Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رهانات الأحزاب وتحديات التغيير في السودان

مارس نظام البشير تدميراً منهجياً للبنية السياسية الحزبية والنتيجة تسييس الإدارة الأهلية

من نتائج سياسات البشير خلال 30 سنة تفتيت الأحزاب السودانية (رويترز)

الأوضاع السياسية التي أعقبت سقوط الطاغية عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019 يمكن القول فيها إنها أوضاع تشتبك في تعقيدات كثيرة ولم تفرز حتى الآن تعبيرات سياسية أكثر شبهاً بروح الثورة السودانية العظيمة.

هذه الأوضاع، في الجزء الذي يتصل بهوية الأحزاب السياسية السودانية، لا يمكن فصلها عن السياسات الكارثية لنظام البشير  وطبيعته الانقلابية، ليس بالمفهوم العسكري التقليدي لنظم انقلابات المنطقة فقط، بل كذلك لجهة الطبيعة التحويليلة والتحريفية للنظام الاجتماعي الذي بشّر به حسن الترابي في ما سمّي بـ"المشروع الحضاري" خلال العشرية الأولى من سنوات انقلاب البشير (1989 - 1999). ففي بينّة هذا النظام ذي الأجهزة الأيديولوجية التي صممتها رؤى الإسلام السياسي، كان من أهدافه الكبيرة، تفتيت الأحزاب السودانية وتدمير البنية الحزبية التي عرفتها ساحة السياسة منذ الاستقلال، في محاولة منه لفرض أحادية إسلاموية زعم أنها الأكثر انسجاماً مع هوية المجتمع السوداني!.

وكان من نتائج هذه السياسات التدميرية لنظام البشير خلال 30 سنة حيال تفتيت الأحزاب السودانية، أن أدت إلى أضرار بالغة فيها، إذ انقسمت كلها تقريباً نتيجة لسياسات النظام، إضافةً إلى أمراض كيانية ذاتية فيها. المشهد السياسي اليوم للساحة الحزبية السودانية يجب قراءته وفق تلك الملابسات التي أحاطت بالأحزاب السياسية خلال سنوات النظام الثلاثين. وهذا يعني أن التجريب السياسي الذي نراه اليوم من طرف أحزاب قوى الحرية والتغيير، فيه جزء يعبر عن طبيعة الأضرار التي ألحقها نظام البشير بتلك الأحزاب، لكن في الوقت ذاته هذا لا يعني تبريراً لسلوكياتها، بخاصة العقائدية منها – بل هو تفسير لطبيعة البنية المأزومة في مكوّناتها، وجزء من استصحاب أدوات فهم ضرورية لتفسير سلوك تلك الأحزاب، وما يمارسه بعضها من سياسات مراهقة في وضع ثوري حساس لا يتحمل تلك المراهقة.

الحزب الشيوعي

ذاكرة هذه الأحزاب في غالبيتها تنتمي إلى عالم القرن العشرين، وهو عالم كانت الأيديولوجيا أهم أدوات التفسير في خطاب الأحزاب العقائدية فيه آنذاك. ولهذا نرى حزباً كالحزب الشيوعي السوداني يمارس البعض فيه خطاباً سياسياً وفق طريقة لا تعكس وعياً بالسياسة إلا بوصفها ميداناً لإعلان المزايدات، وفي الوقت ذاته ثمة مراهنة لهذا الحزب على الإصرار في طرائق عمل سياسي تضمر رؤية قديمة لفكرة الاستحواذ في التسييس الحزبي للنقابات، من دون أي اعتبار للتحولات الجديدة في فلسفة العمل النقابي، وحتى في مفهوم فكرة تقسيم العمل التي شهدت مع العولمة وثورة المعلوماتية والاتصال متغيرات جذرية، ما يعني أن الأدوات القديمة في فهم المواقف السياسية باعتبارها مبادئ حدّية صلبة لا تنفع في ميادين سياسية ثورية سائلة ومتغيرة باستمرار، ولقد كان في لقاء تلفزيوني مع عضوة للجنة المركزية للحزب الشيوعي مثالاً لما نتحدث عنه.

هذه الطبيعة التي تفهم السياسة والمواقف السياسية باعتبارها مواقف حدّية مبدئية لبعض منسوبي الحزب، وتكتيكية للبعض الآخر في الحزب الشيوعي، في تبادل واضح للأدوار، لا يمكنها أن تعبّر عن وضوح في الخيارات السياسية للحزب إذا ما ظن هذا الحزب دائماً أن التفاعل مع نبض الشعب - كما يتوهمه - هو بوصلة قراراته. ففي هذا التصور الكثير من المثالية، لأن الشعب ليس بوسع أفراده جميعاً كشعب، القدرة على تبيان وصناعة أدوار وتفصيلات المواقف السياسية المتصلة بتدبير السياسات التي هي من شأن الأحزاب، أي ليس في قدرة الشعب كشعب أن يكون بديلاً عن الأحزاب وإنما مهمة الشعب الأساسية ودوره السياسي يتمثّلان في أن يكون الرافعة الأساسية والعمومية للثورة التي تحدث التغيير، ودوره لا يمكن أن يقوم به إلا الشعب تحديداً، الأمر الذي سيعكس أطواراً من المراهقة السياسية تضرّ بالمرحلة الانتقالية ورهاناتها في الانتقال السياسي.

حزب الأمة

حزب الأمة، هو حزب سياسي يميني كبير بزعامة السيد الصادق المهدي، مارس قبل الثورة وخلالها وبعد سقوط النظام عبر مواقف وتصريحات زعيمه ممارسات سياسية كانت مثار ردود فعل الشعب السوداني، وهي مواقف غريبة لا يمكن تفسيرها سياسياً، فالحزب يتوهم في نفسه بما أنه كان الحزب الفائز بانتخابات عام 1986-  وهو تاريخ جرت مياه كثيرة تحت الجسر من بعده – فإن ذلك يخوّله اليوم أن يكون صاحب الغالبية ذاتها إذا ما جرت انتخابات اليوم، ولهذا الزعم يخرج زعيم هذا الحزب السيد الصادق المهدي بين حين وآخر بتصريحات تدعو الى انتخابات مبكرة كمخرج من الأزمة التي تواجه حكومة الثورة - وهي أزمة طبيعية بطبيعة الحال – كما يتنبأ أحياناً بحدوث انقلاب عسكري! ويصرح أحياناً بعكس ذلك. وفي تقديرنا أن حزب الأمة في شخص زعيمه الصادق المهدي يعكس مواقف وآراء لا تعكس المسؤولية التي تقتضيها مهمات الانتقال السياسي وتحدياته في الوقت الراهن.

التجمع الاتحادي وحزب المؤتمر السوداني

هناك أحزاب جديدة نسبياً مثل حزب المؤتمر السوداني والتجمع الاتحادي، وهي أحزاب تمثل تياراً وسطياً في اليسار واليمين، على التوالي، وحتى الآن تعمل في ظل تحديات الانتقال السياسي، ويعكس أداؤها وتصريحات قادتها ما هو أقرب إلى نبض الثورة ورهاناتها. وفي تقديرنا أن حزب التجمع الاتحادي وحزب المؤتمر السوداني، يعدان بمستقبل واعد إذا ما توفر لهما مفكرون سياسيون ومنظرون لهم القدرة على تأطير فكرتي يمين ويسار الوسط السياسيتين ضمن رؤية فلسفية ترسم للفعل الحزبي غاياته في نظم الإدراك السياسي والمواقف المتميزة بين السقف الحزبي والسقف الوطني في الأداء.

أحزاب وحركات الجبهة الثورية

هذه الأحزاب والحركات في جسم الجبهة الثورية ستدخل في مجال المرحلة الانتقالية بموجب اتفاقية جوبا التي تم التوقيع عليها بالأحرف الأولى في اليوم الأول من الشهر الجاري سبتمبر (أيلول) وسيدخل الاتفاق حيز التنفيذ بالموعد المضروب في 2 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، ومن ثم سيكون دور أحزاب الجبهة الثورية منصبّاً على تفعيل المرحلة الانتقالية ودعمها من خلال تنفيذ المهمات المتصلة ببرامج وتفصيلات مصفوفة الاتفاقية بجميع جوانبها. وبطبيعة الحال، هذه المهمة السياسية المقيدة للجبهة الثورية ستجعل من حراك أحزابها ضمن الأطر الرسمية المتماهية مع تنفيذ مهمات الانتقال السياسي والأقرب إلى أداء الحكومة الانتقالية منها إلى عمل الأحزاب السياسية. لكن دخول الجبهة الثورية في أداء مهمات المرحلة الانتقالية إلى جانب حكومة الثورة سيعزز من ثقل المدنيين ويرجح حظوظهم في التمكين والدعم وهذا في تقديرنا مؤشراً إيجابياً في مسار استقرار المرحلة الانتقالية.

الأجسام الشعبوية لشرق السودان  

التدمير المنهجي للبنية السياسية الحزبية الذي أصاب الأحزاب من طرف نظام البشير اقتضى بالضرورة بروزاً لأجسام أخرى، فكانت نتيجته، من جهة بروز حركات مسلحة  في الخارج نظراً إلى تدمير البنية السياسية وانسدادها طوال حكم نظام البشير، وفي الداخل أحيا نظام البشير ما سمّي بتسييس الإدارة الأهلية، وهو إدخال القبائل في الشأن العام. وعلى مدى 30 سنة، عكس نظام تسييس الإدارة الأهلية أسوأ النماذج في الممارسات السياسية التي دمرت السياسة والقبيلة معاً، وأنتجت مسخاً مشوّهاً هو مزيج عدمي من السياسة والقبيلة. وكان من الطبيعي بعد سقوط النظام أن تنشط هذه الأجسام السياسية الممسوخة لاستئناف الدور الذي ورّطها فيه نظام البشير بعد تجريب دام ثلاثين عاماً. وكان أشقى الأقاليم في هذه الممارسات السياسية الأقاليم الأكثر تخلفاً مثل إقليم شرق السودان، ولهذا شهدنا قابليته للانجرار في الفوضى بتدبير عناصر النظام السابق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كما وجد عناصر من محالفي النظام السابق وغيرهم أدواراً جديدة في الأجسام والكيانات السياسية المشوّهة التي استأنفت ممارسات طريقة النظام القديم في تسييس الإدارة الأهلية مثل ما سمّي بـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة" الذي ينشط فيها زعيم قبيلة وزعيم حزب محلي وآخرون من بقايا النظام السابق ونفعيون، إلى جانب جسم موازٍ آخر هو "الآلية التنسيقية لعمد ونظار قبائل بني عامر" وسنجد أن هذين الجسمين الأهليين يعبّران بوضوح عن الانقسام الذي أصاب البجا تحديداً، وهو انقسام يعكس طبيعة العطب الذاتي الذي تعبّر عنه هذه الأجسام. وهناك احتمال لتحوّل الجسم الذي يسمّى "المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة" إلى جسم تنظيمي آخر نتوقع أن تكون بنيته ورؤيته هي ذاتها بنية ورؤية "المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة". المؤسف في هذه الفوضى، هو أن الأحزاب المناطقية التي كان يمكن إدراجها في بنية ما للعمل السياسي أصبح بعضها منخرطاً في ركاب هذه الأجسام القبائلية التي تمزج القبيلة بالسياسة على نحو مدمر، كأحد فروع حزب مؤتمر البجا الذي أصبح قائده موسى محمد أحمد منخرطاً في نشاط "المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة". ولا يبدو مستغرباً إذا وجدنا بعض منسوبي حزب "التواصل" ضمن الناشطين في ما يسمّى "الآلية التنسيقية لعمد ونظار بني عامر". وربما نتوقع قريباً تغييراً في هذا الأخير باتجاه اسم سياسي يبعد عنه الصبغة القبائلية، كما يريد أن يفعل ما يسمّى اليوم بـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة".

خطورة هذه الأجسام الشعبوية التي تمزج القبائلية بالسياسة أنها تختزن في خطاباتها طبيعة عنصرية وتعبيرات إقصائية، تطوع لها  فهماً مضللاً لحقائق التاريخ وتدمجها في توظيف سياسي رخيص. وغني عن القول أن خطاباً كهذا  الذي يروّجه جسم كـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة" هو خطاب خطير ولا علاقة له بالسياسة، بل يؤسس للفصل العنصري وممارسات الإقصاء بحق مكونات أخرى في شرق السودان.

وفي تقديرنا أن لا مستقبل لمثل هذه الأجسام في المرحلة المقبلة التي يستشرف فيها السودان مستقبلاً ديمقراطياً وتعددياً، الفصل فيه للمواطنة والدستور، والنجاح السياسي فيه لمستقبل الأحزاب التي لها بصيرة بطبيعة العمل السياسي ومقتضيات رهانات مستقبل السودان، بعيداً من مخلفات نظام المؤتمر الوطني وفصله المظلم الذي جثم على صدور السودانيين لثلاثين عاماً وخلف لنا طرائق قبائلية في العمل السياسي من شاكلة "المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة" و"الآلية التنسيقية لعمد ونظار قبائل بني عامر".

اقرأ المزيد

المزيد من آراء