كانت كبيرة الأوهام اليمنية والإقليمية حين وقّع ممثل الشرعية الأستاذ سالم الخنبشي نائب رئيس مجلس الوزراء، والأستاذ ناصر الخبجي ممثل المجلس الانتقالي الجنوبي، على وثيقة "اتفاق الرياض" في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، وأنه سيقود إلى حالة استقرار في مسارات عمل "الحكومة الشرعية"، وبداية لانتشالها من حالة الركود التي اعترتها، والفشل الذي التصق بأعمالها، والفوضوية التي كانت سمتها منذ 2015. وكان الاعتقاد أن (الاتفاق) سيسّهل إعادة تشكيلها كي تتمكن من العودة إلى عدن "العاصمة المؤقتة". وبمرور الوقت اتّضح أن الصعوبات التي تعترض تنفيذ النصوص أكثر تعقيداً من توقعات الذين صاغوها بحسن نية، وتحوّل العجز إلى معضلة جديدة إضافية جادة، تواجه كل ما يعلن عنه ويتم التوقيع عليه، ومرد ذلك ليس في مثالية النصوص فقط، ولكن لأن أسلوب تناول وبحث وتفسير القضايا المصيرية يجري التعامل معها عبر صيغ لا تراعي الواقع والعوامل الحقيقية التي تؤثر عليه.
لا بد هنا من استعادة مشهد "مؤتمر الرياض" الشهير الذي عقد في الرياض 17 – 19 مايو (أيار) 2015، بعد مرور شهرين على انطلاق "عاصفة الحزم" فجر 26 مارس (آذار) 2015، وشهر على إطلاق عملية "إعادة الأمل" 21 أبريل (نيسان) 2015، وفي ذلك الاجتماع (مؤتمر الرياض)، خرج المجتمعون بوثيقة حددت مجموعة من القرارات كان أهمها (استعادة الأسلحة المنهوبة وتسليمها إلى الدولة، وبسط سلطة الدولة على كل الأراضي اليمنية، وعودة مؤسسات الشرعية لممارسة مهامها من داخل الأراضي اليمنية، والإسراع بإعادة المهجرين وتصحيح أوضاعهم وتعويض المتضررين من جرائم الميليشيات)، وبنوداً أخرى كثيرة استهدفت معالجة القصور ومكامن الضعف والخلل... وبالطبع انتهى المؤتمر وتفرّق المشاركون فمكث بعضهم في ضيافة المملكة، وغادرها كثيرون في رحلة تيه وشتات مستمرة حتى كتابة هذه الأحرف، موزعين على مدن عدة عربية وغير عربية.
ومنذ ذلك الحين بقيت الحرب اليمنية تراوح مكانها، ولم تحدث فيها أي اختراقات حاسمة تجعلها قريبة من النهاية، وازدادت تعقيداتها على الأرض بنشوء قوى جديدة تتحكم بما يدور على الأرض، وكان من المستغرب استمرار غياب أغلب المشاركين في (مؤتمر الرياض) عن اليمن بعد انتهائه، ما أتاح للقوى الناشئة أن تصبح سلطة واقعة في مناطق تواجد مسلحيها، ولما كان أغلبها غير مرتبط بالدولة فقد تحوّلت إلى ميليشيات وتشكيلات تعمل خارج القانون، وعزّزت مناطق سيطرتها ورسمت خطوطاً محلية داخلية جديدة، وفرضت مزاجاً جديداً على الناس وأحكمت قبضتها في الأرض مستغلة غياب "الشرعية" وممثلي إداراتها المختلفة.
في 27 مايو 2015، كتبت مقالاً في صحيفة "الحياة" السعودية بعنوان "كنت في الرياض"، للتعليق على "مؤتمر الرياض" قلت فيه، "على المسؤولين العمل الجاد للعودة السريعة إلى أي منطقة يمكن تأمينها بعيداً عن الوجود الحوثي، لأنه من غير الجائز أخلاقياً دعوة المواطنين إلى المقاومة بينما هم مسترخون ويعيشون بعيداً من الواقع، ويتوقع اليمنيون في الداخل والعالقون في الخارج مسعى يمنياً جاداً يمنحهم فرصة الأمل في استعادة جزء من حياتهم التي لن تعود إلى طبيعتها في ظل هذا الجدل العدمي والعبث الصفري، الذي أنهك الوطن وتركه من يتصدرون المشهد فريسة لأهوائهم وأنانيتهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد نبّهت منذ بدايات الحرب أن الغياب الطوعي غير المبرر للقيادات المحلية كافة، لابد أن يخلق فراغات ستملأها التكوينات العشوائية التي تعيش بين الناس، وهو ما حدث، علـي سبيل المثال، في تعز بالذات التي أصبحت ساحة مفتوحة لصراعات محلية بتمويلات غير يمنية بين عدد من أحزابها وشخصياتها المرتبطة بالشرعية، وهي التي كان يفترض بها توحيد جهودها لإعادة الأمن والاستقرار، وإعادة بناء ما خلفته الحرب من دمار اجتماعي، وما خلقته من نزاعات بين سكانها الذين تعايشوا عقوداً من دون التفات إلى جذورهم الاجتماعية وخلفياتهم المذهبية. ومن الواضح أن العوامل الذاتية هي التي عبثت ولا تزال تعبث بكل محاولات استعادة الروح المدنية التي تمثلها تعز، كما أن الارتباطات الخارجية للعديد من أطرافها تزيد من أزمات تعز ومآسيها.
تتطلب عودة الحياة الطبيعية إلى تعز تفاهمات محلية تبتعد عن المصالح المادية ونزعات الزعامة الوهمية على حساب مصالح الناس، وإذا حدث ذلك فسيصبح ممكناً التوصل إلى تسويات تعيد فتح كل معابر المدينة المغلقة، ووقف الحصار الذي تمارسه ميليشيات الحوثيين على عدد من مداخلها، وإطلاق الأسرى كافة من كل الأطراف، كما سيجعلها نموذجاً محتملاً لتسويات على المستوى الوطني، وتكمن العقدة الحقيقية في تعز ومن تعز، أن موقعها الجغرافي مطل على المناطق الجنوبية التي تحيط بها، كما تسيطر جغرافيا على الساحل الممتد من عدن إلى الحديدة، وفي الوقت نفسه صارت تمثل للحوثيين مورداً مالياً ضخماً بما يجبونه من ضرائب ورسوم تجارية على المصانع، التي تقع في منطقة سيطرتهم عند مدخل الحوبان.
من غير المحتمل أن يستطيع أي مكون سياسي أو عسكري السيطرة على مجمل المحافظة، وستظل الشكوك بين قيادات المسلحين والأحزاب هي المسيرة للأحوال في تعز، وسيكون من العسير خروجها من المستنقع الذي أسقطها فيه التنافس المحلي المموّل من خارجها، وستبقى تعاني من غياب شخصيات مقبولة جامعة للناس، فأصبح المشهد فيها يُدار بقادة ميليشيات وعصابات تنتشر في المدينة والقرى، وفرّ ممثلوها في مجلس النواب من دوائرهم على الرغم من أن أغلبها بعيد عن سيطرة الحوثيين وليست قريبة من أماكن تواجدهم، وهو واقع دفع بالناس للجوء إلى جهات لا ترتبط بالقانون العام لتحل نزاعاتها ومشاكلها، كما فاقم من العزلة بين الناس و"الشرعية" التي لم تعد تقدم لهم أياً من الخدمات المُناطة بالدولة، ولم تعد تصرف مرتبات الموظفين إلا على فترات متباعدة جداً، وهكذا ابتعدت تعز بسبب تصرفات وجشع العديد من قياداتها عن مفهوم الدولة، وهي التي كان مواطنوها يرون فيها الملجأ الأوحد لحل مشاكلهم وتحقيق طموحاتهم، وما نسمعه ونراه في تعز من حالة الفوضى وانهيار الخدمات ينطبق على غيرها من المدن والقرى اليمنية شمالاً وجنوباً.
إن استدعاء التجارب الماضية بتجرد، ومن دون شطحات ولا شطط، هو الطريق الأمثل لتحاشي تكرار أخطائها والوقوع في نفس مطباتها السابقة، ولكن المشهد الحالي يثبت أن القبول بذلك لا يزال بعيداً، ولهذا يتكرر الفشل واستمرار الدوران الحلزوني صعوداً بالإعلان عن طموحات كبرى، ثم هبوطاً سريعاً للارتطام بالقاع الصلب من الواقع، ذلك أن استخدام الآليات نفسها وذات الأدوات ومنهجية التعاطي مع الأزمات، لا يمكن له أن يحقق نتائج مختلفة عن تلك التي تمت مواجهاتها في الاتفاقات الماضية. ومن هنا فمن الطبيعي أن تكون أسباب فشل التجارب الماضية حاضرة على الدوام، لأن الإصرار على إعادة إنتاجها بصيغ مختلفة ومسميات مبتكرة، ليس إلا محاولات يُدرك الجميع مشهدها الختامي.