Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حادثة نيوزيلندا الإرهابية

اعتداء نيوزيلندا الإرهابي سيحجز مكانه في الذاكرة العالمية بمقاييس تمنعه من التقادم والتحول إلى مجرد تاريخ باهت

 صورة لشرطي نيوزيلندي أمام مسجد النور في كرايستشيرش بعد الاعتداء الإرهابي (أ.ف.ب) 

ما يميز حادثة نيوزيلندا الأخيرة عن غيرها أنها حادثةٌ نوعيّة. إرهابٌ بالصوت والصورة والبثّ المباشر الذي قلما تكرر في حوادث إرهابية أخرى. ولهذا فمن المتوقع أن تحجز هذه الحادثة مكانها في الذاكرة العالمية بمقاييس تمنعها من التقادم والتحول إلى مجرد تاريخ باهت. إنها حادثة قابلة لإعادة البعث مرة أخرى كلما طُمرت تحت تراب السنوات والأشهر والأيام أو الحوادث الأخرى التي حدثت، وتلك التي نتمنى ألا تحدث. ماذا يعني أن يقتل إرهابيّ واحدٌ خمسين مصلياً في وضح النهار، ويجتهد اجتهاداً كبيراً في إطلاع العالم على جريمته؟ كيف نفهم شعوره بالفخر والأهمية والجدوى وإيمانه المطلق بأنه يقوم بعملٍ بطوليّ سابق لعصره، وسوف يخلّده العالم بعد حين؟

إنه يعني في المقام الأول أن مفاهيم الكراهية والعنصرية والتطرف ليست مفاهيم ماضوية تنتمي لعقودٍ قد خلت. بل هي مفاهيم عابرة للزمن، يمكن لها أن توجد متى وجدت المقومات التي تسمح بانبعاثها. الفيروسات تدخل في سبات طويل قد يستمر لسنوات، تتبلور فيه وتتحول إلى جماد، ثم تعود إلى الحياة والتكاثر والانتشار بمجرد توفّر الشروط الحيوية. ولولا السلاح الآلي الذي كان في يد إرهابيّ نيوزيلندا والكاميرات الحديثة التي استخدمها وحساب الفيسبوك النشط لكان المشهد لا يختلف كثيراً عن مقاتلٍ مغوليّ في يوم سقوط بغداد، أو قائدٍ قشتالي في حروب الاسترداد، أو خيّال حميديّ في مذبحة الأرمن، أو ضابط يابانيّ في احتلال الصين. إلى آخر تلك الحالات التي تصبح فيها النفس البشرية أرخص من رصاصة، والقتل أهون من رحلة صيد، والضمير مخدّرٌ بحقنة آيديولوجية طويلة التأثير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تقول العلوم الأنثروبولجية إن التهافت على الموارد الاقتصادية الشحيحة كان السبب الرئيس وراء أغلب حروب التاريخ. الأسباب الأخرى بطبيعة الحال لن تتعدى التوجس من الآخر، والشعور بالفوقية، وتغليف ذلك كله بالقداسة والحتمية والضرورة. من أجل كل هذا سُفكت الدماء منذ أول حربٍ رصدها لنا التاريخ وحتى آخر حربٍ ما زلنا نعيشها اليوم.

لنتأمل المفارقة هنا في القرن الحادي والعشرين، في واحدة من دول الرفاه ومستويات الحياة المتقدمة مثل نيوزيلندا، ألم يُطرح مراراً وتكراراً موضوع تأثير تدفق المهاجرين على أنظمة الرعاية الاجتماعية؟ بمعنى أن الصحة والتعليم والمسكن والتسهيلات الضريبية وكل ما تقدمه الدول من رفاه اقتصادي لمواطنيها تتعرض لضغوط شديدة بسبب مزاحمة المهاجرين للمواطنين عليها حسب الرؤية قصيرة المدى لهم. هذه الضغوط التي تثير نقمة المواطن البسيط وتفتح مجالاً لتكوّن بذور الكراهية. أليس هذا هو المفهوم الحديث للتزاحم على الموارد الاقتصادية الشحيحة الذي قامت بسببه حروب الماضي الأزلية؟ لا فرق بين حرب بين قبيلتين على بئر ماء ومرعى، وبين تلك الحرب بين المواطنين والمهاجرين على فرصة وظيفية وتسهيلات ضريبية؟ ألم يكن بيان الإرهابيّ في حادثة نيوزلندا نموذجاً صارخاً على التوجس من الآخر، والفوقية العرقية، وتوظيف الدين لإضفاء القداسة على الفعلة الشنيعة؟

كل هذا يعني أن المتساهلين في التعامل مع الفيروسات الإرهابية بوصفها ممارسات بشرية قديمة عفى عليها الزمن سيستيقظون بين حين وآخر على حوادث فظيعة مثل هذه. مذابح بشرية، وتهجير قسري، وإبادة جماعية، وإرهاب يليه إرهاب، وأشياء تشبه تلك التي قرأتها في كتب التاريخ. والسياسيون المشغولون بتحقيق نتائج اقتصادية قصيرة المدى تعيش حتى موعد الانتخابات المقبلة فقط سيجدون أنفسهم أمام مفاجآت غير سارة كتلك التي تعرّضت لها نيوزيلندا، ولأن السعيد من اتّعظ بغيره فإن بقية دول العالم تجد نفسها الآن أمام تحديات كبرى لمواجهة خطاب الكراهية الذي ينمو في وسط غابة من التعقيدات المتعلقة بالسياسات الاقتصادية، وقوانين الهجرة، والإعلام المفتوح، وعلاقة الدين بالدولة، ونظم التعليم. 

اقرأ المزيد

المزيد من آراء