Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما عقبات تسليم البشير لـ"الجنائية"؟

زادت وتيرة التكهنات المتأرجحة بين الموافقة والرفض

الرئيس السوداني السابق عمر البشير (أ ف ب)

على مدار ما يقرب من ثلاثة أعوام، منذ قيام ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، ومنذ تجدد المطالبة بتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، وعلى رأسهم الرئيس السابق عمر البشير، وعد مجلس السيادة الانتقالي بعد تسلمه الحكم في فبراير (شباط) 2020 بمثول البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية.

وبعد ذلك بدأت تظهر مخاوف متنامية إزاء ما يحيط بقرار التسليم، فمن جهة كان التركيز على ضرورة التسليم، وهذا يقوده الشق المدني في مجلس السيادة الانتقالي، أما الشق العسكري فهو يتأرجح بين التسليم والرفض، ولا يزال موقفه متذبذباً.

ونظراً لهذين الموقفين، فمن السابق للأوان القطع بما قد يسفر عنه اجتماع مجلسي الحكم، والذي يتوقع ألا يخرج بقرار واضح وقاطع في هذا الشأن، ولكنه سيضع الأساس لأحد المسارين المحتملين إما القبول بالتسليم أو رفضه.

في المقابل، زادت وتيرة التكهنات المتأرجحة بين الموافقة والرفض، بعد زيارة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم أسد خان، إلى الخرطوم الأسبوع الماضي، والتي أتت بغرض البحث في كيفية رفع وتيرة التعاون بخصوص التحقيقات الجارية حالياً في شأن على كوشيب الذي سلم نفسه إلى الجنائية الدولية في يونيو (حزيران) من العام الماضي.

وعلى الرغم من تصريح وزيرة الخارجية مريم المهدي بموافقة مجلس الوزراء على التسليم، فإن الخطوة الحاسمة ستتجاوز ما سيخرج به الاجتماع المشترك بين المجلسين، مدعومة بالإسراع إلى التصديق على نظام روما الأساسي كدليل على التزام وإثبات نية الحكومة بقرار التسليم. وبعد التزام الحكومة بتوفير المعلومات المطلوبة عن كوشيب في سبتمبر (أيلول) القادم، قالت الحكومة للمدعي العام، إن مسألة تسليم البشير هي مسألة وقت، وستتم في الوقت المناسب.

تحشيد متعمد

ضمّت مذكرة التفاهم التي وقّع عليها من جانب الحكومة السودانية وزير العدل، نصر الدين عبدالباري، ومن المحكمة الجنائية الدولية المدعي العام، كريم أسد خان، الخميس الماضي، بالخرطوم، جميع الأشخاص الذين صدرت ضدهم أوامر قبض من المحكمة الجنائية الدولية.

فالبشير تلاحقه المحكمة الجنائية الدولية منذ عام 2009، نتيجة تحقيق للأمم المتحدة بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور، ثم تمت إضافة تهمة الإبادة الجماعية عام 2010. أما الأشخاص المعنيون، فأبرزهم عبدالرحيم محمد حسين، وزير الدفاع والداخلية في عهد البشير الذي أصدرت المحكمة مذكرة اعتقال بحقه في عام 2012، وأحمد هارون وزير الدولة للشؤون الإنسانية في عهد البشير الذي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه، إضافة لعلي كوشيب في عام 2007.

وهذه الاتهامات نظرياً، وبحسب ما أوردته لائحة الدعوى، تتوفر في حالة اتهام الرئيس السابق عمر البشير ومعاونيه، بما شهده إقليم دارفور في الفترة من 2003 إلى 2008، من نزاعات مسلحة بين القوات الحكومية والحركات المسلحة المتمردة على النظام، حيث أودت بحياة نحو 300 ألف شخص ونزوح ولجوء 2.5 مليون شخص داخل السودان وفي دول الجوار.

وركزت المنظمات الحقوقية الدولية على أن الضحايا هم من القبائل التي تعود بجذورها إلى إثنيات أفريقية ظلت في حالة تداخل قبلي بين غرب أفريقيا والسودان، وهم من قبائل الفور والمساليت والزغاوة. كما توارد أيضاً استخدام البشير تحشيداً متعمداً للقبائل العربية في الإقليم ضد القبائل الأفريقية معتمداً على جذور خلافات قديمة بين الإثنيات المختلفة على الحواكير (الحقوق القبلية في ملكية الأراضي).

العقبة الأفريقية

منذ عام 2009 كان البشير رافضاً الاعتراف بالمحكمة الجنائية الدولية، ويقول إنها أداة "استعمارية" و"مسيسة" وموجهة ضد السودان وبقية الدول الأفريقية، واعتمد في ذلك على مقترح إنشاء "محكمة جنائية أفريقية" لتكون تابعة للمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب التي تأسست في عام 1988، ودخلت حيز التنفيذ في عام 2005.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لم تنجح هذه المحكمة في أن تكون بديلاً عن المحاكم الدولية، فعادةً ما تلجأ الدول الأفريقية في نزاعاتها إلى المحاكم الدولية. وتزامن مقترح "المحكمة الجنائية الأفريقية" مع انسحاب عدد من الدول الأفريقية من المحكمة، إلا أن المقترح الجديد واجهته عقبات التمويل، والتشكيك في إمكانية تعاون دول القارة مع محكمة إقليمية لمقاضاة رؤسائها، وهم الرافضون التعاون مع المحكمة الدولية، ومقدرة المحكمة الأفريقية على تحقيق العدالة وضمان عدم إفلات الجناة وحماية الشعوب الأفريقية. وذلك في ظل شكوى عدد من المنظمات الحقوقية الأفريقية المناهضة للتعذيب والإعدام والسجن التعسفي، الذي مارسته أنظمتهم في أفريقيا، ولم تجد إنصافاً من المحكمة الإقليمية.

والأهم من ذلك أن المحكمة الأفريقية لن تكون بديلاً مقنعاً تحمي من ملاحقة المحكمة الدولية لأنها بموجب المادة 13 (ب) من نظام روما الأساسي "يمكن لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن يحيل قضية ما إلى المحكمة الجنائية الدولية بغض النظر عما إذا كانت الدولة طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية أم لا".

وظل البشير يستعرض تحدّيه للمحكمة الجنائية الدولية، لأنه كان مدعوماً بشكل أساسي من الرئيس الليبي الأسبق معمر القذافي الذي تولى رئاسة الاتحاد الأفريقي في الفترة من 2 فبراير (شباط) 2009 إلى 31 يناير (كانون الثاني) 2010، ورئيس زيمبابوي السابق روبرت موغابي الذي تولاها في الفترة من 30 يناير 2015 إلى 30 يناير 2016، وما يُكنّانه من عداء للغرب والأوروبيين ووصفهم للمحكمة الدولية بأنها انتقائية ومخصصة للنيل من سيادة الدول الأفريقية.

حسابات تنظيمية

في تتابع سريع للأحداث، وقّع سفراء ورؤساء بعثات دبلوماسية على بيان رحبوا فيه بالتقدم في قضية كوشيب، والتزام مجلس الوزراء في يونيو الماضي بتسليم المشتبه فيهم الآخرين، وهم سفراء وبعثات كندا والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وإيرلندا وإيطاليا وهولندا والنرويج وإسبانيا والسويد وسويسرا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.

ويشبه هذا الإجماع الوضع الذي كان عليه الحال عام 2005، عندما أحيلت قضية دارفور من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فلم تكن هناك معارضة للقرار من أعضاء مجلس الأمن، ومن ضمنها دول عربية وأفريقية. وصوت أحد عشر عضواً من أعضاء المجلس لصالح القرار، وهي المملكة المتحدة وفرنسا وروسيا واليابان والدنمارك والفيليبين والأرجنتين واليونان وتنزانيا ورومانيا وبنين، بينما امتنعت عن التصويت أربع دول هي الولايات المتحدة والصين والبرازيل والجزائر.

ظلت الحكومة السابقة تردد أن السودان ليس طرفاً في النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، وغير معني بما يسمى قرارات تلك المحكمة. وعلى الرغم من أن السودان غير موقع على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، فإن المحكمة تصر على سريان ولايتها القضائية على الجرائم التي ارتكبت في دارفور، وتقول إن التوقيع يمكن أن يتم لاحقاً.

هنا، ربما تتلاشى حجة عدم توقيع السودان على ميثاق روما، ليظهر أن تردد المجلس العسكري يشير إلى حسابات تنظيمية داخل المؤسسة العسكرية أكثر منها مسائل إجرائية، وهي أن هذا التبرير يأتي كسباً للزمن لحسابات تتعلق بالمؤسسة العسكرية كون البشير قيادياً سابقاً في القوات المسلحة. ومخاوف أخرى تتعلق بأن التحقيق مع البشير ومعاونيه قد يجر آخرين من المؤسسة نفسها إلى المحكمة.

وهذه الفرضية إن صحّت وذهبت في هذا الاتجاه فسيكون تأثيرها وخيماً على المجلس العسكري الذي يمسك بزمام البلد، ويقاتل على الحدود الشرقية في النزاع الحدودي مع إثيوبيا، ويصدّ هجمات الحركات المسلحة غير الموقّعة على اتفاقية السلام في دارفور، وقد تتعرض الثقة الشعبية في مؤسسة الجيش إلى هزات عنيفة. ومن ناحية أخرى من المتوقع أن يضعف ذلك نقاط ارتكاز المجلس العسكري في المجلس السيادي الانتقالي.

استراتيجية قادمة

في سياق متصل، رفض المجلس العسكري من قبل تسليم البشير، ولوح بإحالة القضية إلى القضاء الجنائي الوطني بالاعتماد على المادة 15 من ديباجة نظام روما، وكذلك المادة الأولى، التي "حدّدت اختصاصاً مشتركاً بين المحكمة الجنائية الدولية والقضاء الجنائي في الدول الأطراف، وأن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليس بديلاً البتّة عن الاختصاص القضائي الجنائي الوطني"، فالعلاقة بين هذا الأخير وقضاء المحكمة الجنائية الدولية يقوم على أساس مبدأ التكامل.

ولكن الاختصاص الجنائي الوطني في الدول الأطراف في نظام روما تكون له دائماً الأولوية أو الأسبقية على اختصاص المحكمة الدولية. ووفقاً لمبدأ التكامل، تستطيع المحكمة الجنائية كأولوية ممارسة اختصاصها في حالات محددة مثل الانهيار الكلي للنظام القضائي الوطني أو عدم قدرة المحاكم الوطنية على محاكمة الأشخاص المشتبه فيهم، أو عدم رغبة الدولة حقاً في المقاضاة إذا لم تكن المحاكمة أمام القضاء الوطني مستقلة أو نزيهة أو غرضها تمكين الشخص من الإفلات من العقاب.

إذاً، يمكننا القول إن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية يقتصر على أشد الجرائم خطورة من وجهة نظر المجتمع الدولي، ولذلك فإن المحكمة الجنائية ستنظر في هذه القضية من هذا الباب بتصنيفها الذي يبدو أكثر دقة من تصنيف القضايا التي تنظر فيها المحاكم الإقليمية أو الوطنية، إضافة إلى أن القواعد القانونية أيضاً فيها اختلاف كبير، وفيها تداخل بين القانون الوطني واختصاصات المحكمة.

وعليه، يمكن أن يبني المجلس السيادي الانتقالي استراتيجيته القادمة على مساعدة المحكمة الجنائية الدولية على إعادة التركيز في جذور قضية دارفور من واقع عدم وصولها إلى سلام حتى الآن، على الرغم من سقوط نظام البشير، كما سيبذل وعوده بأنه بعد الثورة يمكن ضمان قضاء مستقل يؤهل لمحاكمة المطلوبين داخلياً، ويضمن عدم إفلاتهم من العقاب، وبإمكان الحكومة التعاون فنياً مع المحكمة.

ولكن هناك معضلة ستلفت النظر إلى ما يشار إليه من مبررات دمغ بها موقف المجلس العسكري بعدم التسليم الفوري، وهي أن موقفه يتوافق بشكل ما مع موقف أنصار حزب المؤتمر الوطني المحلول الرافض لتسليم البشير للمحكمة الدولية، من المنطلق ذاته، بأنه كان القائد العام للجيش.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل