Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة مع "الذات" من كانط إلى هيغل (الحلقة الثالثة)

الغرض من الطبيعة هو أن تبرز فيها الروح وتتجلى

الفيلسوف الألماني فردريك ويلهلم شلنج (غيتي)

سردنا في الحلقة السابقة كيف أن فخته استطاع أن يعالج الثنائية التي خلقها كانط بين الذات والعالم الخارجي، لكنه أسرف في موقفه عندما جعل اللاذات "العالم" بلا وجود مستقل عن الذات.

شلنج (1775-1854) 

إذا اتصل فخته بكانط وتأثر بفلسفته النقدية، ما ساعده في إصلاح ثنائيتها، فإن فردريك ويلهلم شلنج كان تلميذ فخته، ومؤيداً لأفكاره في بادئ الأمر، لكنه يرى أن الذات في صورة "ذات مطلقة" تشمل الطرفين المتعارضين، الذات واللاذات معاً. إذ إن الوجود عنده هو وجود العالم الموضوعي والعالم الذاتي جنباً إلى جنب، فكلاهما صادران من أصل واحد، فليس بمقدورنا أن ندرك أنفسنا إلا إذا أدركنا وجود شيء خارج أنفسنا، وكذلك ليس بمقدورنا أن ندرك وجود أي شيء خارجي من دون أن نربط علاقة بينه وبين وعينا، ولهذا فالنتيجة التي نصل إليها أن كليهما موجودان، وأنهما ليسا منفصلين، بل متحدان مندمجان في أصل أسمى منهما، وهو الذات المطلقة، وليس باستطاعة الإنسان أن يفهم ذلك الكائن المطلق إلا بإلهام البصيرة، التي هي ملكة ذاتية في الناس أجمعين.

وأخذ شلنج يبتعد عن المثالية الذاتية المسرفة عند فخته، ويتجه نحو المثالية الموضوعية، فالطبيعة ليست أقل شأناً من أهمية العقل، فهي الصورة التي تظهر فيها الذات المطلقة بشكل جلي، فالمادة والعقل جانبان لوحدة أسمى، إذ إن "الطبيعة روح مرئية، والروح طبيعة خفية" والأولى تكمل الثانية، كما أن الذات ترى نفسها في الطبيعة، فإن الطبيعة تدرك نفسها في الروح، التي تعني عند شلنج الذات أو العقل أو النفس.

إن المادة بأصنافها المتنوعة وكل شيء فيها يرمز إلى الروح، النباتات والحيوانات مهما دنت مرتبتها في سلم الكائنات فإن حقيقة أمرها خفقة روحية وجدت سبيلها إلى الخارج.

ويذهب شلنج في تصوره إلى القول إن الكون بأسره عبارة عن كائن عضوي واحد يقع في مراتب تختلف علواً وسفلًا، والغرض من الطبيعة هو أن تبرز فيها الروح وتتجلى، وهي إنما تصل إلى ذروتها في الإنسان.

وبحسب المفهوم الشلنجي، فإن معرفة الإنسان تتكون من الفلسفة والطبيعة، الأولى تبدأ دراستها بالبحث في الفكر من أجل أن تصل إلى الطبيعة، والثانية تنطلق من الطبيعة صعوداً نحو الفكر المطلق. فمن فلسفة الطبيعة تكون تصورات العالم العقلي في ما نراه في عالم الظواهر الطبيعية من أشكال وقوانين، ولذلك فإن موضوع الفلسفة الطبيعية هو أن تستمد صورة العقل من الطبيعة، وبنية الطبيعة في فاعلية دائمة ونشاط متواصل لتحقيق الحياة الكاملة، لهذا فالعقل المبثوث في ظواهر الطبيعة يسعى إلى الصعود من صورة مادية سفلى إلى صورة أعلى فأعلى، وهكذا دواليك حتى تبلغ مرتبة الكائن العضوي الذي يتمكن فيها من الإدراك. ومدلول شلنج في الفلسفة الطبيعية يتوزع في ثلاثة أقسام، وهي العضوية واللاعضوية والتبادل بين الطبيعتين.

فالطبيعة العضوية هي ذات فاعلية لا نهائية، إذ تمتلك قابلية للإنتاج غير المنتهي، وتتجلى هذه الفاعلية المنتجة في تكوين مخلوقات لا نهائية، من أفراد وغيرهم، لكن الطبيعة لا تعنى بهؤلاء الأفراد عنايتها بالجنس كله، وهي في فاعليتها المنتجة تحاول بكل جهدها أن تسمو في ما تنتج من صور، وأهم ما يميز الطبيعة التناسل والشعور، إذ كلما ارتفعت حال الشعور في الكائن، ارتقت منزلته في سلم الكائنات.

أما الطبيعة اللاعضوية فهي غير منتجة، وتعمل على معارضة الطبيعة ومقاومتها، وتتماسك كتلتها المادية مع بعضها بسبب عوامل خارجية، وبما أن الطبيعتين العضوية واللاعضوية لا يمكن لإحداهما أن توجد مستقلة عن قرينتها، لذا فهما متصلتان تؤثر الواحدة في الأخرى، كما أن كلتاهما صادرتان من أصل واحد مشترك، هو مبدأ الحياة، الذي هو العالم نفسه الذي تتلاشى فيه أوجه الخلاف بين الطبيعتين.

وبالنسبة إلى التبادل بين الطبيعتين، فإن فلسفة الفكر هي من تكمل فلسفة الطبيعة، لأنها تنظر إلى الطبيعة لتصور العقل، وتبحث في الفكر لتبنى الكون من وجهة نظر العقل، ويقسمها شلنج إلى ثلاث تصورات، نظرية وعملية وجمالية. فالأولى موضوعها شرح العالم الباطني للذات وتعليله، وعليها أن تبين المراحل التي يجتازها العقل وهي الإحساس، ومن ثم الإدراك الحسي، وأخيراً التأمل.

أما الثانية فإنها تبحث في تصرف الذات وعملها، وذلك في الإرادة التي تحاول أن تحقق نفسها، فيما يعمل الفرد والدولة. والثالثة أن العقل لا يحقق نفسه في أسمى صوره إلا بالجمال أو الفن. فمن طريق الفن يصل العقل إلى ما لم يستطع تحقيقه في الجانبين النظري والعملي، لأن العقل يدرك نفسه في الفن إدراكاً كاملاً، لذلك فإن الفن هو أساس الفلسفة إن لم يكن هو مرتبة فوق الفلسفة، كما أن الاندماج بين الذات والشيء يكون تاماً مطلقاً في أبهى نتاجات الفن من الشعر والتصوير، فالإنتاج الفني عمل يجسد اتحاد ذات الفنان بموضوع فنه.

ويصل شلنج إلى القول بأن "العقل المطلق" هو تمام الاندماج بين الذات والشيء، كما أن المطلق هو الذي يشطر نفسه إلى نصفين، العالم الحقيقي الواقعي، والعالم المثالي العقلي، على أنه يظل ممسكاً في نفسه اندماج الشطرين، والعقل هو النقطة التي يتلاقى عندها الجانبان ويندمجان. وعليه، فلا يمكن أن تكون وجهة نظر الكائن صائبة وصحيحة إلا إذا صعد إلى حيث العقل.

غير أن شلنج ينبه إلى أنه بالرغم من أن الذات والشيء موجودان في العقل الأسمى، إلا أن هذا العقل الأسمى نفسه في الوقت ذاته يجرد نفسه منهما، وعلى الفلسفة أن تسقط من حسابها كل ما هناك من أوجه الخلاف بين الذات والشيء، وأن ترى الحقائق كلها على ضوء العقل المطلق، فالذات والشيء موجودان في كل شيء، والفرق بين شيء وآخر بحسب ميل كفة الذات فيه، أو كفة الطبيعة منه.

ووفقاً إلى هذا التقابل بين الحقيقي والمثالي أو المادي والعقلي، أو الطبيعي والتاريخي، لأن الطبيعة هي مجموع الأشياء متصلة، وإن التاريخ هو فعل العقل المستمر، ففي هذا التقابل الذي تلمحه بين الجانبين الواقعي والمثالي من الحقيقة، ترى تقابلاً نظيراً له في مراحل التاريخ نفسه، فالعالم القديم بما كان يسود فيه من ديانات طبيعية يمثل الجانب الذي ترجح فيه كفة الطبيعة، بينما ديانة العالم الحديث هي المسيحية التي ترجح فيها النزعة المثالية التفكيرية.

وفي هذا الخصوص، أشار شلنج بكل بوضوح في كتابه "نظام انتقال المثالية" إلى أن "التاريخ بمجمله هو وحي تدريجي يكشف عن ذاته تدريجياً نحو المطلق". وإذا كان مظهر الحرية بالضرورة لا نهائياً، فإن التطور الكلي للمطلق هو عملية لا نهائية أيضاً، والتاريخ نفسه هو كشف مطلق تماماً عن هذا "المطلق" الذي يكون من أجل الوعي. وبذلك، فمن أجل المظهر فقط، يفصل المطلق نفسه إلى واع وغير واعي، حرّ وحدس، ولكن هو نفسه، بالرغم من ذلك، يكون في الضوء الذي لا يمكن الوصول إليه حيث يوجد، فهو الهوية الأبدية والقاعدة الأبدية للتناغم بين الاثنين، الطبيعي والتاريخي.   

وانطلاقاً من هذه الرؤية المسيحية، يرى شلنج إن فترات التاريخ قد مرت في ثلاثة مراحل، مرحلة الطبيعة التي وصلت إلى ذروتها في الشعر والديانة اليونانية، ومرحلة الركون إلى القدر التي جاءت في ختام العالم القديم، ومن ثم مرحلة الحكمة الإلهية التي بدأت بالمسيحية، إذ أصبح الله موضوعاً للمرة الأولى في التاريخ، بأن يمثل في شخص المسيح.

وبالرغم من أن شلنج اتجه نحو النزعة الصوفية في مرحلته الفلسفية الأخيرة، متأثراً بالأفلاطونية المحدثة بشكل خاص، لكنه لم يبتعد من العقيدة المسيحية.

ولقد ألّف ثلاثة كتب في هذا الخصوص، منها "مباحث في طبيعة الحرية البشرية" الذي يعالج فيه العلاقة بين إرادة الإنسان وإرادة الله، وبحسب رأيه، إن"إرادة الله هي التي خلقت الأشياء كلها بما في ذلك الإنسان، ولكن للإنسان جانبين، عقلي وطبيعي، فهو من حيث العقل عبارة عن أداة لإرادة الله العامة، بحكم كونه كائناً عاقلاً ينسجم مع إرادة الله، أما من جانبه الطبيعي أو الجسدي، فله إرادة خاصة به لا تسير مع إرادة الله في اتجاه واحد، ومن هذين الجانبين أو الإرادتين المتعارضتين اللتين تتجاذبان الإنسان يقع الخير والشر، فرجحان إرادة الإنسان الخاصة هو الشر، ولا يمكن لأحد سوى الله أن يوحد بين الإرادة الفردية والإرادة العامة."

أما كيف تكون عملية ذلك التوحيد بين الإرادتين، فإن شلنج يضع جوابه من خلال المفهوم المسيحي، ويقول:" لا سبيل لهذا التوحيد إلا إذا اتخذ الله لنفسه طبيعة الإنسان، ولقد شهدنا على مسرح التاريخ ما وقع بين الإرادة الفردية والإرادة العامة من صراع، فجاء المسيح إلهاً في إنسان ليوفق بين الإرادة الفردية وإرادة الله، فكانت أسمى صفات اتحاد الإنسانية بالله."

وإذا استطاع فخته أن يصلح الخلل في ثنائية كانط، لكنه تطرف في فلسفته الذاتية حتى تناقض وأخطأ في أكثر من موقع، منها أن الذات عاجزة عن إدراك نفسها إلا من طريق اللاذات، التي هي نتاج الذات أصلاً، فكذلك أسرف شلنج في مثاليته الموضوعية حتى فقدت أحياناً طابعها الفلسفي لمصلحة الطابع الديني.

المزيد من آراء