Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الترجمة العربية تفقد رسالتها إذا لم تنفتح على الآخر بحقيقته

قضية "المركز القومي" في القاهرة أعادت طرح المشكلات التي يعانيها المترجمون والعقبات التي تواجههم

الترجمة فعل حوار بين الشعوب (ويكيبيديا)

بقدر ما تبني الترجمة جسوراً ملموسة تقود إلى قراءة الآخر، تفتح نوافذ استبطانية تسمح باستشفاف الذات وإعادة اكتشافها، وفق معطيات عالم متنوّع متجدّد، لا مجال فيه للتجاور بلا تحاور، ولا للتعايش من دون تأثير وتأثّر، ولا للتقدم خطوة صوب المستقبل بغير علاقات تبادلية متشابكة.

وقد فَرضتْ هذه الأهمية الاستثنائية للترجمة أن تكون قضاياها المُثارة هي الأكثر إلحاحاً في المشهد الثقافي، المحلي والعربي والدولي، فالكثير من التساؤلات الحضارية والإنسانية المستغلقة لا تزال تعوّل في إجاباتها المنشودة على مفاتيح الترجمة المرنة وروافدها النشيطة التي لا تنضب.

في مصر وعالمنا العربي، تواجه الترجمة، من العربية وإليها، الكثير من المشكلات والعراقيل المتراكمة، التي لا يمكن إغفال تجذّراتها ولا التغاضي عن تداعياتها. ومع تفجُّر أيّ حدث طارئ، أو أمر عاصف، متعلّق بالترجمة، هنا أو هناك، تطفو على السطح جليّة أزمات الترجمة والمترجمين برمتها، ككتلة ملتهبة تتفاقم نيرانها وأخطارها، ما لم يجرِ التصدّي لها باحترافية وكفاءة.

هذه المرة، جاءت الواقعة التي حرّكت المشهد من القاهرة، حين أعلن "المركز القومي للترجمة" منذ أيام قليلة على لسان مديرته المستقيلة علا عادل، اعتماد آليات جديدة كشروط للتقدّم بطلبات ترجمة الكتب إلى المكتب الفني، من بينها: تحديد مواقيت ضيّقة للتقدم بالمقترحات، عدم تجاوز عدد صفحات الكتاب خمسمئة صفحة وألّا يكون قد مرّ على صدوره أكثر من خمس سنوات، ومراعاة ألّا يتعارض الكتاب مع الأديان والقيم الاجتماعية والأخلاق والأعراف وغيرها، وهي البنود التي أثارت سخط المترجمين لكونها فضفاضة وخانقة وغير منطقية، كما أنها تتنافى مع الرسالة الحقيقية للترجمة "فهم الآخر المختلف بالضرورة". جرى احتواء هذه القرارات الصادمة بعدول المركز القومي للترجمة عنها، وتقديمه اعتذاراً مسهباً مفاده بأنه "لم ولن يتراجع عن دوره التنويري"، مع قبول استقالة مديرة المركز وتعيين كرمة سامي لمدة عام خلفاً لها. وهكذا، أُسدل الستار على الجرح الخارجي بطريقة المسكّنات الوقتية، أما إبطال مفعول الأمراض الكارثية الكثيرة الخاصة بالترجمة عبر حلول نهائية شافية، فلا يزال أملاً بعيد المنال وهاجساً يداعب خيالات المعنيين بهذه المهنة الاحترافية في مصر والعالم العربي.

جوقة الأصوات

ليست وحدها الأصوات الفردية التي انتفضت ضد "المركزالقومي للترجمة" وسياساته، على خلفية الواقعة الأخيرة، هي التي حاولت الإدلاء برأيها من أجل استقصاء قضايا الترجمة وحصر مشكلاتها والسعي إلى تداركها، فالحقيقة أن هناك، قبل هذه الواقعة وبعدها، جوقة من الأصوات الجماعية الزاعقة المنادية بالإصلاح، بعدد الأزمات الصارخة التي تعاني منها الترجمة، من وإلى العربية، على مستوى المؤسسات الكبرى ودور النشر وجميع العناصر المشاركة في الصناعة.

كاد الانتقاد يقتصر في واقعة "المركز القومي للترجمة" على أمر محدّد، مهمّ بكل تأكيد، لكنه ليس كل شيء، هو فلسفة الترجمة ومغزاها، فلو أن الهدف هو التزام المترجمين بما يتّسق مع التقاليد والأعراف، فإنّنا نترجم أنفسنا بهذه الطريقة، فأين هو الآخر المختلف الذي نتطلّع إلى معرفته؟ وقد اعتبر جابر عصفور، الأب الشرعي ل"المركز القومي للترجمة" الذي تأسّس عام 2006، أن هذه التوجهات الغريبة محاولة لـ"أخونة" نشاط المركز، وكتب الشاعر والمترجم رفعت سلام على صفحته في "فيسبوك": "المركز يطيح مفهوم الترجمة الأصلي، باعتباره معرفة الآخر كما هو، في ذاته، ويستبدله بمعرفة مشوّهة بالآخر، خاضعة للوصاية والانتقاء، محكومة فقط بما يتّفق مع تقاليدنا وأعرافنا". وفي هذا الفلك، دارت اعتراضات عشرات المترجمين والكتّاب والمهتمين.

إلى جانب ضرورة فهم فلسفة الترجمة إلى العربية وتحديد الغاية منها والوعي بما ينقص الثقافة العربية في هذه اللحظة الآنية، هناك الكثير من القضايا الجوهرية الأخرى والعقبات والإحباطات التي عطّلت عملية الترجمة وجعلتها تتراجع على نحو مؤسف. فعلى الرغم من وجود مؤسسات كبرى للترجمة، مصرية وعربية، مثل: مشروع "كلمة" (دائرة الثقافة والسياحة في أبو ظبي)، وبرنامج "ترجم" (مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم)، و"المنظمة العربية للترجمة" (بيروت)، و"المجلس الكويتي الأعلى للثقافة والفنون"، و"مركز البابطين للترجمة" (الكويت) ووجود دور نشر حكومية وخاصة كبرى معنيّة بالترجمة، فإن الأرقام البائسة تقول، وفق اليونسكو منذ أشهر قليلة، إن العالم العربي يترجم ما نسبته أقل من كتاب واحد لكل مليون مواطن في السنة، بينما في إسبانيا وحدها مثلاً تجري ترجمة 920 كتاباً لكل مليون فرد سنويّاً.

مشكلات نوعية وإجرائية

تستطرد مؤسسات الترجمة المصرية والعربية وهيئاتها في سرد أهدافها العريضة الشعارية، من قبيل: الارتقاء بالترجمة نحو المعدلات العالمية وفتح النوافذ الحرّة أمام القارئ العربي وسدّ الثغرات المعرفية في الثقافة العربية ومواكبة التصاعد غير المحدود في الثورة العلمية ومدّ الجسور بين الحضارة العربية والحضارت الأخرى بتفاعلية وندية وبناء مشاريع النشر الإلكتروني والكتاب الصوتي وتحويل الترجمة تدريجاً إلى صناعة استثمارية مربحة وغير ذلك، لكنّ الواقع يبلور الكثير من العثرات على الأرض في سبيل بلوغ الحدّ الأدنى من هذه الطموحات والأحلام الافتراضية.

من أبرز أزمات الترجمة في مصر والعالم العربي، عدم خضوع عملية الترجمة بفضائها الواسع لخطط مؤسساتية شاملة طويلة المدى ولمنظومة احترافية متكاملة العناصر والمفردات ولحاجات مجتمعية مدروسة بعناية ووعي ودوران عجلة العمل في بيئة ضبابية وفق مجهودات فردية في الأساس للمترجمين ودور النشر الاستثنائية وبعض الهيئات والمؤسسات العربية القليلة، التي لا تنسّق هي الأخرى بعضها مع  بعضعلى صعيد البرامج وقوائم الكتب.

ومن الأزمات كذلك، غياب أبجديات الملكية الفكرية وحقوق النشر وقوانينه، بما يعرّض الكثير من المترجمين لسرقة ترجماتهم على أيدي مُدَّعين، وقلّة العائد المادي المدفوع للمترجمين وغياب الشفافية الإدارية في التعامل مع المؤلفين الأصليين والمترجمين، إلى جانب هيمنة الموظفين الروتينيين على الجهات الرسمية الحكومية المضطّلعة بشؤون الترجمة، بما يعني افتقاد البوصلة الهادية والخضوع في أحوال كثيرة للبيروقراطية والمجاملات والانتقاءات الارتجالية العشوائية.

أهواء وأمزجة

وفي ظلّ عدم إتاحة ببليوغرافيا موسوعية ترسم استراتيجيات مؤسسات الترجمة، فإنّ الشقّ الأعظم من عملية الترجمة في العالم العربي يُدار وفق هوى المترجم الفرد واختياراته المزاجية، بل إن هذا المترجم قد ينوب عن جهة النشر ليبادر بنفسه بالتواصل مع المؤلف الأصلي وجهة النشر الأجنبية وإتمام إجراءات التفاوض حول حقوق النشر العربية، وبعد ذلك، فإنه قد لا يجد الناشر العربي الذي يقدّره ويعوّضه التعويض اللائق عن ترجمته وما قام به من جهد إضافي.

وبالنسبة إلى مفهوم الدراسات التسويقية، فإنه يكاد يقتصر لدى المؤسسات ودور النشر المهتمة بالترجمة في غالبية الأحوال على الربحية التي قد تحقّقها جهة النشر، أو على الأقلّ عدم الخسارة، مع إهدار حقوق المترجم أو تأخيرها على اعتبار أن صناعة نشر الكتب غير مجزية في عمومها. في المقابل، فإنّ جهة النشر قد لا يعنيها أن يكون المترجم متخصّصاً، فهي قد تتغاضى عن أهليته العلمية والأكاديمية في مقابل أنه قد لا يطالب بحقوقه الكاملة، وهذا بالطبع يؤثّر في مستوى الأعمال المطروحة، وهي مشكلة نوعية بالغة الخطورة، تُضاف إلى المشكلات الإجرائية والفنية السابقة.

أما أكثر أزمات الترجمة العربية شيوعاً في الوقت الحالي، في عصر السماوات المفتوحة والإنترنت، فهي تعرّض المترجم للسرقة بالسطو على حقوقه، سواء جرت سرقة ترجمته بشكل كامل أو بالاستفادة منها جزئيّاً والاقتباس المجاني من دون الإشارة إليه. ولعلّ تلك المشكلة من الممكن التعاطي معها بفعالية، إذا جرى تغليظ العقوبات في جرائم سرقات النشر، وإغلاق الدور التي تنتهك حقوق الملكية، وإلّأ فإنّ عمل المترجم العربي سيظلّ طويلاً، بتعبير أمبرتو إيكو، "جهداً منكوراً، وسيّء الأجرّ!".

المزيد من ثقافة