بالرغم من استمرار الخلافات بين إيران والعراق لعقود طويلة حول شط العرب، تمكّنت "أوبك" في السادس من مارس (آذار) عام 1975، من إتمام اتفاق الجزائر، إذ أعلن الرئيس الجزائري هواري بومدين في نهاية اجتماعات قمة دول "أوبك" عن توصل العراق وإيران إلى اتفاق في شأن حل الخلافات بينهما، واتفقت إيران والعراق على "تحديد الحدود النهرية بحسب خط الثالوك".
و"شط العرب" ممر مائي ينتج من التقاء نهري دجلة والفرات ويصب في الخليج، ويبلغ طوله 204 كيلومترات، أما عرضه فهو متفاوت، إذ يبلغ عند المصب أكثر من كيلومترين اثنين، ويصل عرضه عند مدينة البصرة إلى حوالى كيلومتر واحد.
وظلت مشكلة ترسيم الحدود بين العراق وإيران، لاسيما في الممر المائي "شط العرب"، مصدر التوتر الرئيس بين البلدين، ومنبع كثير من الخلافات والتصادمات التي بلغت ذروتها في حرب دامية ضروس بين بغداد وطهران تواصلت ثمانية أعوام.
وقد منحت المعاهدات التاريخية التي ورثها العراق عن الدولة العثمانية له الحق في السيادة على هذا الممر المائي، عدا مناطق محددة أمام "المحمرة" و"عبادان"، في وقت ظلت إيران تطالب بتقاسم السيادة على مياه الشط، بينما كان العراق يجد فيه منفذه الأساسي إلى الخليج، لاسيما أنه يعاني ندرة منافذه إلى مياه الخليج العميقة، التي تسهل استقبال وارداته ووصول صادراته إلى الموانئ العالمية.
هل كان لإيران سيادة على "شط العرب"؟
في التاريخ القديم، لا توجد دلائل تاريخية تفيد بأنه كان لإيران سيادة على نصف "شط العرب"، وفي عهد السلطنة العثمانية كان النهر خاضعاً لسيادتها. تغير الوضع قليلاً منذ منتصف القرن الـ 19، وتُلخص وثيقة بريطانية صادرة عن دائرة البحوث التابعة لوزارة الخارجية عام 1960، ما حصل من تغيرات حينها، وبسبب وقوع مناوشات متقطعة بين الأتراك والفرس، قررت بريطانيا العظمى وروسيا التدخل وتشكيل لجنة رباعية ضمتهما إلى طرفي النزاع، راحت تعقد اجتماعاتها في "أرضروم"، واقتضى الأمر أربع سنوات لكي يتم التوقيع عام 1847 على اتفاق عرف باسم "معاهدة أرضروم".
وحددت المادة الثانية من المعاهدة الحدود على الشكل التالي، "تعترف الحكومة العثمانية بصورة رسمية بسيادة الحكومة الفارسية التامة على مدينة المحمرة (خرمشهر) ومينائها، وجزيرة الخضر (عبادان) ومرساها والأراضي الواقعة على الضفة الشرقية، أي الضفة اليسرى من "شط العرب"، والتي هي تحت تصرف عشائر معترف بأنها تابعة لفارس. فضلاً عن ذلك، يحق للسفن الفارسية الملاحة في النهر المذكور بملء الحرية من محل مصب "شط العرب" في البحر إلى نقطة اتصال الحدود بين الجانبين".
في المقابل، تنازلت الحكومة الإيرانية عن كل ادعاء أو مطالبة بإقليم ومدينة السليمانية، وتم كذلك الاتفاق على تشكيل لجنة ترسم الحدود، ولكن الخلافات بين مندوبي الحكومتين التركية والإيرانية أعاقت عمل اللجنة.
وفي عام 1911 تم توقيع بروتوكول في طهران قضى بإنشاء هيئة تركية إيرانية كلفت بتخطيط الحدود، على أن تخضع أية نقاط خلافية لمحكمة التحكيم الدائمة في لاهاي، وأمام الصعوبات الناشئة تدخلت الحكومتان البريطانية والروسية، فكانت النتيجة التوقيع على "بروتوكول القسطنطينية" في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1913، والقاضي بتشكيل هيئة رباعية تقوم بالعمل، على أن يتم اعتبار كل نقطة يتم الاتفاق عليها "ثابتة طوال الوقت، وليست محل ارتياب أو شك أو فحص أو مراجعة".
وبالرغم من أن السفير الإيراني قام بتوقيع البرتوكول المذكور، إلا أن وزير الخارجية الإيرانية قال لوزير حكومة المملكة البريطانية في طهران، في 26 ديسمبر (كانون الأول) عام 1913، إن الحكومة الإيرانية وافقت على قبول تسوية الحدود التي تم التوصل إليها في القسطنطينية، شرط المحافظة على سيادة إيران وحقوق الملاحة في شط العرب، وهذا ما لم يتم "بسبب الصياغة السيئة للتعليمات التلغرافية المرسلة إلى السفير الإيراني".
وبالرغم من الاعتراض الإيراني، واظب مندوب طهران على حضور الاجتماعات، وتم التوصل عام 1914 إلى تحديد للحدود.
وبموجب البرتوكول، فقد تم وضع النهر وجميع الجزر فيه تحت السيادة العثمانية، مع خضوع ذلك لشروط واستثناءات أضافت إلى مكتسبات إيران من "معاهدة أرضروم" جزر المحلة وملحقاتها، وهي الجزر الأربع الواقعة بين "شطيت" و"معويه"، الجزيرتين البعيدتين "مانقوحي"، إضافة إلى أية جزر تكون عندئذ موجودة أو ربما تتشكل بعد ذلك وتكون مرتبطة عند الماء المنخفض، إما مع جزيرة "عبادان" أو مع الضفة الإيرانية أسفل نهر نزيلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعتبر الإيرانيون أن بروتوكول القسطنطينية ليس ملزماً لهم، لأنه لم تتم المصادقة عليه لا من الحكومة الإيرانية طبقاً للعرف الدولي، ولا من المجلس التمثيلي بحسب نص الدستور الإيراني، وفي مواجهة الرأي الإيراني طرح رأي آخر مفاده بأن "البروتوكول" وترسيم الحدود لم يكونا سوى خطوات تم اتخاذها لتنفيذ المادة الثالثة من "معاهدة أرضروم" التي تمت المصادقة عليها بشكل رسمي من قبل إيران. وأمام هذا السجال، اعتبر المستشارون القانونيون في وزارة الخارجية البريطانية أن بروتوكول 1913 يحتاج إلى مصادقة.
كيف تعامل النظام الملكي العراقي مع الأزمة؟
وفي ظل النظام الملكي العراقي، احترم الطرفان الاتفاق الذي تم التوصل إليه، وبعد تحول العراق إلى جمهورية راح الشاه الإيراني يطالب بترسيم الحدود في شط العرب بالاعتماد على خط "الثالوك"، ووقعت اشتباكات حدودية محدودة، وبعد سنة من وصول حزب البعث إلى السلطة أعلن الشاه الإيراني في 19 أبريل (نيسان) 1969، إلغاء معاهدة 1937، وفرضت إيران أمراً واقعاً على الملاحة في "شط العرب" على أساس أن خط "الثالوك" خط حدودي، ووقعت اشتباكات مسلحة بين طرفي الأزمة عام 1974. وتدخل مجلس الأمن الدولي وصدر القرار رقم (348) الذي دعا الطرفين إلى التهدئة والدخول في مفاوضات ثنائية لحل الأزمة.
وفي عام 1932 زار إيران ملك العراق آنذاك فيصل برفقة رئيس وزرائه نوري السعيد، وصدر بيان عن الزيارة يدعو الى التفاوض لحل الخلافات الحدودية بين البلدين.
وفي 18 يوليو (تموز) عام 1937 عقدت أول معاهدة صداقة بين العراق وإيران (تحول اسم فارس إلى إيران عام 1934) وأعقبها توقيع اتفاق آخر لحل الخلافات بين الجانبين بالطرق السلمية، وفي ديسمبر 1938 جرى الاتفاق على تنظيم أعمال لجنة خاصة لترسيم الحدود بين البلدين.
في البروتوكول الملحق بمعاهدة عام 1937 أقرت إيران بالحدود وفق محاضر جلسات لجنة ترسيم الحدود لسنة 1914 المنبثقة بروتوكول الآستانة عام 1913، وبحقوق العراق في مياه شط العرب وتنظيم حقوق الملاحة فيها عدا مناطق محددة، بعد أن حصلت على تنازل جديد من الحكومة العراقية بإعطائها مساحة جديدة (7.75 كيلومتر) أمام جزيرة "عبادان" على امتداد خط "الثالوك"، فضلاً عن السماح للسفن الحربية الإيرانية بالدخول عبر شط العرب حتى الموانئ الإيرانية.
وشهدت تلك المرحلة تعاوناً بين النظامين الملكيين العراقي والإيراني، لاسيما في شؤون الأمن الاقليمي، بيد أن الخلافات الحدودية حول شط العرب ظلت كامنة، وكانت إيران تستغل الفرص للمطالبة باقتسام مياه النهر على أساس خط "الثالوك"، وهي كلمة ألمانية يقصد بها الخط المكوّن من امتداد أعمق نقطة في المقاطع المتتالية للنهر.
عقد الستينيات وتعليق المشكلة
في أبريل 1949 تقدمت المفوضية الإيرانية ببغداد إلى وزارة الخارجية العراقية بمذكرة أرفقت بها مسودة لاتفاق في شأن صيانة وتحسين الملاحة في "شط العرب"، تشكل بموجبها لجنة تعطى صلاحيات واسعة في التشريع والتنفيذ والقضاء والإدارة واستيفاء العوائد، ورفضت الحكومة العراقية المقترح الإيراني. وفي عام 1957 اقترحت الحكومة العراقية تكليف وسيط محايد من السويد لحل الخلافات بين البلدين.
وظلت المشكلة معلقة طوال عقد الستينيات، وفي عام 1964 اتفقت الحكومتان الإيرانية والعراقية على استئناف المباحثات في طهران حول المشكلات الحدودية ومشكلة شط العرب، وظلت هذه المحادثات متعثرة أربع سنوات من دون نتيجة واضحة.
في عام 1969 استغل الشاه ضعف النظام البعثي الجديد الذي وصل إلى السلطة قبل عام واحد فقط، وقام بإعلان إلغاء معاهدة عام 1937 من جانب واحد، كما قامت إيران بتحشيد قواتها العسكرية البرية والجوية والبحرية على طول خط الحدود بين العراق، وفرضت إيران أمراً واقعاً على الملاحة في شط العرب بمعزل عن اشتراطات المعاهدة السابقة، معلنة أنها ستعتبر المياه العميقة وسط النهر، خط "الثالوك"، حداً لتقاسم السيادة على الممر المائي، ولم تقم الحكومة العراقية برد واضح، إلا أنها وجهت أنظارها نحو ميناء أم قصر وخور الزبير كمنافذ على الخليج.
وفي مارس 1975 وقع شاه إيران محمد رضا بهلوي ونائب الرئيس العراقي صدام حسين اتفاق مصالحة في الجزائر، إبان اشتداد التمرد الكردي في العراق، ونص الاتفاق على تسوية الخلاف الحدودي بين البلدين حول شط العرب والمناطق الحدودية الأخرى، وقام العراق للمرة الأولى بالتنازل عن حقوقه في المعاهدات السابقة بالسيادة على الممر المائي، واعتماد خط "الثالوك" أساسا لترسيم حدود شط العرب، في مقابل وقف إيران دعمها للتمرد الكردي شمال العراق.
لكن نظام الحكم في العراق استغل فوضى الأوضاع في إيران بعد انهيار نظام الشاه وعودة آية الله الخميني إلى بلاده التي أُعلنت جمهورية إسلامية، ليطالب للمرة الأولى في أكتوبر (تشرين الأول) 1979 بـ "مراجعة اتفاق الجزائر وتطبيع العلاقات بين البلدين"، وبانسحاب إيران من جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، والكف عما وصفه البيان العراقي بالمطالب "الشوفينية" في بعض مناطق الخليج، وتسوية مشكلات الأقليات العربية والكردية وغيرها.
وتصاعدت التوترات بين البلدين، وبدأت نذر الحرب تلوح في الأفق مع تصاعد التدخلات في الشؤون الداخلية، بينهما تقديم بغداد وطهران دعماً لأطراف المعارضة في البلد الآخر، فضلاً عن الحملات الإعلامية، فقد دعت إيران إلى إسقاط نظام صدام حسين وتصدير ثورتها الإسلامية إلى العراق، كما حدثت اشتباكات حدودية بين البلدين واتهامات متبادلة بقصف المدن والقصبات الحدودية، وصلت ذروتها في الرابع من سبتمبر (أيلول)، إذ اتهم العراق إيران بقصف مناطق حدودية في "خانقية" و "نفط خانه". كما اتهم طهران باستخدام الطائرات لقصف المناطق الحدودية العراقية قائلاً إنه أسقط بعضها وأسر أحد طياريها.
وفي سبتمبر 1980 ألغى صدام حسين اتفاق الجزائر الذي وقعه مع الشاه عام 1975، داعياً الى عودة السيادة العراقية على كامل شط العرب، فضلاً عن مطالبة إيران "بالاعتراف بالسيادة العراقية على التراب الوطني العراقي ومياهه النهرية والبحرية، وإنهاء الاحتلال الإيراني لجزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى في الخليج العربي عند مدخل مضيق هرمز، وكف إيران عن التدخل في الشؤون الداخلية للعراق".
لكن إيران دانت ذلك واعتبرته إعلاناً للحرب عليها، وفي 22 سبتمبر، دفع صدام حسين بقواته إلى داخل الأراضي الإيرانية، لتبدأ حرب ضروس بين البلدين عُدت الأطول في القرن الـ 20، وأحد أكثر حروبه دموية.