Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أسئلة وألغاز لا تنتهي حول "وصيفات الشرف" لبيلاسكوث

الفنان يرسم عائلة الملك داخل البلاط فمن فيهما يكرّم الآخر؟

لوحة "وصيفات الشرف" لبيلاسكويث (موقع متحف البرادو في مدريد)

لم يكن المفكر الفرنسي الراحل قبل حوالى 40 عاماً من الآن، ميشال فوكو، ناقداً فنياً ولا مؤرخاً في مجال الثقافة. كان بالتحديد مفكراً ينطلق من قضية المعرفة والأوضاع السيكولوجية الملموسة ليقدّم مؤلفات بالغة الأهمية حول "تاريخ الجنون" و"تاريخ الجنس" وما إلى ذلك. بيد أنه كان يحدث له أن يدنو من الفن السينمائي أو من الأدب بين الحين والآخر، وذلك لكي يدعم نظرياته العلمية. ناهيك عن أنه كان ذواقة كبيراً في مجال الموسيقى واللغة. لكن هذا شيء وأن يبني واحداً من أهم كتبه وأشهرها، "الكلمات والأشياء"، إنطلاقاً من مقال أول في الكتاب يركز فيه على لوحة تشكيلية إسبانية تعود قروناً إلى الوراء وليس فيها لا جنس ولا جنون ولا عيادة ولا أبعاد سيكولوجية، فأمر يدعو إلى العجب بالطبع.

 مهما يكن من أمر لا بد أن نشير هنا أولاً إلى مسألتين أساسيتين تتعلقان بهذا الكتاب، أولهما أن فوكو يقول في مقدمة الكتاب نفسه إنه كتبه مستلهماً الكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لوي بورخيس، والثاني أن الفصل المخصص للوحة التي أشرنا إليها كان ترتيبه العاشر في الطبعات الأولى للكتاب، لكنه في الطبعات التالية تحول ترتيبه ليصبح الفصل الأول فيه، إضافة إلى أن الطبعات الشعبية اللاحقة من الكتاب نفسه سرعان ما حملت على الغلاف صورة للوحة نفسها. واللوحة هي "وصيفات الشرف" (لاس مينيناس) للرسام الإسباني دييغو بيلاسكوث (1599–1660)، التي كانت من آخر ما رسم، قبل أربع سنوات من رحيله عام 1660، ومن أكبر لوحاته حجماً: 318 سم عرضاً و267 سم ارتفاعاً، وهي معلقة اليوم في متحف برادو المدريدي حيث تعتبر من نجوم المتحف ومن اللوحات التي تُزار أكثر من غيرها فيه.

صفحات وصف تمهد للغز "الخفي"

من اللافت حقاً في الفصل الافتتاحي الذي يكرّسه ميشال فوكو للوحة، أننا نراه ينطلق منذ السطر الأول في وصف عملي لما نراه فيها، بدءاً من "الرسام المتراجع بعض الشيء عن اللوحة (التي يرسمها). وهو يلقي نظرة على الموديل الذي يرسمه وربما أنه يريد أن يضع لمسة أخيرة، بل وربما يكون الخط الأول في اللوحة لم يُرسم بعد...". وعلى هذا النحو يواصل فوكو وصفه لما يحدث على مدى ما يقرب من ست صفحات بأحرف صغيرة قبل أن يقول إن الأوان ربما آن لـ"الكشف" عن اسم الرسام ويكشف عنه.

طبعاً بالنسبة إلينا هنا ليس موضوعنا الكيفية التي تناول بها مفكر عالم من طينة فوكو هذا العمل الفني الكلاسيكي، ولكننا كذلك لن نتوقف عند النظرات التي ألقاها كبار فناني القرنين الأخيرين على هذه اللوحة نفسها وعلى عمل بيلاسكويث بصورة عامة، ومنهم بيكاسو الذي أعاد رسمها مرات ومرات، على طريقته في نوع من تحية للمعلم الكبير، أو إدوار مانيه الذي كان حين يتحدث عن المؤثرات الإسبانية في فنه يعني أساساً ما تركه بيلاسكويث في مخزونه الإبداعي، خصوصاً ما تركته هذه اللوحة نفسها لديه. ما يهمنا هنا تحديداً هو هذه اللوحة نفسها، متوقفين بشكل خاص على جانب روعتها الفنية، عند غرابتها ومن ثم عند الألغاز العديدة التي تحملها، والتي دائماً ما جعلت الناظرين إليها يطرحون حولها أسئلة لا تنتهي. وهذا بالإضافة إلى فرادة اللوحة من ناحية كونها تستبق حداثة الفنون البصرية المعاصرة، مقدّمة لنا ما يمكننا اعتباره اليوم "لوحة داخل اللوحة" بل أكثر من هذا: لوحة تصوّر كيفية اشتغال الفنان الكبير على لوحته. وكأننا نتحدث هنا في لغة معاصرة عن "الفيلم داخل الفيلم"، حيث يقوم الفنان بتصوير نفسه في بورتريه يصوره وهو يرسم بورتريه لنفسه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ألغاز وأسئلة

وهنا قبل أن يتحول هذا الكلام إلى نوع من كلمات متقاطعة حافلة بالألغاز المستعصية، سنبسّط الأمور إلى حدود معقولة، مذكرين بأن اللوحة تصور الفنان نفسه، بيلاسكويث، وهو منكب إما في محترفه أو على الأرجح في غرفة خُصّ بها في القصر الملكي، حيث كان قد بات يشغل وظيفة مستشار في بلاط الملك فيليب الرابع، منكب على رسم لوحة ضخمة من الصعب علينا أن نعرف ما الذي ستكونه في نهاية الأمر، وعما إذا كانت ونحن لا نراها إلا جزئياً ومن ناحيتها الخلفية، لوحة حقيقية من لوحاته أصلاً. بيد أننا لو تفرسنا في ما يبدو مرآة معلقة في الجدار الخلفي للوحة التي نحن في صدد الحديث عنها، سنرى فيها رجلاً وإمرأة منعكسين بشكل يوحي إما بأنهما مرسومان في اللوحة التي يشتغل الفنان عليها، وإما أنهما واقفان في مكان يرسمهما فيه، وبالتحديد مكاننا نحن المتفرجين. والحقيقة أن هذه الفرضية المزدوجة كانت ولا تزال هي الرائجة، ما يوحي بأن الفنان إنما يرسم بورتريه مزدوجاً لمن يُفترض أنهما الملك والملكة. ولكي تكتمل هذه الفرضية يمكن أن نتابع أن الأشخاص الآخرين في اللوحة هم من أفراد العائلة المالكة، ونعرف منهم الأميرة الإبنة مرغريت مع وصيفات لها يخدمنها فيما هي واقفة هنا تتفرج على الرسام، وهو يقوم بعمله من دون أن يغيب كلب الأميرة ومهرجتها القزمة وآخرون من أفراد الحاشية. ومن الواضح أن بيلاسكويث كان معتاداً في آخر سنوات حياته على أن يرسم ولديه زوار من كبار القوم يستضيفهم ولا يتوقف عن العمل في حضورهم.

العفوية المستحيلة

ومع ذلك كله، لا يبدو أن ثمة ما هو عفوي في المشهد كله. فالتركيب المسرحي ماثل هنا تماماً، بدءاً من ترتيب الحضور إلى جانب الرسام وصولاً إلى الوقفة التي يقفها الرسام. فمن الطبيعي أننا لسنا هنا أمام وقفة في حضرة كاميرا فوتوغرافية تلتقط مشهداً عفوياً تنتهي منه في دقائق، بل أمام عمل على لوحة زيتية يستغرق شهوراً، ما يدعو أول الأمر إلى التساؤل عن الكيفية التي تم بها ترتيب هذه اللوحة طوال أشهر العمل عليها. وهذا بالنسبة إلى "اللغز" الأول. بيد أن هذا يظل أمراً تقنياً بالنظر إلى أن لوحة "وصيفات الشرف" تحمل من الأسئلة ما يجعل ذلك اللغز أمراً ثانوياً. ففي المقام الأول تساءل المؤرخون والنقاد دائماً عن الكيفية التي تمكن بها الرسام من رسم بورتريه له داخل بورتريه له؟ ثم أهم من هذا: ما هو الغرض المتوخى من رسم هذه اللوحة؟ وفي أية ظروف رُسمت؟ وفي السياق نفسه، ما الذي يمكن أن يكونه موضوع اللوحة المرسومة والتي لا نراها؟ ومن الناحية التقنية أثار حيرة الباحثين دائماً مصدر الضوء الذي يعطي بريقاً لمناطق معينة في اللوحة، حاجباً إياه عن مناطق أخرى؟ فهنا على عكس رمبراندت أو كارافاجيو وإلى حد ما ديلاتور، ليس ثمة مصدر واضح للضوء وكأن الرسام يرسم في الهواء الطلق!

في النهاية إذا كنا قادرين على أن نوافق بعض الباحثين على أن اللوحة ليست سوى أسمى آيات التكريم يقدمها فنان لمليكه، أفلا يمكننا من ناحية مقابلة أن نقول: لعلّ قبول الملك بتبني اللوحة يمثل كذلك أرفع تكريم يقدمه حاكم لفنان تبناه وجعله رسامه الخاص في نهاية حياته؟

الفن وروعة الغموض

كل هذا ممكن ومنطقي، لكنه سيبقى في الحقيقة لغزاً لم يسع ميشال فوكو على أية حال لحلّه، بل كان بالنسبة إليه جزءاً من المنطق الخفي للفن نفسه، ذلك المنطق الذي قد يكون من شأنه لو تحول إلى يقين واضح أن يفقد الفن بعض غموضه، أي بعض روعته.

وعلينا أن نتنبه هنا إلى أن مثل هذا الغموض كثيراً ما ميّز الأعمال الفنية الكبيرة، ومن بينها لوحات كثيرة لبيلاسكويث نفسه الذي عاش وعمل بين إسبانيا مسقط رأسه حيث ولد ابناً لأسرة من نبلاء بالنسيا من أصول برتغالية، وكان في الـ18 حين افتتح أول محترف له في مدينته، وفي الـ23 حين زار مدريد للمرة الأولى والتحق عام 1623 بالبلاط ليبدأ رسم لوحات للقصر الملكي. وهو قابل روبنز عام 1628 في مدريد قبل أن يقوم بجولة في مدن إيطالية عدة، عاد بعدها إلى البلاط الملكي ليحقق روائعه غير متوقف حتى سنواته الأخيرة التي قطعتها زيارة ثانية قام بها إلى روما، رسم خلالها لوحته الشهيرة التي تمثل البابا إينوتشنتي العاشر.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة