاح الفرصة لأبناء البلدة في التعلم.

حين تأتي ابنة سي السعيد من فرنسا في زيارة خاطفة، تبدأ حكايات الرجل في التداعي شيئاً فشيئاً. نكتشف أن خلافاً عميقاً نشب بين الاثنين منذ زمن. فإضافة إلى عدم اهتمامه بها إلا من قبيل إظهار قوته ونفوذه، فإنها مع نضجها تكتشف أن أباها وأمثاله امتطوا ثورة المليون شهيد، ليحققوا رغباتهم الذاتية. وحتى عندما وجدوا أنفسهم في الجبال مرغمين بسبب الظروف الموضوعية لا الذاتية، وتمكنوا من استنشاق شذى الثورة المليء بالحرية، ظل في دواخلهم ذلك الجانب الذاتي الذي قاد البلاد لاحقاً بعد التحرير إلى كوارث، ليس أقلها معدلات الفقر والجوع والقمع الذي ظلت السلطة الحاكمة منذ التحرير تمارسه من دون توقف.

يختلف التحرير عن البناء، وهذا يذكرنا بالبريطانيين الذين أسقطوا ونستون تشرشل في الانتخابات مباشرة بعد انتهاء الحرب الثانية التي انتصر فيها وكان بمثابة بطل. فالناس الذين ثاروا ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر هم فقراء الجزائر ومهمشوها، ومحبوها بلداً مستقلاً وحراً، يبيح لهم ولأبنائهم حياة هانئة وتعليماً جيداً وحرية، من دون سوط أو تعذيب أو مجازر. لكن ابنة سي السعيد اكتفت كغيرها من الشباب الجزائري أن على هؤلاء الزعماء أن ينقرضوا، وقد سمتهم بالديناصورات، وهي تعلم أن والدها واحد من كبرائهم، بدليل اختيار الحزب الحاكم له مرشحاً للانتخابات كرئيس مقبل للدولة.

تلعب المصادفات دورها في الرواية، وهو أمر طبيعي في الحياة التي تفاجئنا دائماً بما لا يخطر ببال أحد، فلا أحد لديه مفتاح لطرق يختارها دائماً بإرادته. فحين جاء عمر وتوطدت العلاقة بينه وبين سي السعيد، يتعرف الأخير إلى شقيقته التي تهز كيانه، مما يجعل العلاقة بينهما تتوطد أكثر بفضل رغبات سي السعيد هذه المرة. لا يمكن القول إن سي السيد أصبح يحب الأستاذ عمر، فالرجل الإقطاعي اعتاد التفوق والتعالي، لكن شغفه بالفتاة الجديدة جعله يتخلى عن بعض التعالي في علاقته بالأستاذ وشقيقته. هذا التنازل بدوره جعل الأستاذ عمر يقترب أكثر إلى أن فاجأه ذات يوم وبانفعال أنه يريد منه خدمة، لنكتشف أن عمر أراد إخفاء أحد الثوار في منزل الإقطاعي. وما بين رغبته في النأي بنفسه عن الثورة، ورغبته في الفتاة، ينحاز أخيراً إلى حبه الذي لم يكن يفكر يوماً أنه سيواجهه.

نحن أمام شخصية تتبع رغباتها، ورغباتها تقودها أحياناً إلى مناطق وعرة في الحياة. فلم يكن سي السعيد مقتنعاً بالثورة كالثوار الحقيقيين الذين يدركون أن الموت قريب منهم. لكنه حين يدهم الفرنسيون منزله يضطر في صحبة اثنين آخرين بينهما الرجل المختبئ للهرب، ليقوداه إلى جبال الثوار، ويتساوى هناك مع بلقاسم ورجال فقراء ومعدمين يسعون إلى تحرير البلاد، وهو الأمر الذي لم يكن مقتنعاً بإمكان حدوثه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مشاعر متناقضة

اعتاد سي السعيد على الفوز والظفر بما يريد، ولذلك فوجئ حين تعرف إلى قائده بأنه يحمل بين مقتنياته في الجبل صورة لجميلة، شقيقة الأستاذ عمر. هكذا تتنازع سي السعيد مشاعر متناقضة، فهو من جهة كان يحب قائده بوضوح، ويتوق للقاء جميلة من جهة أخرى، ويشعر الآن بأن قائده هو خصمه ورفيقه في الوقت نفسه. يقرر بينه وبين نفسه أن يظفر بجميلة، لكن قائده يموت في إحدى المعارك ويسلمه قبل موته مقتنياته، ويبلغ جميلة بالأمر.

تلوح بشائر التحرير، ويتم إرسال سي السعيد إلى الجزائر العاصمة، فيلتقي جميلة وشقيقها عمر الذي تسلم وظيفة إعلامية في الحزب. لم يكن سي السعيد يشعر بالانتصار، حتى بعد وفاة قائده رشيد، فالحياة لا تسير وفق مشيئتنا بالطبع. لكنه يود لو انتصر على قائده رشيد بطريقة أخرى، فهذا الانتصار لم يفتح له الطريق إلى قلب جميلة التي يموت أخوها عمر، وتظل وحيدة في ما بعد، فتقبل به زوجاً.

لا تخبرنا الرواية شيئاً عن حياتهما معاً، ويبدو أن تلك التفاصيل ليست مهمة إلا في مسألتين، إنجاب جميلة ابنتهما فاطمة وابنهما رشيد، ثم وفاتها بعد ولادة رشيد، وباستثناء ذلك لا نعرف كيف كانت العلاقة بينهما في المنزل، ولا نعرف إن كان سي السعيد يتعامل في المنزل معاملة المنتصر المظفر. ففي حبه جانب من الرغبة في التملك التي لا تفارق هؤلا الناس، إضافة إلى الشعور الدئم بالتفوق، فهو امتعض وشعر بالبغض تجاه ولده، لأن جميلة اختارت له اسم رشيد، الذي يموت شاباً لإهمال والده له، إذ يلجأ إلى المخدرات هرباً من كآبته وشعوره بالنبذ من قبل أبيه.

ثمة فارق كبير بين رشيد القائد والثائر بالصدفة سي السعيد، فالأول كان معنياً بتحرير بلاده انتصاراً لناسها الفقراء والمهمشين، والثاني ظل يبحث عن انتصارات ذاتية حتى وهو يواجه الموت. ولذلك لا نستغرب إصرار جميلة على تسمية ابنها باسم رشيد، لأنها كانت تعرف منذ التقت سي السعيد في بلدته، أن رشيداً صادق في مشاعره تجاهها وتجاه البلاد، على عكس الرجل الإقطاعي الذي "قتل" ولده إرضاء لغروره وتعاليه، واختارت ابنته المنفى لمحاربة أبيها ومن هم على شاكلته، لأن تحرير البلاد لم يكتمل، طالما ظل هو وأمثاله ممسكين بزمام الأمور.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة