Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رشا عدلي تروي مصر الحديثة والإرث العثماني 

في رواية "على مشارف الليل" لا تتطلع الشخصيات المعطوبة إلى المدينة الفاضلة

مشهد من القاهرة في الستينيات من القرن الماضي (ويكبيديا)

في روايتها "على مشارف الليل" الصادرة عن الدار العربية للعلوم- ناشرون 2020، قررت الكاتبة المصرية رشا عدلي أن تصنع عالماً تتغير فيه الأزمنة والأمكنة والأقدار بينما تبقى النفس البشرية على تعقيداتها، فلا هي تنتصر لفطرتها الطيبة ولا هي تستسلم لنوازع الشر الكامنة فيها، لكنها دوماً تخلق واقعاً معطوباً، يشبه ما فيها من عطب ثم تتمرد عليه بأحلام غير مشروعة في المدينة الفاضلة... وفي هذا الواقع المعطوب تدور الأحداث.

فضاءات متعددة

عددت الكاتبة الفضاءات الزمنية داخل السرد فراحت تتجول بين حقبٍ من الماضي والحاضر، تشاركت جميعها، أحداثاً ثورية كانت مخاضاً لتغييرات سياسية واجتماعية كبيرة.

فكانت البداية في شتاء 2012  "الفترة التي أعقبت ثورة يناير (كانون الثاني)"، ثم استدعت حقبة الخمسينيات "قبيل ثورة يوليو (تموز) وما بعدها"، وجاء الفضاء الثالث في منطقة أبعد من الماضي، حيث  الثورة التركية في إسطنبول والتي كانت لها تداعياتها وتأثيرها على الشخوص.

 بدا للوهلة الأولى أن كل زمن في البناء الروائي مستقل بذاته ومنفصل عن الآخر، إلا أن الأحداث سرعان ما تشابكت لتتلاقى خيوط النسيج، وبذات التنوع في الفضاءات الزمنية تنوع كذلك الفضاء المكاني للسرد وامتد بين القاهرة وباريس وإسطنبول، لتخترق الكاتبة في رحلتها مسافات بعيدة في الزمان والمكان وداخل النفس أيضاً.

مزجت "العدلي" بين السرد الأفقي المتتابع، والعودة إلى الماضي عبر تقنيات التذكر والاسترجاع، ومزجت كذلك بين أسلوبي السرد الذاتي والراوي العليم، وبدأت منذ اللحظة الأولى للأحداث بتمرير رؤاها الفلسفية. ولذا اختارت أن تكون بداية الحكي، نهاية قصة حب وتصريح بالتعافي من آثار خذلان، لتشي عبر ذلك  بصيرورة واستمرارية الحياة التي تحمل البداية والنهاية في جعبة واحدة فتكون كل نهاية بداية جديدة، وتكون كل بداية خطوة باتجاه الانتهاء.

وعبر شخصيتها المحورية "ريم" قدمت الكاتبة أجوبة ضمنية لأسئلة تقترن بالثورات الشعبية: لماذا تقوم ولمَ لا تسفر عن شيء، ولماذا يستحيل واقع المجتمع بعدها من القاتم إلى الأكثر قتامة؟

كذلك ربطت حال الواقع والمجموع بحال الفرد فغاصت أكثر داخل النفس الإنسانية مشرّحةً أمراضها وكاشفةً عن دوافعها، تنزع عنها غطاءها فتظهر هزائم الطفولة وخذلان الآباء في كل فصلٍ من فصول العمر. فـ"ريم" الفتاة التي تخلى عنها أبواها في طفولتها، والتي أخبرتها أمها إنها جاءت الحياة على سبيل الخطأ. والطفلة التي تحملت الصفع حينما كانت في حاجة للعناق، باتت شابة منعزلة، مازوخية، مهزومة ولا مبالية. وهنا تظهر فلسفة الكاتبة مرة أخرى لتشي أن ميراث القهر لا ينفد أبداً، وأن خراب نفس واحدة قد يكون نواة خراب مجتمعات بأكملها، وما دام العطب ضارباً في جذور النفوس، فلا ثورات تًنجيها.

ولعل الكاتبة أرادت أن تؤكد فداحة الكارثة وشيوعها وأن تفسر واقعاً كريهاً يخبو فيه الحب كشمس توارت عند مشارف الليل، بما وشى به السرد من فشل محاولات شخصيتها المحورية "ريم" في التخلص من عقد الماضي، والشعور بفقدان الأم والأب. فالهزائم لم تكن من نصيب طفولتها وحدها وما دام لكل أمرئ هزيمة تغنيه، فسلامة النفس أمر محال والحب الذي يُشفي إن وُلدَ في واقع كهذا، فيولد جنين مشوه لا يكتمل ولا يدرك الحياة.

من الواقع إلى التاريخ

يشتبك الحاضر مع الماضي والواقعي مع التاريخي داخل البناء الروائي بعد أن قادت الصدفة بطلة الرواية "ريم" إلى الأميرة فاطمة حفيدة السلطان العثماني عبد المجيد الثاني آخر خلفاء الدولة العثمانية لتعمل لديها في ترجمة مذكراتها من اللغة التركية إلى العربية. وعبر هذه المذكرات وعلى لسان الأميرة فاطمة تسلك الكاتبة أسلوب السرد الذاتي مستخدمة الفلاش باك للعودة إلى عشرينيات القرن الماضي بعد قيام الثورة التركية وانتهاء الخلافة العثمانية. وتضع ظلالاً حول المصائر التي يتقاسمها الحكام بعد ثورات شعوبهم عليهم، وتدخل إلى كواليس السلطة فتكشف عن تاريخ آخر يكتبه المهزوم لا المنتصر.

تتدافع الأحداث التي ترصد الحقائق التاريخية والسيرة الذاتية للأميرة فاطمة منذ ولادتها في إسطنبول وإجبار عائلتها على مغادرة بلادهم بعد الثورة وتحول الحكم الملكي إلى جمهوري،  ثم نشأتها في مدينة نيس بفرنسا، لتلتئم أخيراً خيوط النسيج المتفرقة بعد قدوم الأميرة ابنة السلاطين من فرنسا إلى مصر لتتزوج من الأمير محمد عبد المنعم ابن الخديوي عباس حلمي الثاني وتصبح جزءاً من الأحداث المفصلية في تاريخ مصر مع قيام ثورة يوليو واختيار الأمير عبد المنعم وصياً على العرش خلفاً للملك المعزول "الملك فاروق".

تتصاعد الأحداث وتبلغ العقدة ذروتها مع اتهام الأميرة وزوجها بالتآمر على جمال عبد الناصر وسعيهما لقلب نظام الحكم، ووضعهما تحت الإقامة الجبرية إلى أن تتم محاكمتهما لتبرئهما المحكمة، ومرة أخرى تغادر الأميرة منفية مهزومة من مصر إلى باريس.

الخطاب المعرفي

طعّمت الكاتبة روايتها بحمولات معرفية تاريخية كثيفة من دون أن تقع في فخ البحث أو هروب جمالية السرد وإنما تمكنت من توظيف الجرعات المعرفية في سياق البناء، لا سيما في ما يتعلق بالأحداث والشخصيات التاريخية بداية من السلطان عبد المجيد ومروراً بشاه زاد عمر فاروق أفندي والأميرة فاطمة وزوجها الأمير عبد المنعم وغيرهم من الشخصيات الأخرى السياسية من تنظيم الضباط الأحرار وحتى الشخصيات العالمية مثل مصممة الأزياء الشهيرة كوكو شانيل، بل تطرقت الكاتبة لأبعد من ذلك فرصدت مظاهر وعادات اجتماعية بغيضة في بعض المجتمعات الأفريقية لتنساب المعرفة داخل السرد في سلاسة.

أثناء رحلتها في فضاءات ممتدة عبر الزمان والمكان، تعمدت الكاتبة نكأ جراح الماضي وتعريتها ثم التقطت لها صوراً، جاورتها إلى جانب صور من الواقع لتثبت أن لا شيء تغير، فطبقية الماضي تقابلها محسوبية الحاضر، والفسادُ لم يجاوز النفوس والعدالة غائبة عن المشهدين، والأخلاق شهيدة تحت سيف القهر، والحرية موؤودة ليس عند العامة وحدهم ولكن عند ملوكهم أيضاً، فالكل يحيا حياة تفتقر للحياة.

تنوعت الشخوص داخل النص بين شخوص حقيقية يعرفها التاريخ وشخوص أنجبتها المخيلة الخصبة، أما الشخوص الحقيقية فقد سلكت الكاتبة في اختيارها مسلكاً مغايراً لتبرز الأقل نصيباً من الأضواء، لذا جعلت شخصية البكباشي رشاد مهنى - على سبيل المثال - وهو أحد عناصر تنظيم الضباط الأحرار، شخصية محورية داخل السرد بينما كانت الأسماء البارزة من رجال الثورة في خلفية المشهد وكان اختيارها متسقاً مع مضمون نسيجها الذي كانت المساحة الأكبر فيه للضحايا والمهزومين، ومتسقاً كذلك مع نسق الأحداث، نظراً لتعيين مهنى عضواً في مجلس الوصاية على العرش وعلاقته آنذاك بالأمير عبد المنعم زوج الأميرة نسل شاه.

ولم يكن استدعاء التاريخ في البناء الروائي وحده، تجسيداً لصدقية أوواقعية الأحداث والشخوص، فحتى تلك الشخوص المتخيلة كانت شديدة الشبه بشخوص تحيا وتتنفس في الواقع المعيش، تحايلت الكاتبة على نمطيتها بسبر أغوارها والكشف عن المخبوء في أعماقها بينما كانت الشخصية الثانوية للأم خارجة عن كل سمات التنميط ومغايرة للمألوف من كونها منبع العطف والرحمة، فكانت في البناء الروائي جوهر المأساة وأول العهد بالخذلان.

الحوار والمونولوغ

لجأت الكاتبة إلى تقنية الحوار المسرحي التي تخللت السرد بكثافة، ما زاد من واقعية وحضور الأحداث، وحرصت على استخدام الفصحى السلسة في مجمل السرد حتى في مواضع الحوار، وكان لجوؤها إلى المونولوغ الداخلي ضرورة سردية حتمية وموفقة تمكنت من خلالها، من دعم قرارها بالغوص داخل النفس وتعرية آلامها وآثامها وكل حيلها للتعايش؛ لجلدها مرة ومسامحتها مرات، وهكذا بدت هواجس الشخوص ومخاوفها جلية، وكان أكثرها الخوف من الفقد والفراق سواء فراق الوطن أم الأم أم الحبيب.

لكن مع اتجاه العقدة إلى الحلّ، حررت الكاتبة شخصيتها المحورية "ريم" من مخاوفها ووجدت لها طريقاً للتخلص من ميراث الطفولة الثقيل، ثم ضخت في نسيجها دفقات من الأمل تجابه الحزن الذي ارتسم على وجوه كل الشخوص واختارت نهاية بنكهة الميلاد تحمل بداية جديدة بالحيلة السردية ذاتها التي جاءت في بداية النص، لتشي مرة أخرى بفلسفتها، أن كل نهاية تحمل في طياتها بداية جديدة وأن كل بداية خطوة نحو نهاية ما.

المزيد من ثقافة