Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هكذا تجري أميركا تجاربها النووية "الناعمة"

باستخدام مدافع ليزر وكمبيوترات عملاقة ونبضات ترج الأرض رجا

الأسلحة النووية الحديثة لم تعد تحتاج لتجربتها في الطبيعة (غيتي)

قبيل شروق شمس 16 يوليو (حزيران) 1945، غمر وميض انفجار غير مسبوق قمم جبال أوسكورا القريبة من صحراء نيو مكسيكو، قبل أن يحرق لهيبه المنبعث الرمال المحيطة بموقع التفجير. تركت قنبلة البلوتونيوم التي استخدمت للمرة الأولى في تاريخ البشرية، والتي عرفت في ما بعد بـ"اختبار ترينيتي"، حفرة ضخمة وحولت رمال الصحراء المحيطة إلى زجاج أخضر مشع. أقل من شهر على ذلك، أسقطت الولايات المتحدة قنبلة مماثلة على مدينة ناغازاكي اليابانية، بعد ثلاثة أيام من إلقاء قنبلة نووية أصغر فوق مدينة هيروشيما. أنهت القنبلتان الحرب العالمية الثانية فعلياً، بعد ما حصدتا أكثر من 100 ألف مدني ناهيك عن مئات آلاف المصابين.

كان قصف ناغازاكي، المرة الثانية والأخيرة التي يستخدم فيها السلاح النووي بشكل مباشر ضد دولة أخرى، لكنه لم يكن التفجير النووي الأخير. ذلك أن التجارب النووية لم تنته بانتهاء الحرب العالمية الثانية. ومع حلول عام 1996، حين وقعت الولايات المتحدة "معاهدة الأمم المتحدة للحظر الشامل للتجارب النووية"، كان الفيزيائيون والمهندسون الأميركيون قد أجروا أكثر من 1000 اختبار نووي تجريبي؛ في المحيط وفوق الأرض وتحتها وفي الفضاء. وفي ذروة برنامج الاختبارات، بلغ متوسط التفجيرات النووية واحداً كل أسبوع.

معاهدات الحظر

هدفت معاهدات حظر التجارب النووية عبر التاريخ، إلى إنهاء كل مظاهر الفوضى النووية لدى الجانبين الأميركي والروسي. إذ حُظرت التجارب النووية في الغلاف الجوي بداية في أوائل ستينيات القرن الماضي جراء مخاوف صحية وأخرى تشغيلية، وهي مخاوف لها ما يبررها؛ ففي خمسينيات القرن الماضي، أخطأ الفيزيائيون الأميركيون في تقدير الناتج المتفجر لقنبلة نووية حرارية أثناء اختبار في المحيط الهادي. وقد تسبب التعرض لتداعيات هذا التفجير في إصابة سكان الجزر المحيطة بموقع الاختبار بأمراض إشعاعية. كانت الحسابات الخطأ من هذا النوع شائعة بشكل مؤلم. بضع سنوات على ذلك، أسقط قائد إحدى القاذفات الإستراتيجية، عن طريق الخطأ، سلاحاً نووياً على "قاعدة كيرتلاند الجوية" في نيومكسيكو. لكن لحسن الحظ، لم ينطلق تفاعلها النووي المتسلسل حسب موقع "ذي أفيونيست".

وقعت الولايات المتحدة على معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية- وهي اتفاقية ثنائية مع الاتحاد السوفياتي لوقف التجارب فوق الأرض- في عام 1963، مما أدى إلى تسريع وتيرة التجارب النووية تحت الأرض؛ إذ فجرت واشنطن قنابل نووية خلال السنوات السبع التالية على التوقيع أكثر مما فجرت في السنوات الـ18 السابقة. يقول هيو غوسترسون، عالم الأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا البريطانية وخبير الأحياء المتخصص في أبحاث الأسلحة النووية، في كتابه "أصحاب القنبلة" "لم يكن لدى الباحثين آنذاك فرصة للتوقف والتقاط الأنفاس. كانت هذه التفجيرات مخالفة لروح معاهدة حظر التجارب. إذ لم يكن الهدف منها تأكيد موثوقية أسلحة الردع النووية أو التعرف على الفيزياء الأساسية للسلاح، بل كان يتعلق بتطوير تصميمات جديدة لقنابل أكبر وأشد فتكاً".

أنهت الولايات المتحدة الاختبارات تحت الأرضية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، أي سنوات قبل توقيعها معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، رغم احتجاج رؤساء مختبرات الأسلحة الوطنية الثلاثة في البلاد "لورانس ليفرمور، وسانديا، ولوس ألاموس"، الذين حاربوا بكل ما أُتوا من قوة لمنع الحظر، على حد قول غوسترسون. فقد كانوا قلقين من أن يقلل الحظر من موثوقية الأسلحة النووية الأميركية، ومن منع الجيل القادم من المصممين من امتلاك ناصية العلم الذري. والأهم من هذا وذاك، أنهم رأوا في الحظر تهديداً وجودياً للمعامل ذاتها.

دور المختبرات

وصل مارك تشادويك، كبير علماء "مديرية فيزياء الأسلحة" لدى لوس ألاموس، إلى هذا المختبر في عام 1990 بعد نيله دكتوراه الفيزياء من جامعة أكسفورد. في ذلك الوقت، كان ثمة الكثير من الجدل المحتدم بين علماء لوس ألاموس حول مستقبل المختبر. يقول تشادويك لموقع "sfbbrands" "اعتقد بعض الباحثين آنذاك أنه سيتعين على المختبرات أن تكافح للعثور على عمل، وأن مهمة الردع النووي الإستراتيجي ستتلاشى". لكن ما حدث كان مغايراً. فبعد حظر التجارب، أنفقت واشنطن موارد هائلة على برنامج جديد يدعي "الإشراف على المخزونات" هدف إلى الحفاظ على موثوقية أسلحتها النووية الرادعة البالغة زهاء 4000 رأس حربي نشط. وكان أساس البرنامج تنفيذ تجارب نووية افتراضية، اعتماداً على أفضل وأحدث المعدات التجريبية وأغلاها ثمناً، لمحاكاة طبيعة عمل هذه الرؤوس من دون حاجة إلى تفجيرها.

يقع مختبر لورانس ليفرمور الوطني في قلب برنامج "الإشراف على المخزونات"، وهو عبارة عن مجمع مترامي الأطراف يمتد عبر خليج سان فرانسيسكو، ويضم "منشأة الإشعال الوطنية"، التي تستخدم أقوى مدفع ليزر في العالم والقادر على إعادة خلق الظروف الموجودة في قلب انفجار نووي. تقول كيم بوديل، المدير المساعد لمديرية الأسلحة والدمج المعقد في ليفرمور "التجارب الافتراضية تختلف عن التجارب الحية، فهي جد معقدة وأكثر ثراء وتبين لنا ما يحدث حقيقة لدى إشعال رأس نووي".

عندما كان الجيش الأميركي ينفذ تجاربه النووية الحية، كان مهندسوه يبذلون قصارى جهدهم لمعرفة حقيقة ما يحدث بالضبط لحظة اشتعال القنبلة. لذا كان تُجهز كل واحدة منها بأجهزة استشعار تصل قيمتها إلى عشرات ملايين الدولارات، بهدف جمع البيانات خلال الجزء الصغير من الثانية الذي يسبق الانفجار. توضح بوديل لموقع "Newswise" "على مدار 25 عاماً من الإشراف على المخزون، زادت معرفتنا بشكل كبير بالعلوم الأساسية المطلوبة للقيام بهذا العمل جراء التطور الهائل في التكنولوجيا التجريبية، نتيجة الكم والنوع الهائلين من البيانات المسجلة التي تحصلنا عليها من الجيش خلال فترة الاختبارات الحية".

مسدسات ومدافع

يقوم الباحثون في مختبر ليفرمور أيضاً بإجراء ما يُعرف بـ"الاختبارات ما دون الحرجة" في موقع "الوكالة الوطنية للأمن النووي" في صحراء نيفادا. في "المنشأة التجريبية للمتفجرات الكبيرة" يُخضع الباحثون المواد (غير النووية) الداخلة في صناعة الرؤوس النووية، إلى تفجيرات تقليدية شديدة القوة لدراسة كيفية استجابتها للانفجار النووي الفعلي. كما يستخدم الفيزيائيون مسدساً يعمل بالغاز، يسمى "جاسبر" ويبلغ طوله 20 متراً، لإطلاق مقذوفات تصل سرعتها إلى 27 ألف كيلومتر بالساعة (10 مرات أسرع من الرصاصة) على البلوتونيوم. وتخلق هذه المقذوفات موجات صادمة أثناء مرورها داخل الفوهة. من خلال دراسة كيفية تفاعل البلوتونيوم مع هذه الضغوط ودرجات الحرارة، يمكن للفيزيائيين الحصول على فكرة أفضل عن كيفية تصرفه داخل رأس نووي متفجر.

تُستخدم البيانات المستمدة من هذه التجارب، للتحقق من تنبؤات محاكاة الأسلحة النووية التي أُعدت بواسطة "سييرا"، ثالث أسرع الكمبيوترات العملاقة في العالم، إذ تقول "بوديل إن النماذج التي يتنبأ بها تُستخدم لفهم كيف يمكن للتغييرات في المخزون، بمرور الوقت، أن تؤثر على سلامة الرأس الحربي أو فعاليته". 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اهتزازات أرضية اصطناعية
على الرغم من أن المهمة الأساس لمختبرات الأسلحة الأميركية هي إجراء تجارب لضمان التشغيل الموثوق للأسلحة النووية، فإنه يمكن استخدام نفس المرافق لدراسة المشكلات العلمية التي لا علاقة لها بالحرب. مايكل كونيو هو المدير الأول لـ"منشأة Z" في مختبر سانديا الوطني، وهو منشأة تجريبية فريدة تخلق ظروفاً لا توجد في أي مكان آخر على وجه الأرض. يتم هنا، وبشكل شبه يومي، شحن المكثفات الكهربائية الضخمة بالقرب من المنشأة بكمية هائلة من الطاقة قبل أن تُطلق دفعة واحدة، عبر نبضة كهربائية هائلة تتسبب في اهتزاز الأرض داخل المنشأة وحولها. تعادل كل نبضة من هذه النبضات 1000 ضعف الطاقة الناتجة عن صاعقة كبيرة. يُركز هذا المقدار الهائل من الطاقة على هدف بحجم قطعة معدنية صغيرة.

الهدف الأساس لـ"منشأة Z" هو دراسة تفاعلات الاندماج التي تحدث عندما ينفجر الهدف بسرعة تزيد على 4800 كيلومتر بالثانية. لكن الضغوط الشديدة ودرجات الحرارة المتولدة حول الهدف، والتي تزيد على 1.6 مليار درجة مئوية، تجعله أيضاً طريقة رائعة لدراسة الظروف أثناء تفجير الرأس النووي. وإلى جانب استخدام المنشأة في تجارب الأمن القومي السرية، يُستعان بها من قبل الباحثين العاكفين على معرفة كيفية حدوث العمليات الذرية داخل الشمس.

مثل طرح إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في وقت سابق من هذا العام، فكرة استئناف التجارب النووية الحية، صدمة للمجتمع الدولي الذي ما فتئ يتطلع إلى إزالة الأسلحة النووية بشكل كامل ونهائي. يصف ضياء ميان، مدير برنامج جامعة برينستون للعلوم والأمن العالمي، طرح إدارة ترمب هذه الفكرة بأنه "تكتيك تفاوضي قوي في وقت وصلت فيه التوترات الاقتصادية والسياسية بين الولايات المتحدة والصين وروسيا إلى نقطة الغليان". ويضيف "المفارقة هنا هي، أن استئناف التجارب النووية الحية سيخدم مصالح الدول الأخرى أكثر مما سيخدم الولايات المتحدة. إذ سيكون ذلك دعوة مفتوحة للدول الأخرى لفعل الشيء نفسه. لقد أجرت الولايات المتحدة اختبارات نووية أكثر من أي دولة أخرى، ولن تحسن تجربتان أُخريان طريقة فهم مصممي الأسلحة الأميركيين لهذه النظم. لكن الوافدين الجدد إلى الساحة النووية مثل الهند وباكستان، أكملوا عدداً قليلاً من الاختبارات الحية، ويمكن أن تساعدهما المزيد من الاختبارات على تحسين أنظمتهما بشكل كبير. وقد يؤدي هذا بدوره إلى إطلاق سباق تسلح نووي إقليمي أو عالمي جديد".

حتى يأتي اليوم الذي يقرر فيه قادة العالم تفكيك ترساناتهم النووية، سيستمر الفيزيائيون والمهندسون في العمل داخل مختبراتهم بعيداً عن أعين الجمهور، مما يخلق نماذج أكثر موثوقية للرؤوس النووية التي يجرون عليها دراساتهم، والتي يأمل البشر ألا تستخدم في يوم من أيام هيروشيما أو ناغازاكي.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات