Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تشكل الصور الزائفة وعينا من دون أن ندري؟

التزييف الفوتوغرافي يشوه وقائع ويسيء إلى أشخاص ويدل على انحطاط أخلاقي

صورة من فيضان هاييتي 2007 نشرت على أنها من فيضان السودان (أ. ف. ب)

في إحدى الصور الفوتوغرافية ذات الانتشار الواسع يظهر رجل في مواجهة اثنين من الجنود. يبدو الجنديان في الصورة شاهرين أسلحتهما، كأنهما يستعدان لإطلاق النار على الرجل، بينما يقف هو متحدثاً بحماسة إليهما غير مبالٍ بهذا التهديد. تنتشر هذه الصورة على مواقع التواصل الاجتماعي مصحوبة بتعليقات تؤكد أن المشهد يوثّق اللحظات الأخيرة في حياة الشاعر الإسباني غارسيا لوركا قبل إعدامه. المدقق في سيرة الشاعر الإسباني الراحل سيدرك بالطبع أن الصورة ليست حقيقية، فلم تعرف حتى الآن على وجه التحديد ملابسات موت لوركا أو الطريقة التي أعدم بها، حتى الشخص الذي يظهر في الصورة يبدو أكبر سناً من العمر الحقيقي للشاعر الراحل الذي توفي وهو في عمر الثامنة والثلاثين.

وفي أعقاب الفيضانات المدمرة التي اجتاحت السودان أخيراً، تداول مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي عشرات الصور الفوتوغرافية لمشاهد الفيضان والآثار المدمرة التي خلّفها. معظم هذه الصور جاءت مصحوبة بتعليقات تبرز تضامن مستخدمي هذه المواقع مع السودان وأهله في مواجهة هذه المحنة التي ألمّت به. بين هذه الصور التي تم تداولها بكثافة خلال الأيام الماضية صورة لرجل تكاد المياه أن تغطيه بالكامل، بينما يحاول النجاة حاملاً طفلته الصغيرة على كتفيه. تحوّلت هذه الصورة إلى أيقونة، وعولجت بأكثر من  طريقة، وتم تداولها عبر بعض وسائل الإعلام كنموذج للتضحية والصمود، حتى إن واحداً من الإعلاميين البارزين على الفضائيات العربية قد رشحها في برنامجه للفوز بإحدى جوائز الصور الصحافية لهذا العام. هي صورة مؤثرة بالفعل، ولا شك أن الشعب السوداني قد أبدى شجاعة لافتة في مواجهة هذه الكارثة. وهناك بالتأكيد قصص وروايات بطولية عدة تستحق أن تروى ويحتفى بأصحابها، غير أن هذه الصورة تحديداً ليس لها أي علاقة بفيضانات السودان، فهي صورة قديمة نسبياً وتعود إلى عام 2007، التقطت أثناء فيضان مماثل في جزر هاييتي، كما أوضحت وكالة الصحافة الفرنسية عبر خدمتها للتحقق من الأخبار والصور الزائفة.

إنترنت وتزوير

الصورتان المشار إليهما هما نموذجان للعشرات بل والمئات من الصور الزائفة التي تتدفق أمام أعيننا ويتم تداولها كل لحظة عبر شبكة الإنترنت. لا يكاد يخلو حدث من الأحداث من حضور هذه الصور، بما فيها الأحداث القريبة كانفجار مرفأ بيروت وزيارة ماكرون إلى لبنان وحرب اليمن وأزمة سد النهضة، وغيرها من الأحداث، محلية كانت أو دولية.

لم تترك الصور الزائفة مناسبة أو مجالاً إلا واقتحمته، ففي ذروة انتشار وباء كورونا مثلاً تم تداول إحدى اللوحات لفنان الرسوم الصحافية الإيطالي الشهير والتر مولينو كان  قد رسمها عام 1962 لمجموعة من الأشخاص يستقلون مركبة صغيرة لا تتسع إلا لشخص واحد، وتبدو أشبه بفقاعة من الزجاج. انتشرت هذه الصورة مصحوبة بعنوان زائف وهو "العالم في عام 2022" في إيحاء بأن الفنان الإيطالي قد تنبّأ في عمله هذا بما نعايشه اليوم من تباعد اجتماعي بسبب وباء كورونا. وإذا ما بحثنا وراء الأمر، سنكتشف أن العنوان المصاحب للصورة ليس حقيقياً ولا يعبّر عن طبيعة العمل، فقد نشر هذا الرسم على غلاف إحدى المجلات الإيطالية كتصوّر من الفنان حينها لأحد الحلول المستقبلية لأزمة المرور وازدحام الشوارع بالسيارات. المصور الفوتوغرافي السعودي عبد العزيز العتيبي تعرض لأمر مشابه حين انتشرت إحدى صوره التعبيرية لطفل ينام بين شاهدين لقبرين. لم يكن الطفل الظاهر في الصورة سوى أحد أقرباء المصور الذي برع في تنفيذ دوره، وكان القصد من هذه الصورة التعبيرية كما صرح صاحبها وقتها هو تسليط الضوء على معاناة اليتامى وافتقادهم لحنان الوالدين، غير أن الصورة ذاتها انتشرت بكثافة عبر الإنترنت مع ادعاء أنها لطفل سوري مات والداه في الحرب.

قد يبدو هذا التضليل الذي تحمله مثل هذه الصور حسن النية أحياناً، لكنه يحمل في أحيان أخرى شبهة التوجيه والتضليل المتعمّد. فإن اكتفت هذه النماذج السابقة بإخراج المشهد عن سياقه واختلاق سياق آخر قد يكون مناقضاً تماماً لحقيقة الصورة الأصلية، فثمة نماذج أخرى من الصور تتجاوز هذا التضليل للمحتوى إلى إحداث تغيير في مكونات الصورة ذاتها باستخدام برامج التعامل مع الصور. كما يتجاوز هذا الزيف والتضليل الصور الفوتوغرافية إلى تلفيق الأخبار والتصريحات، وكذلك الفيديوهات المصحوبة بترجمات مغلوطة لخطب ساسة أو تصريحات مسؤولين أو نشطاء وشخصيات عامة. كما تتخطى حدود الصور الزائفة مجال السياسة والكوارث الطبيعية والحروب إلى وقائع وأحداث تاريخية.

يتزايد طغيان الصورة وحضورها في عصرنا بلا شك مع تعاظم الاعتماد عليها وسهولة إنتاجها وتوجيهها، ويتعدى تأثير الصورة لحظة الرؤية والمشاهدة الخاطفة إلى السعي لخلخلة القناعات والحطّ من قيمة الأفراد والشعوب ومحاولات التنميط والقولبة والسيطرة. وكما تستخدم الصورة لأهداف إيجابية، توجه أيضاً لتزييف الوعي وإخفاء الحقيقة، كما يقول الناقد المصري شاكر عبد الحميد في كتابه عصر الصورة، فهي قد تستخدم كذلك "للإعلاء من قيمة السطحي والمؤقت والعابر من الأمور على حساب الحقيقي والجوهري والثابت... فالصورة لم تعد بألف كلمة كما كان المثل الصيني القديم يقول، بل ربما أصبحت بملايين الكلمات".

المزيد من ثقافة