Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

انقلابات السودان... سوار الذهب نموذج يتيم للتخلي عن السلطة

شهدت البلاد 3 انقلابات رئيسية من الفريق عبود عام 1958 إلى جعفر النميري عام 1969 إلى انقلاب البشير عام 1989

على الرغم من طول الممارسة السياسية في السودان بين فترات ديمقراطية قصيرة ومتقطعة، وانقلابات عسكرية طويلة، فإن الخيار العسكري صبغ تاريخ السودان السياسي. ومع أن استقلال السودان عام 1956 جاء متزامناً مع تحرك الموجة الديمقراطية الثانية التي بدأت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتطلع إلى الديمقراطية، إلا أن الردة عنها كانت سريعة. إذ بدأت الإنقلابات العسكرية تسري عدواها في دول القارة الأفريقية حديثة الاستقلال. وبهذا الإرث المعقد، ظل السودان يصارع أنواء الإنقلابات التي قوضت ركائز الدولة، التي على الرغم من طولها فإنها لم تنجح في تشكيل مفهوم الدولة.

صناعة حزبية

قال مبارك الفاضل المهدي، رئيس حزب الأمة السوداني (الإصلاح والتجديد) والوزير السابق لـ"اندبندنت عربية"، "لم تكن الإنقلابات في السودان مبادرة عسكرية وإنما صناعة حزبية من الأحزاب العقائدية (الإخوان المسلمين والشيوعيين والبعثيين)، إذ درجوا على تجنيد كوادر داخل القوات المسلحة من خلال إدخالهم كطلبة حربيين وتخريجهم كضباط ليكونوا نواة لتنظيماتهم داخل القوات المسلحة. ولأن هذه الأحزاب لا تمثل عمقاً شعبياً، فهي غير قادرة على الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، لذلك تلجأ إلى المؤسسة العسكرية".

وتعرض المهدي للإنقلابات الثلاثة الرئيسة في السودان. "الأول كان انقلاب جنرالات (تسليم وتسلم) من الأميرالاي عبد الله خليل، ونفذه الفريق إبراهيم عبود عام 1958، بعد ما وردت معلومات بأن صلاح سالم، عضو مجلس قيادة ثورة 1952 المصرية، أكمل الترتيبات لاستمالة عدد كافٍ من النواب في السودان ليصوتوا داخل الجمعية التأسيسية للوحدة مع مصر والتراجع عن الاستقلال". 

ويواصل المهدي "الانقلاب الثاني هو انقلاب الحزب الشيوعي الذي نفذه جعفر النميري عام 1969 بتحالف مع مصر والقوميين العرب، وتم الاتفاق على يد جمال عبد الناصر في مصر. وكانت هناك محاولة انقلابية نفذها عبد الخالق محجوب، القيادي بالحزب الشيوعي عام 1971 مع هاشم العطا وفاروق حمد الله، لكنها فشلت لتبايناتٍ بين اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ومجموعته، مما أدى إلى إعدامه مع رفاقه".

أما الإنقلاب الثالث، "فهو انقلاب الجبهة الإسلامية القومية، الذي نفذه عمر البشير عام 1989. وكانت هناك محاول انقلابية فاشلة عام 1990 في شهر رمضان نفذها حزب البعث العربي الاشتراكي وتم الترتيب لها في العراق بمشاركة بعض الضباط الوطنيين".

قدرات محدودة

يرى المهدي في أسباب الخلاف بين المكونات السياسية والعسكرية أن "الأحزاب السياسية والطائفية ليس لديها برامج ودراية بقضايا الحكم والوطن، وإنما لديها طموح في الحكم، ويعتقد قادتها أن لديهم حقاً إلهياً في أن يحكموا السودان بمنطق أنهم صفوة المتعلمين، لذا عندما يأتون إلى تطبيق أيديولوجيتهم غير المرتبطة بالواقع، تفشل".

كما يعتقد أنه "عندما يستلم العسكريون الحكم يكتشفون محدودية قدرات السياسيين في الأحزاب العقائدية وانتهازيتهم، وتتغلب الشخصية العسكرية على المدنية ويستولون على السلطة فيصبح المدنيون الذين نفذوا الإنقلاب ضحية له، مثلما حدث لقادة الحزب الشيوعي، ومثلما حدث لحسن الترابي وحزبه".

وأشار إلى أن تحكم الأيديولوجيا بالممارسة السياسية أضر بالاقتصاد عن طريق "تطبيق النظرية الشيوعية بتأميم البنوك والشركات ومصادرتها، والتطهير في الخدمة العامة، وكذلك فعل الإخوان المسلمون، بأن بدأوا بعملية المصادرة وطرد الموظفين من الخدمة المدنية وتمكين عضوية الحزب والسيطرة على الاقتصاد".

حاضنة سياسية

ويعتبر المهدي أن "من أسباب فشل الأنظمة الإنقلابية أنها تأتي بحاضنة سياسية، فمثلاً أتى النميري بحاضنة شيوعية وحاول أن يؤسس مشروعية سياسية شعبية عبر تنظيم فوقي، هو تنظيم الاتحاد الاشتراكي على نهج عبد الناصر، أي أن الدولة هي التي تصنع الحزب، والتنظيم  هو الذي يوفر السند السياسي والشعبي للدولة. ولما أعدم قادة انقلاب 1971، تحول إلى الغرب والخليج، إذ حصل على 6 مليارات دولار أضاعها في مشاريع فاشلة، وترتبت عليها مديونية تراكمت مع الفوائد حتى وصلت الآن إلى 55 مليار دولار".

ولفت رئيس حزب الأمة (الإصلاح والتجديد) إلى أن "الأنظمة العسكرية السودانية كانت تلجأ إلى حاضنة خارجية تحميها من شعوبها وتدعمها، فالنميري دخل في تحالف (السادات- أميركا) ضد حلف عدن (اليمن الجنوبي- إثيوبيا- ليبيا) الذي كان في كنف المعسكر الشرقي أثناء الحرب الباردة. في المقابل، احتضن حلف عدن التمرد في جنوب السودان الذي حدث عام 1983 بقيادة جون قرنق، بتجنيد قواته وتسليحها وتدريبها بواسطة الضباط الكوبيين، مما أنتج الحرب الكبرى والتمرد الكبير في جنوب السودان، الذي أدى في النهاية إلى انفصال الجنوب".

وأضاف "كما فتح الإسلاميون السودان للحركات الإسلامية والراديكالية المتطرفة، وبدأوا برنامج محاولة تغيير الأنظمة العربية بتدريب ودعم الحركات المتطرفة لتخلق اضطرابات في الخليج ومصر والسعودية. كما لجأت الإنقاذ إلى التحالفات الخارجية ودخلت في سياسة المحاور مع قطر وإيران ودعم الحركات الفلسطينية من أجل المال، ولما لم تستفد تحولت عنه".

دائرة جهنمية

وبرأي اللواء الدكتور أمين مجذوب، المحلل الإستراتيجي في مركز الدراسات الدولية، أن "وجود القوات المسلحة في الحياة السياسية أملته طبيعة الدولة السودانية ووضعها الجيواستراتيجي، وبداية التمرد في الجنوب قبل الاستقلال، وبعد ما أصبحت الحرب واقعاً لازم القصور الحكومات المدنية في تعاملها مع التحديات الأمنية التي استمرت 55 عاماً، حتى انفصال الجنوب. ثم كان صراع دارفور سبباً في وجود تهديدات أمنية، كما توجد مهددات إقليمية ودولية محيطة".

وفي السياق ذاته، يرى مجذوب أن "الدائرة الجهنمية للحكم (مدني- عسكري– مدني) تسببت في عدم وجود دستور دائم في البلاد حتى الآن. كما تسببت في عدم الوصول إلى شكل حكمٍ متفق عليه في الدولة السودانية، إذ تراوحت ما بين رئاسي وبرلماني ومختلط".

ووفقاً لدور القوات المسلحة التاريخي في الحياة السياسية، يتوقع مجذوب أن الوضع الحالي لا يخرج عن أحد السيناريوهات الثلاثة، وهي "التنسيق بين المكون المدني والعسكري وتنفيذ الوثيقة الدستورية والخروج بالفترة الانتقالية إلى بر الأمان والانتقال الديمقراطي، أو أن تحتدم الاختلافات وتبادل الاتهامات وتحميل كل طرف الآخر أسباب الأزمة والتدهور الأمني والمعيشي، وهذا سيؤدي إلى نزاع سياسي ليس في مصلحة الفترة الانتقالية ولا الأمن. أو أن تحدث مغامرات هنا وهناك لإعادة النظام السابق وبالتالي إعادة إنتاج ثورة أخرى بالمواكب والمليونيات".

سوار الذهب

عندما وجه الشارع السوداني رسالة إلى الحكومة الإنتقالية بتعديل مسار الثورة في مظاهراته الأخيرة، كان يغمز من قناة المجلس العسكري، ولم تُفك شيفرة الرسالة لتصل إلى قادة الأحزاب التقليدية الذين يحاولون النفاذ إلى الحكم من خلال العسكر. فالتاريخ السياسي شهد حالة واحدة نادرة ولكنها ليست مستحيلة، حينما قام رئيس المجلس العسكري المؤقت، المشير عبد الرحمن سوار الذهب بالتنازل عن السلطة طوعاً وفاءً بوعده بأنه سيتخلى عنها خلال عام واحد لحكومة منتخبة، فقام بتسليمها إلى حكومة الصادق المهدي عام 1986 لتبدأ فترة الديمقراطية الثالثة. وكان سوار الذهب قد تسلم السلطة في الحكومة الإنتقالية عقب الإنتفاضة الشعبية في أبريل (نيسان) 1985 التي أسقطت نظام النميري. وتتشابه الظروف المحيطة بالفترة الإنتقالية الحالية من تدهور اقتصادي وازدياد غضب الشارع، مع تلك التي دفعت سوار الذهب إلى الوفاء بعهده. وللوصول إلى نموذج سوار الذهب يحتاج الأمر إلى تنسيق بين المكون المدني والعسكري كأحد السيناريوهات المطروحة وفقاً لتجارب الإنتقال بين أشكال الحكم التي خبرتها الدولة السودانية.

صراع القوى

الفريق أول ركن محمد بشير سليمان، وعن العلاقة بين العسكر والمدنيين، يقول إن "دوافع الإنقلاب هي فشل الحكومة في إدارة الدولة. وهذا ما يؤدي إلى صراعات بين القوى السياسية، وبالتالي إضعافها وفتح الباب للتدخلات الخارجية سواء كانت إقليمية أو دولية".

وأوضح سليمان أن "الانقلابات، وفق التجارب الماضية، تحدث عندما يشعر العسكريون بأن السلطة المدنية فاشلة وتصطرع من أجل المصالح الذاتية والشخصية، وعند تحول الحكم المدني إلى ديكتاتورية سياسية مدنية في إطار الحزب الواحد، وهي أخطر من العسكرية بسبب امتلاكها القوى البرلمانية وسيطرتها على القوى المدنية والاقتصادية والأمنية". و"إذا أهملت السلطة الحاكمة بناء القوات المسلحة وتطويرها وعدم الاهتمام بقضاياها الاجتماعية. وهناك أيضاً الصراع الأيديولوجي أو السياسي، وإذا أحست هذه القوى بعجزها عن الوصول إلى السلطة من خلال الانتخابات كتجربتي النميري والبشير. أو إذا تحول الحكم المدني إلى الجهوية والقبلية بإقصاء الآخرين".

مشروع وطني

ويركز سليمان على أن "العيب في السياسة السودانية منذ الاستقلال إلى ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، أنه لم يكن هناك مشروع وطني على المستوى المدني أو العسكري يؤطر لهدفٍ استراتيجي أساسي ألا وهو كيف يتحقق مشروع الوحدة الوطنية القائمة على دولة المواطنة والهوية الجامعة والقسمة العادلة للسلطة والثروة. كما لا توجد رؤية واضحة وبالتالي لم تستطع كل العهود تحقيق التنمية والبناء، لعدم تحقق الاستقرار والسلام". وأضاف أن "الانقلابات نفسها تتحول إلى حكم الحزب الواحد عندما يبحث العسكريون عن مناصرين ومؤيدين للسلطة فيجدون السند في صفوة المثقفين، ويكونون جسماً سياسياً يتحول إلى حزب دولة أمنية وتبدأ مرحلة الفساد. وأوضح مثال على ذلك، هو حزب المؤتمر الوطني الذي شق الحركة الإسلامية بالخروج من دائرة حسن الترابي واستقطب القبائل وفكك بقية الأحزاب بضمها داخل المؤتمر الوطني". ويرى سليمان أن "التجربة نفسها تتكرر الآن باستقطاب قوى الحرية والتغيير عدداً كبيراً من المسميات والأحزاب مما صعب التعامل معها إقليمياً ودولياً، وخلق بيئة سياسية مهيأة لانقلابٍ وشيك بتحريض من القوى السياسية الأخرى أو إذا شعر العسكريون بأن الدولة في طريقها إلى الذوبان".

في الواقع، لا تقتصر أزمة الدولة السودانية على غياب الديمقراطية وحدها، إنما تتمثل في الصنمية الموروثة من السلطة العسكرية وصنمية الأحزاب على السواء، مما قد يصعب مهمة التحول الديمقراطي، ويمهد لتدخل الجيش في الحياة السياسية كمحاولةٍ لإعادة ترتيب شكل الحكم.

المزيد من تقارير