Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل ينقذ الحياد صيغة العيش المشترك؟

الفكرة متعذرة الآن وسط سيطرة "حزب الله" لكنها زُرعت والقرارات الدولية تحتويها

الجنرال ويغان قائد جيش المشرق الفرنسي خارج كنيسة في بيروت بعد قداس شكر على نية فرنسا العام 1923 (غيتي)

تطرح الذكرى المئوية لتأسيس "لبنان الكبير" الأسئلة حول مصير الكيان الصغير بحدوده الراهنة، في ظل الأزمة العميقة التي تعصف به والمتشابكة عواملها الداخلية المعقدة، مع عوامل خارجية توازي في خطورتها اهتراء مؤسسات دولته، وانهيار اقتصاده الذي صمد وتطور وتنوع بتنوع مكوناته الطائفية والسياسية التي استدعت اعتباره النموذج الدولي الوحيد للعيش المشترك بين الطوائف في العالم.
المعضلة الأساس التي تفرض نفسها على اللبنانيين الحائرين وسط ضربات "الدهر" عليهم، وآخرها نكبة الانفجار الهائل في مرفأ بيروت الذي حوّل جزءاً حيوياً وواسعاً من العاصمة إلى ركام مادي وبشري يضيف إلى مأزقه المالي الاقتصادي عمقاً جديداً، هو كيفية حماية لبنان من التدخلات الخارجية التي سهّلت انفلات وتشتت مؤسساته الدستورية وإدارته، ما سهّل تفشي الفساد والمحسوبية والزبائنية في الداخل إلى درجة الاهتراء.

من سيقف على سلم قصر الصنوبر في المئوية؟

حماية لبنان كما عرفه العالم واللبنانيون أنفسهم على الرغم من اختلافاتهم، يعني صون العيش المشترك وتأمين نوع من الحياد عن الصراعات المحيطة به وعن التدخل في شؤونه. وإذا كانت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المرتقبة مع حلول المئوية في الأول من سبتمبر (أيلول) المقبل، تتزامن مع الجهد الفرنسي من أجل إنقاذ ما تبقى من اقتصاده ودولته عبر الدفع نحو حد أدنى من الإصلاحات الهيكلية وتأمين توافق على صيغة إنقاذية، يطرح السؤال الآتي: إذا كان الجنرال غورو وقف على سلم قصر الصنوبر مقر سلطة الانتداب في عام 1920 وإلى يمينه البطريرك الياس الحويك وإلى يساره المفتي الشيخ محمد الجسر ليعلن لبنان الكبير، فمَن سيقف حول ماكرون بالمعنى الرمزي (إذا تمت زيارته التي وعد بها قبل ظهور مزيد من التعقيدات في تأليف الحكومة الجديدة) بعد 100 عام. الحويك والجسر اختصرا في حينها المسيحيين والمسلمين، فيما انقسامات البلد الراهنة أشبعته تشرذماً مذهبياً وتعددت الرؤوس فيه خلافاً للسابق.
إلا أن الذكرى تحلّ وسط تطور بارز، هو إطلاق البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي مبادرته بالدعوة إلى "الحياد الناشط" للبنان في 5 يوليو (تموز) الماضي. وهي دعوة لقيت تأييداً من القيادات الرئيسة من السنة والمسيحيين والدروز، وواجهتها معارضة شيعية بلغت أحياناً مستوى اعتماد لهجة حادة بحجة رفض الحياد عن الصراع العربي - الإسرائيلي، على الرغم من أن الراعي أكد من دون لبس أن إسرائيل عدو للبنان الذي يلتزم القضية الفلسطينية والقضايا العربية.
وكان رفض رموز شيعية لمبادرة الراعي يرمز إلى رفض المس بسلاح "حزب الله" الذي تحول إلى أداة للمشروع الإيراني الإقليمي ولتدخلات طهران في عدد من الحروب والأزمات العربية لا سيما في سوريا واليمن والعراق والبحرين والكويت وغيرها، مع ما خلّفه ذلك من إضرار بعلاقات لبنان العربية منذ زهاء عقد من الزمن، وأضاف سبباً إلى أسباب تراجع وضعه الاقتصادي بعد هرب الاستثمارات العربية التي لطالما اعتمد عليها، من ساحته. وأدت سيطرة "الحزب" على أكثرية الطائفة الشيعية نوعاً من التماثل بين تعاظم دور الطائفة في القرار السياسي اللبناني وبين سلاحه المستقل عن مبدأ احتكار الدولة اللبنانية للسلاح، كما في أي دولة. وهو تماثل نشأت عنه قناعة بأن التخلي عن سلاح "الحزب" والضغط على أدواره الخارجية يعني تنازل الطائفة عن المكاسب التي حققتها بمزيد من النفوذ من رئاسة الجمهورية إلى أدنى مستوى في المؤسسات. ولذلك بات الوصول إلى الحياد يحتاج إلى توافق داخلي أولاً، فضلاً عن ضمان تأييد هذا الخيار عربياً ودولياً.

لبنان "بيت بدون سياج"

يطرح الكاتب والباحث والمفكر الدكتور داوود الصايغ في كتابه الأخير "لبنان الكبير في المئوية الأولى بيت بدون سياج" أكثر من تسعة أسئلة حول كيفية حماية التجربة اللبنانية، منها: كيف وبأي ظرف وبأي حق أصبحت إيران لاعباً أساسياً في شؤوننا وهي ليست ببلد عربي ولا حدود مشتركة لها معنا؟ وما هو الدور السوري في ذلك؟ وما هو مستقبل "حزب الله" المرتبط عضوياً بالقرار الإيراني... الذي اشترك بالدم اللبناني في حروب سوريا؟ كما يسأل الصايغ في كتابه: هل الحياد ممكن على قياس لبنان وليس استنساخاً لتجارب الآخرين؟
وفي وقت يرجّح الصايغ أن صدور قرار عن الأمم المتحدة بإعلان حياد لبنان متعذر الآن، فإن "البطريرك الراعي وجّه في مبادرته نداءً إلى المنظمة الدولية كي تعمل على تثبيت استقلال لبنان ووحدته وتطبيق القرارات الدولية المتعلقة به وإعلان حياده، باعتباره ضمان وحدته وتموضعه التاريخي في هذه المرحلة المليئة بالتغييرات الجغرافية والدستورية". وإذ عرض الراعي في مذكرته التي أذاعها في 17 أغسطس (آب) الحالي، للحقبات التاريخية التي راوحت بين الحياد وبين التورط في الصراعات الإقليمية، والتي يختلف معه البعض حول قراءتها، استنتج أن "تجربة المئة سنة من حياة دولة لبنان الكبير كشفت أنه يتعذر على لبنان أن يكون وطن الرسالة (الوصف الذي أطلقه على لبنان البابا الراحل يوحنا بولس الثاني) من دون اعتماد الحياد. فالانحياز إلى صراعات دول الشرق الأوسط عابَ صيغة الشراكة بين المسيحيين والمسلمين بأوجهها الروحية والوطنية والإنسانية، فأصبح في حالة تفكك وما عاد ينقذ وحدته واستقلاله واستقراره سوى الحياد".
 

أبعاد "الحياد الناشط" في مذكرة الراعي

 وحدد البطريرك 3 أبعاد لـ "الحياد الناشط" على أنها "أولاً عدم دخول لبنان قطعياً في أحلاف ومحاور وصراعات سياسية وحروب إقليمياً ودولياً، وامتناع أي دولة إقليمية أو دولية عن التدخل في شؤونه أو الهيمنة عليه أو اجتياحه... وثانياً تعاطف لبنان مع قضايا حقوق الإنسان ولا سيما العربية وحق الشعب الفلسطيني والعمل لإيجاد حل للاجئين الفلسطينيين. أما البُعد الثالث فهو تعزيز الدولة اللبنانية لتكون قوية بجيشها ومؤسساتها وقانونها وعدالتها ووحدتها الداخلية، كي تدافع عن نفسها بوجه أي اعتداء بري أو بحري أو جوي يأتيها من إسرائيل أو سواها". ودعا إلى معالجة الملف الحدودي مع إسرائيل وترسيم الحدود مع سوريا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذ تشدد مذكرة الراعي على أهمية استفادة لبنان واقتصاده في قطاعات عدة من نظام الحياد، فإنه يشير كما غيره إلى "إعلان بعبدا" في 12 يونيو (حزيران) 2012، إبّان رئاسة الرئيس السابق ميشال سليمان للجمهورية، الذي نصّ على تحييد لبنان، وتبناه مجلس الأمن وبات إحدى وثائقه التي يذكرها في قراراته وبياناته كافة. كما أن الرئيس ماكرون أعلن خلال زيارته بيروت في 6 أغسطس أنه يفهم الدعوة إلى الحياد على أنه نأي بالنفس عن صراعات المنطقة. لكن "حزب الله" وكذلك الرئيس ميشال عون، تنصلا من "إعلان بعبدا"، فيما بقي النأي بالنفس الوارد في كل البيانات الوزارية حبراً على ورق.
وأوضح الراعي أنه يطرح الحياد لئلا "نصل إلى إحدى 3 حالات، أن تتسلط إحدى الطوائف على الآخرين بقوة السلاح وإما أن يتحول لبنان دولةً فاشلة، وإما أن يقرر الآخرون إعادة النظر بالكيان اللبناني في إطار تغييرات الشرق الأوسط خلافاً لإرادتنا".

واللافت أنه نُقل عن الأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصر الله قوله ليلة عاشوراء في 22 أغسطس الماضي في تعليقه على التحركات الدولية لإغاثة لبنان بعد انفجار المرفأ ووجود قطع بحرية غربية في المتوسط في هذا الإطار: "لماذا يحق للجميع في العالم أن يتدخل ويرسل الجيوش ولا يحق لنا أو لغيرنا أن نمد يد المساعدة لهذه الشعوب المسحوقة؟ وهو يقصد بذلك تدخل إيران في الدول العربية والحزب في دول عربية ولبنان، في سياق مفهوم تصدير الثورة الإيرانية. وهو يبرر بالإقبال الدولي على لبنان بعد كارثة المرفأ، تدخلاته التي تسببت بخلاف داخلي منذ أكثر من 10 سنوات وبعزلة متصاعدة مع دول عربية عدة، على الرغم من أنه اعتبر الزيارات الدولية إلى لبنان إيجابية لتقديم المساعدات بأنها تستحق التقدير.

 عبد الناصر وفؤاد شهاب

يقول الدكتور الصايغ لـ "اندبندت عربية" إن "الحياد حلم قد يتحقق وربما يتعذر ذلك، والأمر يحتاج إلى سعي عربي لأجله. وهو يجب ألا يكون شبيهاً بصيغ الحياد الأخرى في العالم لاختلاف الصيغة اللبنانية (سويسرا- النمسا- فنلندا...)". ويشير الصايغ إلى تجارب تاريخية تمتع فيها لبنان بفترات حياد أبرزها حين التقى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بالرئيس اللبناني الراحل أيضاً فؤاد شهاب عام 1959 واتفقا على نوع من تحييد لبنان وتفهّم عبد الناصر خصوصية البلد إلى حد رأى أنه يجب ألا يكون حتى "دولة مسانِدة" في الصراع العربي - الإسرائيلي. ويلفت الصايغ إلى أن ميثاق الجامعة العربية نفسه عند تأسيسها لحظ هذه الخصوصية وقبِل بنوع من الحياد حين وافق مع وزير الخارجية آنذاك هنري فرعون (أيام رئاسة بشارة الخوري) على اقتراحه أن تؤخذ القرارات فيها بالإجماع وذلك من أجل عدم إقحام لبنان بالانحياز لأي دولة عربية. ويعتبر الصايغ أن في قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بلبنان أيضاً ما يشير إلى تأييد حياده، لأن معظمها بما فيها القرارات المتعلقة بانسحاب إسرائيل من أراضيه إلى تلك التي تتوخى منع الوصاية عليه وهيمنة السلاح مثل القرارين 1559 و1701، والأخير يجيز إمكانية انتشار قوات الأمم المتحدة على الحدود الشرقية إضافة إلى الجنوب إذا طلبت الحكومة اللبنانية ذلك.
ويختم الصايغ بالقول إن "الحياد قد لا يُطرح في الظروف الحالية في الخارج، لكن الفكرة زُرعت وتتطلب المتابعة. كل ذلك يشير إلى أن لبنان يحتاج إلى تسوية إقليمية".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات