Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تتعلم تركيا الدرس من ألمانيا؟

اعتبارات وحسابات تفسر السلوك التركي خارج التركيبة الثقافية

يسير أردوغان على خطى ألمانيا النازية بفتح جبهات عسكرية عدة مرة واحدة (أ ف ب)

يُدهَشُ البعض من عدد الجبهات المفتوحة التي تُواجه بها "تركيا أردوغان" عدداً كبيراً من الدول والقوى السياسية؛ إذ كانت مشتبكة في سوريا منذ مراحل اضطراباتها الأولى، ثم أصبح تدخلها مباشراً في العامين الماضيين، ولم يعد مقصوراً على دعم وتدريب ميليشيات معارِضة للنظام، بل أصبحت مشارِكة في احتلال جزء من الأراضي السورية، وفي القتال المباشر من وقت لآخر. وفي العراق تدخلت عسكرياً، على الرغم من الرفض العراقي والدولي، وشنّت عمليات عسكرية برية وجوية في المناطق الكردية.
أما في ليبيا فانتقلت أنقرة من تدخلات محدودة تقوم بها منذ سنوات، إلى تورط مباشر وواسع النطاق بعد توقيع اتفاقية التحالف الأمني مع رئيس حكومة الوفاق فايز السراج بداية هذا العام. كما خاصمت تركيا عدداً من الدول والأطراف، وليس القوى السياسية الليبية التي تحارب التطرف والميليشيات وحسب.
وفي شرق المتوسط تحركت سفنها في اعتداء مباشر على سيادة دولتَي اليونان وقبرص، ودخلت في مواجهة واضحة ليس فحسب مع هذين البلدين الجارين بالنسبة لها، وإنما أيضاً فرنسا والاتحاد الأوروبي كله، وغالباً لا يحظى تدخلها هذا برضا كامل من حليفتها واشنطن. ثم إذ بنا الآن نرى جبهة جديدة تتدخل فيها أنقرة مباشرة بين أذربيجان وأرمينيا.

العقل السياسي التركي

كل هذه التفاصيل معروفة ومحل متابعة من العالم، ويكرر البعض حقائق الاستراتيجية الشهيرة من أن المهارة والحصافة تقتضيان عدم الاندفاع في مواجهات عدة في وقت واحد، وأن اللاعب الماهر عادةً ما يؤخر إدارة صراعات محتملة، حتى ينتهي من المعارك الأكثر أولوية، وأنه حتى أقوى الإمبراطوريات كانت تلجأ إلى هذا النهج في إدارة معاركها الخارجية، كما أن أحد أسباب هزيمة ألمانيا النازية هو فتح كل الجبهات العسكرية مرة واحدة، كل هذا معروف، وربما يعرفه غالبية البشر، ولا يحتاج إلى محللين، ولا متخصصين بارزين لاكتشافه. ثمَّة إذاً شيء ما في العقل السياسي الذي يدير هذه الاشتباكات المتعددة مرة واحدة، ويتصور أنه يقايضها بعضها بعضاً، وسيخرج منها كلها منتصراً، أو على الأقل في بعضها.

وكنت دوماً من الذين يحذرون من الأفكار النمطية عن الثقافات الأخرى. والأفكار أو الصور النمطية هي بتعريف المفكر المصري الراحل السيد ياسين تعني ببساطة أن كل جماعة قومية تنمّي عبر فترة من الزمن بعض القوالب المتجمدة عن أعضاء القوميات الأخرى، وسواء أكان هذا في ما يتعلق بتجربتي الدبلوماسية الطويلة، أو في مجال اهتماماتي الأكاديمية المتعلقة بإدارة الصراع والمفاوضات الدولية، كنت أحذر الأجيال الجديدة، ونفسي قبلهم، من خطورة هذه الصور الذهنية الجامدة، التي قد تؤثر في رؤية وتصرفات الساسة والدبلوماسيين، وحتى رجال الأعمال في تعاملاتهم مع الثقافات الأخرى. ففي كثير من الأحوال تتّسم هذه الصور بالجمود، مثل وصف شعب ما بالبرود أو بضيق الأفق، إلخ، من نماذج معروفة بما يؤدي إلى إساءة التقدير والحسابات المغلوطة، التي تؤدي إلى أخطاء سلوكية أو تصرفات غير مناسبة.

ومع ذلك نشأت أجيال عربية وغير عربية عدة محمَّلة بصورة ذهنية معينة عن الشخصية التركية كشخصية متقلبة المزاج، حادّة الطباع، ومَن يراجع نماذج هذه الشخصية في السينما المصرية حتى سبعينيات القرن الماضي سيلاحظ بوضوح أن هذه كانت من مظاهر المفارقات المضحكة في كثير من الأعمال السينمائية، ولا يعنى هذا إنكار حالات التزاوج الواسعة النطاق بين مصريين وعرب آخرين وأتراك، وأن أجيالاً عدة جرى تمصيرها وتعريبها، واندمجت في مكونات المجتمعات العربية.

ولعلّي أتصور أن نسيجَ كثيرين من أبناء الطبقات والعائلات المصرية المتوسطة والعليا اختلط تاريخياً بالغزاة الأتراك، فانصهروا في مجتمعاتهم العربية، ولم يمنع ذلك انتشار مقولات شائعة عن بعض ذوي هذه الأصول التركية، التي لا أريد أن أشارك فيها كوني بالأساس معارضاً لهذه التصورات.

نازية ألمانيا وعدوانية تركيا

ويعود موقفي هذا إلى اقتناعي بأن الشخصية القومية تتطور وتتغير، ولو ببُطء، فمن غير الإنصاف تعميم الأفكار التي كانت تُطلَق على الألمان حتى الحرب العالمية الثانية، فمن المؤكد أن المجتمع الألماني الذي أفرز الأفكار المتطرفة النازية، واتهمه الكثيرون بالتعالي في مراحل تاريخية سابقة، أصبح من أكثر المجتمعات الأوروبية انفتاحاً وتسامياً اليوم، حتى لو كان البعض ما زال يُجادل في ذلك، فمن العدل وصف سياساته الخارجية بأنها ربما من أكثر الدول الكبرى مثالية. والمثالية هنا نسبية، فالكل يسعى وراء مصالحه في السياسة الخارجية، ولكن ألمانيا اليوم من أكثر المجتمعات نُضجاً في التعامل الدولي من دون أن نقبل كل مواقفها الخارجية، لكنها تستحق الاحترام من دون شك. ومعنى هذا أن التجربة النازية القاسية والقيود التي وضعها العالم في البداية تجاه المجتمع الألماني، ثم رفعها، أسفرت كلها عن هذا النموذج البارز في العالم الغربي وفي العالم كله.

غير أن النموذج التركي مُغاير، ففي الصدمة الأتاتوركية الأولى كان تغيير الهوية ومحاولة قطع الجذور مع الماضي، وكان موقف النخبة التركية هو اتهام العرب بخيانة تركيا، وليس محاسبة الذات، وهذه نقطة الخلاف الرئيسة مع الألمان الذين لاموا أنفسهم بدل أن يلوموا الآخرين، إلا أن العقل التركي فضّل لوم العرب، الذين ثاروا ضده انتقاماً من قرون من التعسف والقسوة العثمانية التي عومِلوا بها وسلبت عقولهم وثرواتهم بغلظة شديدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من هنا، حمل اتجاه تركيا صوب التغريب معه تباعد سياسي عن كل الذين ثاروا ضد الدولة العثمانية، سواء في الجزر اليونانية أولاً، أم العرب تالياً، ومن هنا جاءت العلاقات الوثيقة مع إسرائيل وحلف شمال الأطلسي، وكانت مكوّناً رئيساً في مواجهة الفكرة العربية في مرحلة المد القومي. واحتاجت أنقرة إلى وقت طويل لاستعادة قدر من التوازن. وشكّلت عودة الهوية الإسلامية إلى تركيا مع نهايات القرن الماضي فرصةً لتوهم البعض أن "تركيا جديدة" تعود لتتعايش مع هويتها، وتبدأ معالم مرحلة جديدة، تتجاوز كل الماضي بتعقيداته.

وبالفعل، استقبلنا كلنا بالترحيب الطرح التركي بصفر مشكلات مع الجيران، وكأن أنقرة أخيراً ستُعطي ظهرها لكل تاريخها المُلتبس، وستبدأ مرحلة جديدة من قبول الآخر، والتعامل مع عقد تاريخها بشكل أكثر أريحية ومنطقية.

المشروع السياسي للنظام التركي

لكن، مع الأسف كان عمر هذه المرحلة هو الأقصر في التاريخ التركي، فما هي إلا سنوات قليلة، حتى تجاوزت أنقرة كل الخطوط الحمراء، وكل منطق في علاقتها بكل جيرانها، فعلاقتها بجارتها إيران في غاية التعقيد بين التحالف وتقسيم النفوذ إلى التنافس الواضح في سوريا. كذلك علاقتها بروسيا تعطي نموذجاً غير مسبوق تاريخياً في تناقضاته بين التنافس والعداء والتحالف وتقسيم النفوذ، مدموجاً بتناقض استراتيجي على مستوى المشروع السياسي الذي تتبناه أنقرة، الخاص بتوظيف الدين في السياسة.

ومع ذلك توجد بعض الاعتبارات والحسابات التي تفسر السلوك التركي خارج التركيبة الثقافية، أولها المشروع السياسي الذي يتبناه النظام الحاكم، الذي ربط به مستقبله ونفوذه الإقليمي، وإدراك هذا النظام أن الساحة كلها ساحة مواجهة. كما هناك مسألة الغاز، إضافة إلى البُعد الخاص بانهيار النظام الإقليمي واستباحته من دول الهامش والدول الكبرى لإعادة رسم خريطة تحالفاته ومصالحه. كما توجد ضغوط سياسية واقتصادية داخلية يتصور أردوغان أنه بتصديرها إلى صراعات خارجية، سيستعيد شعبيته.

لكن، كل هذا يضيف إلى تعقد هذه التركيبة النفسية الثقافية التي لم تستطع أن تتفهم أن المصالح والحسابات الرشيدة تقتضي المواءمات، وتغليب المصالح على الاندفاعات. وأياً كان الأمر، فالقيادة التركية الحالية اختارت النهج الذي يحمل سمات تبعدها كثيراً عن نموذج ألمانيا، الذي كان يمكن أن تستفيد منه، وخلاصته أن الأخيرة بدأت مراجعة للذات فلم تنجح فقط، بل قدمت نموذجاً حضارياً بارزاً ومحل احترام. أما الثانية فلم تراجع لا سلوكها القديم، ولا الحديث، ولم تتعلم أن تراجع هذه الأخطاء والسياسات، ومن ثم ستكون حصيلة هذا كله إفساد ما أنجزه هذا المجتمع التركي عبر قرن من الزمان، وسيكون بحاجة إلى قيادة حكيمة تخرجه من ورطته الراهنة، التي ربما لا زالت فصولها مُمتدّة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل