مرّت لحظات بدا فيها أن تأليف الحكومة اللبنانية برئاسة زعيم تيار "المستقبل" رئيس الحكومة السابق سعد الحريري قريباً، بعد لقاء رئيس البرلمان نبيه بري رئيس الجمهورية ميشال عون، الخميس الماضي في 20 أغسطس (آب)، الذي تمسّك خلاله بري بتسمية الحريري رئيساً للحكومة لأسباب كثيرة.
ما لبثت المواقف السياسية في الأيام الثلاثة التي تلت أن خيّبت هذا الظن وعادت الأمور إلى نقطة الصفر. ولم يقتصر سبب هذه العودة على رفض عون ورئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل خيار الحريري لترؤس الحكومة، في اجتماعه مع بري بناء لطلب عون أن يبحث رئيس البرلمان الموضوع الحكومي مع صهره، بل تعدّاه إلى ظهور رفض لترؤس الحريري الحكومة المقبلة من قبل فريقين رئيسَيْن آخرين هما حليفان مفترضان للحريري على الرغم من التباينات معه، أي حزب "القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" بزعامة وليد جنبلاط. فالأول بقي على موقفه السابق الذي أخذه بعد استقالة الحريري في 31 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حسبما أبلغ قياديون في "القوات" المعنيين نقلاً عن رئيسه سمير جعجع، والثاني، فضلاً عن أنه أبلغ بري بعدم قبوله تسمية الحريري لرئاسة الحكومة قبل أسبوع كتب على تويتر كلاماً يتعدّى هذه المسألة إلى فتح ملف الخلاف في الانتخابات النيابية لعام 2018 حين قال "لا ندين لأحد بأي جميل. نتائج الانتخابات السابقة خير دليل أن ما من أحد بادلنا الأصوات"، في إيحاء بأن مناصري "المستقبل" كحليف لم يصوّتوا لمرشحيه.
اعتبارات الثنائي الشيعي وضعف عون
تعرّض الرئيس عون لانتقادات كثيرة، خصوصاً من الوسط السياسي السنّي لتأخيره موعد الاستشارات النيابية الملزمة وفق الدستور لتعيين رئيس الحكومة المكلف تأليفها. ومن جهة أخرى، بنى الذين تفاءلوا بإمكان الخروج من الجمود في العملية الدستورية لتأليف الحكومة الجديدة على فرضية تقول إنّ تمسّك بري بتسمية الحريري يستند إلى اتفاق بينه و"حزب الله" لأسباب عدّة، أبرزها:
اعتقاد الرئيس بري بأنه لا بد من استيعاب مفاعيل حكم المحكمة الدولية بإدانة المسؤول في "حزب الله" سليم عياش في 18 أغسطس على العلاقات السنية الشيعية، خصوصاً أنه امتدح موقف الحريري في لاهاي الذي، مع دعوته الحزب إلى التضحية من جهته بتسليم عياش إلى المحكمة، قَبِل بتبرئة المحكمة المتهمين الثلاثة الآخرين من الحزب، وشدّد على أن "العيش المشترك هو الأساس". والعارفون بموقف بري يشيرون إلى أنه كان يتوقّع قبل الحكم أن يتشدّد الحريري في الموقف من "الحزب" وأنه سيحرص على عدم الانجرار إلى فتنة مذهبية، وهو أخذ قراره بتأييد عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة لأنها تسهم بقوة في استيعاب تداعيات اتهام "حزب الله" بالجريمة على المدى الأبعد.
أن بري أقنع "حزب الله" بموقفه هذا وحصل منه على تفويض في شأن السعي إلى العمل من أجل تسمية الحريري، فتحوّل هذا الخيار إلى موقف واحد من الثنائي الشيعي كلّف فيه الحزب بري بالتفاوض والسعي إليه.
أن التطوّرات التي تعيشها البلاد منذ ثورة 17 أكتوبر الماضي، وما لحقها بعد انفجار 4 أغسطس في مرفأ بيروت، ضاعفا النقمة على الطبقة السياسية، لا سيما على ممارسات رئيس الجمهورية وصهره باسيل و"التيار الوطني الحر" في الوسط المسيحي، حيث بات ما يُسمّى الغطاء المسيحي للحزب بفعل تحالفه مع عون ضعيفاً بضعف التيار العوني بين المسيحيين بخروج نواب من تكتّله النيابي، وبانفكاك قطاع واسع من الجمهور الذي كان آمن بعون عن شعبيته. وقاد هذا الواقع إلى قراءة في بعض الوسط السياسي الذي يؤيد عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة بأن الحزب بات بحاجة إلى استعادة نوع من الغطاء السياسي السنّي، من دون أن ينهي تحالفه مع عون وباسيل، لأنّ الأول مهما ضعف ما زال في موقع الرئاسة ويحتاج إلى دعم الحزب إزاء تصاعد الحملات السياسية عليه مسيحياً وإسلامياً.
أن المتتبّعين لموقف الثنائي الشيعي يعتقدون أن إصراره على الحريري يعود أيضاً إلى أن الحزب بحاجة إلى كسر الحصار المفروض على لبنان بسبب العقوبات الأميركية على "حزب الله" والمقاطعة العربية الدولية للسلطة، نظراً إلى اتّهامها بالخضوع لنفوذه وتأثير إيران، وأن اللهفة الدولية على البلد بعد انفجار مرفأ بيروت الذي حوّل العاصمة إلى مدينة منكوبة، تحتاج إلى الحريري لأنه الأقدر على تلقّفها نتيجة صلاته الواسعة دولياً وعربياً، من أجل استجلاب الدعم المطلوب للنهوض باقتصاده ووضعه المالي، من الحفرة التي وقعا فيها.
شروط الحريري وقراءتان لخيار رئاسته الحكومة
بعض أصحاب هذه القراءة تجاوز موقف الحريري نفسه، الذي استمرت أوساطه في التأكيد على شروطه للقبول بمهمة رئاسة الحكومة (لا يقبل المهمة إلّا بحكومة اختصاصيين محايدين من خارج الأحزاب لتنفيذ الإصلاحات مع صلاحيات استثنائية لتسريع الخطوات الإنقاذية). وأخذت هذه القراءة تميل إلى القناعة بأن حاجة الثنائي الشيعي إلى الحريري قد تدفعه إلى شيء من الليونة في التعاطي مع هذه الشروط. وأمل مَن اعتقدوا بأن هذا التطور في الموقف الشيعي عنصر حاسم يدفع الحركة الدولية التي ألحّت على تأليف حكومة جديدة تنقذ الوضع اللبناني، تتلاءم مع تطلّعات انتفاضة اللبنانيين وتحقّق الإصلاحات "العاجلة" المطلوبة التي حدّدها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته بيروت في 6 أغسطس، إلى ممارسة ضغط دولي على أفرقاء لبنانيين مثل عون و"التيار الحر" للقبول بالحريري وشروطه، وإلى المَوْنة على "القوات" و"الاشتراكي" كي يرفعا تحفّظهما على تسمية زعيم "المستقبل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذهب أصحاب القراءة المتفائلة الذين يعتقدون بأن الإدارة الدولية التي تعزّزت بعد نكبة بيروت ومرفئها إلى حدّ القول إن إيران نصحت الحزب بالليونة حيال الموقف الدولي في لبنان، وإنه من الأفضل التجاوب مع التوجّهات الفرنسية، (بعد اتصال ماكرون بالرئيس الإيراني حسن روحاني قبل أسبوعين داعياً إلى عدم التدخل في لبنان)، نظراً إلى أن لباريس موقفاً مميّزاً عن الولايات المتحدة الأميركية في سعيها إلى تصعيد الضغوط على طهران بتمديد مفعول حظر بيع الأسلحة لطهران في مجلس الأمن، الذي كان الاتفاق النووي نصّ على رفعه في الخريف المقبل. ورأى هؤلاء أيضاً أن تصريح وكيل وزارة الخارجية الأميركي ديفيد هيل قبل أسبوع، على غموضه بقوله إنّ واشنطن سبق أن تعاملت مع حكومات لبنانية تضمّ "حزب الله" وأن تركيزها هو على تنفيذ الإصلاحات، إشارة محتملة إلى تساهل الإدارة الأميركية مع احتمال تمثيل الحزب بأصدقاء له.
إلّا أنّ البعض الآخر أخذ في الاعتبار شروط الحريري. لكن هؤلاء شدّدوا على أنّ إصرار "حزب الله" على لسان أمينه العام السيد حسن نصر الله على حكومة وحدة وطنية وإذا تعذّر حكومة مختلطة تكنو سياسية، يعني اشتراط تمثيل الحزب في الحكومة ولو بطريقة غير مباشرة، خصوصاً أنه اعتبر أن "ما من حياديّين في لبنان". بالتالي، سيصطدم خيار الحريري برفض شروطه ولن يقبل المهمة.
غضب بري إزاء موقف باسيل "كأن العهد في بدايته"
لكن في الحالتين، حسابات الحقل لم تنطبق على حسابات البيدر كما يقول المثل اللبناني الشائع. فباسيل لم يكتفِ برفض خيار الحريري في لقائه مع بري الذي نُقل عنه غضبه من رفض رئيس "التيار الحر" التجاوب مع اقتراحه. فهو وعون عادا إلى أسلوبهما السابق في طرح مطالبهما من الحصة الحكومية، ويشترطان أن يحظى رئيس الجمهورية بحقّ تسمية معظم الحصّة المسيحية الوزارية، ويطلبان تعهّداً من الرئيس المكلف أن يوافق على أولوياتهما في الحصول على الحقائب الوزارية التي تولّاها وزراؤهما سابقاً ومنها الطاقة، على الرغم من عدم النجاح من خلالها في حلّ مشكلة الكهرباء وشكّلت سبباً رئيساً للنقمة على العهد الرئاسي وباسيل... وبعد الاجتماع مع بري، سرّبت أوساط باسيل أنه لم يطرح أسماء لرئاسة الحكومة، ثم عادت وسرّبت أنه اقترح اسم القاضي المتقاعد أيمن عويدات وهو صديقه، واسم القاضي المتعاقد حاتم ماضي. والاثنان قد يستفزّان جمهور الحريرية السياسية والقاعدة السنّية. والمطّلعون على موقف بري يقولون إنه يرى سهولة تسويق عودة الحريري في الخارج، لكونه يسهم، إذا ما جرى تسهيل تأليفه الحكومة وإراحته في اختيار نوعية الوزراء، في الإنقاذ الاقتصادي. كما أن تجربة حكومة حسان دياب جاءت سلبية لغياب غطائه السنّي، وعنصر الوقت الداهم لا يسمح بخوض التجارب بآخرين على شاكلة دياب. ومهما كانت المعطيات عن تحفّظات خليجية على عودته، فإن الرجل قادر على استعادة العلاقة، نظراً إلى تاريخ صلاته... والانطباع الذي ردّدته الأوساط المواكبة لموقف بري أخذت تتذمّر من أن "عون وباسيل ما زالا يتصرّفان كأنهما في أول العهد، ولم يستوعبا ما آلت إليه شعبية الرئيس من انحدار وأن البلد يحتاج إلى صيغة مختلفة لانتشاله مِمَّا هو فيه". والأخذ بالأسماء التي يطرحها باسيل تعيد تجربة حسان دياب الفاشلة، بحجة أن عودة الحريري هزيمة للرئيس عون ولباسيل.
رفض جعجع وجنبلاط يستند إلى موقف خارجي
ظلّ رد فعل الحريري على هذه المعطيات هو ذاته، بحسب أوساطه: هو ليس راكضاً نحو رئاسة الحكومة ومتمسّك بشروطه وبتوافق داخلي عليها، يجب أن يرفده توافق خارجي كي تنجح الحكومة في الإنقاذ.
الحسابات اختلفت في المقلب الآخر، أي في موقف "القوات" و"الاشتراكي" الرافض تسمية الحريري. ومثلما استند المتفائلون بتسهيل الثنائي الشيعي تسمية الحريري وإراحته في اختيار الوزراء، إلى القاعدة القائلة إن التركيبة الحكومية لم تَعُدْ مسألة محلية فقط، وإلى مرونة إيرانية، رأى مؤيدو عودة زعيم "المستقبل" أنّ تقاطع رفض جعجع وجنبلاط لا يمكن أن يكون بعيداً من موقف خارجي ما. ولا يستبعد هؤلاء أن يكون موقفهما استند إلى عدم حماسة أميركية وخليجية لهذا الخيار، بحجّة رفض واشنطن وعواصم عربية أن يشكّل نوعاً من الغطاء لـ"حزب الله" لمواصلة سياسته السابقة بالتمدّد الإقليمي. فالحزب سبق أن وافق على سياسة النأي بالنفس عن حروب المنطقة وتجاذباتها لكنه بالممارسة، يفعل العكس.