Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأم والإبنة بين فساد كاراكاس والحلم الإسباني

رواية كارينا بورجو تكشف أزمات الحياة في فنزويلا الثمانينيات

كاراكاس مدينة الأزمات والأحلام (ويكيبيديا) 

بين رحيل الأمّ أديليدا فالكون في كاراكاس الفنزويلية، ووصول الابنة التي تحمل الاسم نفسه إلى مدريد الاسبانية، شهرٌ من الوقائع التي تستدعي عمراً من الذكريات، بمناسبة وبدون مناسبة، وتشكّل معها رواية "الابنة الاسبانية" للكاتبة الفنزويلية المقيمة في اسبانيا كارينا ساينز بورجو التي قام بتعريبها جلال العطاس (الدار العربية للعلوم ناشرون). وهي رواية تدور أحداثها في الثمانينيات من القرن الماضي، في ظل نظام حكمٍ استبدادي، يمارس القمع باسم الثورة، ويصطنع الميليشيات للتنكيل بمعارضيه، فتندلع الاضطرابات، ويغيب الاستقرار، وتنقطع الكهرباء، وتفقد العملة قيمتها، ويستشري الفساد، ويزداد التضخّم، وتختفي المواد الغذائية من الأسواق.

في هذا الفضاء الروائي، ترصد الكاتبة انعكاس الأحداث على أسرةٍ صغيرة مؤلّفة من أمٍّ تحمل الإجازة في الحقوق من جامعة فنزويلا المركزية وتمارس التدريس وتصارع المرض في عيادة طبية، وابنتها الموظّفة في صحيفة أراغينو المحلية التي تنوء بأعباء علاج أمّها في حياتها وبنفقات دفنها بعد رحيلها، فللموت، في الأنظمة الاستبدادية، كلفته العالية أيضاً كما للحياة. والأمّ والابنة كلتاهما تقيمان في المدينة (كاراكاس)، وتتحدّران من الريف (أوكامار). وإذا كانت الأولى يمّمت شطر المدينة للتعلّم والترقّي وتضيق ذرعاً بغيبيات الريف وترّهات أهله، فإنّ الثانية تحبّ الإقامة في المدينة لكنّها تفضّل الريف عليها، وتعبّر عن هذا التفضيل بالقول: "أحببت كاراكاس، إلا أنّني فضّلت أيام قصب السكّر والبعوض في أوكامار على الأرصفة القذرة هنا المليئة بالبرتقال المتعفّن والماء الملطّخ بزيت المحرّكات" (ص 40). على أنّ العلاقة بين الأمّ وابنتها كانت على قدر كبير من الوئام والانسجام، تقوم على التضحية من الأمّ التي تعطي الدروس الخصوصية لتأمين نفقات العائلة وتلبية حاجات ابنتها، وعلى المحبة والوفاء والعرفان بالجميل من الابنة. لذلك، حين تموت الأمّ تنقلب حياة الابنة رأساً على عقب.

 مثالية الأم

يشكّل رحيل الأمّ بعد معاناة طويلة مع المرض، في بداية الرواية، حداًّ فاصلاً فاصلة بين عالمين، في حياة بطلة الرواية وراويتها، تعبّر عنه بالقول: "إنّ العالم الذي كنت أعرفه بدأ يتداعى وينهار" (ص 18). فينتهي عالم الاستقرار العاطفي والاحتضان النفسي الذي كانت تجسّده الأم في عالمٍ مضطرب، ويبدأ عالم القلق والوحدة في حياة الابنة الراوية في العالم المضطرب نفسه، فيلتقي العالمان العام والخاص في الاضطراب وعدم الاستقرار. إن موت الأم في الواقع هو بداية حياتها في الرواية التي تقوم على ثنائية الأم / الابنة. الأولى هي المَرْويّة والثانية هي الراوية. وفي هذا الإطار، تقوم الثانية بروي حياة الأم من نهايتها، فتتناول موتها، دفنها، أشياءها، زيارة قبرها، كوقائع معيشة، وتتذكّر من خلال هذه الوقائع مشاهد من حياة الأم في أطوارها المختلفة، بدءاً من نشأتها في وسط ريفي مع أختين أخريين، مروراً بانتقالها إلى المدينة لمتابعة الدراسة، وانخراطها في علاقة عابرة تمخّضت عنها الابنة الراوية، وتربية الابنة واحتضانها، وزيارة المرافق السياحية والفنية معها، ومزاولتها مهنة التدريس للقيام بأوَدِ عائلتها، وصولاً إلى مرضها وموتها، وبذلك، تحيي الراوية أمّها بالروي. وفي الوقت نفسه تروي نفسها من خلال العلاقة بالأمّ في حياتها، وروي مسارها ومصيرها بعد موتها. وتخلص الراوية من خلال هذه المشاهد إلى رسم شخصية شبه مثالية للأم المثقّفة، المضحّية، العاملة، الزاهدة، المتفانية في خدمة أسرتها الصغيرة، من جهة، وتخلص إلى رسم شخصية شبه مثالية لنفسها كابنة مطيعة لأمّها، معترفة بجميلها، قادرة فضلها، ومهتمّة بعلاجها في مرضها وجنازتها بعد الموت، على ضيق ذات يدها. تعبّر الراوية الابنة عن هذه المثالية بالقول: "كانت أمي زاهدة. امرأة رصينة حضنتني من دون دموع وأنشأت جنة بين ذراعيها، أديليدا فالكون، أمي، دخّنت واعتنت ببشرتها بنفس الإصرار" (ص 47). وإذا كانت الأم تحتفظ بمثاليّتها بعد الموت باعتباره قاطعاً للسلوك، فإنّ استمرار الابنة الراوية على قيد الحياة وتعرّضها لما تعرّضت له سيطيح بمثاليتها، وستُضطرّ إلى التنازل عنها في صراع البقاء. ولذلك، تتمخّض الوقائع التي تعيشها في فضاءٍ روائي مضطرب عن سلوكياتٍ منحرفة عن مسارها السابق، وتكون ضحية وقائع مفاجئة تدفع بها إلى مثل هذه السلوكيات.

نقاط تحوّل

أوّل الغيث في هذه الوقائع التي تُمثّل نقاط تحوّل في مجرى الأحداث، وتخرج بالراوية الابنة عن مسارها السابق يتمثّل في احتلال شقتها الكائنة في الطابق الخامس من البناء الذي تقيم فيه. فهي، إذ تعود إلى الشقة، ذات مساء، بعد تسديد بعض الدين المترتّب على علاج الأم، تُفاجأ باحتلالها من قبل بعض النساء البدينات المنتميات إلى ميليشيا نسائية تتزعّمها زوجة ماريشال، وتحصل مواجهة معهن، تتمخّض عن ضربها وفقدانها  الوعي وإصابتها بجرح بليغ في الرأس، فتقوم جارتها ماريا الممرّضة المقيمة في الطابق السادس بتخييط جرحها، وهي التي كانت خيّاطة في الأصل ورثت المهنة عن أمّها، وتنصحها بالنوم عندها وعدم الاتصال بالشرطة لوجود تواطؤ بينها وبين المحتلاّت.

وتكون نقطة التحوّل الثانية حين تدخل أديليدا إلى شقة جارتها الاسبانية أورورا بيرالتا في الطابق الخامس التي كانت تدير مطعماً ورثته عن أمّها، فتجدها جثّةً هامدة. وإزاء حاجتها إلى منزلٍ يؤويها بعد احتلال شقّتها، وفي ضوء الفوضى المستشرية، تتّخذ قراراً بالتخلّص من الجثّة، فترمي بها من الشرفة منتهكةً بذلك حرمة الموت وحق الجيرة ما يشكّل أوّل انحرافٍ لها عن مسارها شبه المثالي الذي انتهجته في حياة أمّها، وتكون ثالثة الأثافي حين تتسلّل إلى الأسفل ليلاً وتسحب الجثة إلى قرب حاوية مشتعلة في الشارع لتحترق وتتخلّص من أي دليلٍ يدينها، ما يشكّل انحرافاً ثانياً عن مسارها السلوكي.

وتكون نقطة التحوّل الثالثة حين ينقضّ على الراوية على مدخل البناء، لدى انتهائها من حرق الجثة، رجلٌّ مقنّع يتظاهر بضربها والعراك معها حمايةً لها من ميليشيات السلطة. وإذ تنجح أديليدا في نزع القناع عن وجهه، تكتشف أنّه سانتياغو شقيق صديقتها آنا، الطالب الجامعي والخبير الاقتصادي الصغير الذي اعتقلته السلطة ذات يوم مع رفاقه، فيصدمها منظره وقد تحوّل بفعل الاعتقال إلى عجوز مجعّد الوجه، مندوب البشرة، فيمضيان الليل معاً، ويساعدها في الحصول على ما تبقّى من أشيائها وأشياء أمّها، إثر خروج زوجة الماريشال وعصابتها من الشقة المحتلة، ويتّفقان على أن يغادر المكان في اليوم التالي خشية القبض عليه، حتّى إذا ما فعل، يردها لاحقاً خبر العثور عليه في أحد الحقول على مشارف المدينة مصاباً بثلاث رصاصات في الرأس، وبحوزته كيس من الكوكايين.  وهنا، تقوم الكاتبة، من خلال هذه الشخصية، بتعرية آليات التعذيب التي ينزلها عملاء المخابرات البوليفية بضحاياهم، من ضرب واعتقال وتنكيل واغتصاب وعري وعطش وجوع، وبفضح ممارساتها في تلفيق التهم واغتيال المعارضين. وترسم شخصية المعارض المبدئي بما فيها من براءة ومثالية ونقاء ثوري ما يؤدي إلى انكسارها في واقعٍ مفرطٍ في واقعيته وفظاظته.  

وتكون نقطة التحوّل الرابعة الأكثر جذرية في تحويل الأحداث ورسم مسار بطلة الرواية ومصيرها حين تعثر أديليدا على مستندات من القنصلية الاسبانية عائدة للضحية أورورا بيرالتا وطلب حصولها على جواز سفر اسباني، فتراودها فكرة شيطانية، وتروح تعمل على تنفيذ فكرتها. وإذا كانت حاجتها إلى منزل دفعتها إلى رمي جثة جارتها من الشرفة وحرقها، فإن حاجتها للفرار من الجحيم الفنزويلي إلى النعيم الاسباني ستدفعها إلى انتحال شخصية الجارة واستصدار جواز سفر اسباني باسمها. لعلّه صراع البقاء يملي عليها تصرّفاتها في ظروف غير طبيعية تستدعي وضع المعايير الأخلاقية جانباً. ولذلك، لجأت إلى وسائل غير مشروعة لتحقيق غاية مشروعة، فاستخدمت التزوير والرشوة والكذب وانتهاك خصوصيات الآخر لبلوغ غايتها، وتحمّلت التحقيق البوليسي الذي مورس عليها في المطار، وقامت ببناء سيرة ذاتية لشخصيتها الجديدة استناداً إلى صورها ورسائلها ودفتر ملاحظاتها وهاتفها واتصالاتها وحاسوبها وبريدها الالكتروني وثيابها وسيرة أسرتها حتى تنجح في تقمّص شخصيتها.

على مشروعية الغاية التي تسعى إليها الراوية، يلازمها شعورٌ بالذنب، وتعيش صراعاً داخلياًّ بين المبدأ والمصلحة. ولعلّ  قيامها بزيارة قبر أمها ووضع باقة من الزهر عليه واعترافها بذنبٍ قديمٍ ارتكبته وبتقصير إزاءها، من جهة، وقيامها بزيارة قبر جوليا بيرالتا أم الضحية ووضع باقة من الزهر عليه والاعتذار منها عمّا فعلته لابنتها، من جهة ثانية، يندرجان في إطار التكفير عن الذنب والتخفّف  من ثِقَلِ الإحساس بالعار، فالغاية تبرّر الوسيلة في الظروف الاستثنائية.

  في نهاية الرواية، تقول بورجو على لسان أديليدا، بعد وصولها إلى مدريد واللقاء بماريا خوسيه، ابنة عمّتها التي طالما تواصلت معها بشخصيتها الجديدة: "كانت الساعة العاشرة والنصف صباحاً، التاسعة والنصف بتوقيت جرز الكناري. سيكون هناك ظلام دائم في كاراكاس" (ص 253). وهكذا، ترهص النهاية ببداية جديدة للشخصية تتمظهر في الانتقال من ظلام كاراكاس إلى ضوء مدريد، ومن أديليدا فولكون إلى أورورا بيرلنتا.  ولعلّ الكاتبة أرادت أن تقول في روايتها أن الإنسان هو ابن الظروف التي تفرض عليه مشيئتها وتتحكّم بمساره ومصيره أكثر ممّا هو ابن الخيارات التي يختار.

الخطاب الروائي

تضع كارينا ساينز بورجو "الابنة الاسبانية" في ثلاثٍ وثلاثين وحدة سردية متوسّطة، فيتراوح طول الوحدة الواحدة بين صفحتين اثنتين، في الحد الأدنى، كما في الوحدة الثامنة والعشرين (ص 199)، وست عشرة صفحة، في الحد الأقصى، كما في الوحدة الثلاثين (ص 210). والعلاقة بين الوحدات تتراوح بين الخطّية والمتكسّرة. على أنّ الوحدة الواحدة تتعدّد فيها المشاهد السردية، وتنخرط فيما بينها في علاقة تآلف غالباً وتنافر نادراً. والتعدّد ضمن الوحدة قد يتعلّق بالنوع (السرد / الوصف)، والنمط (السرد / الحوار)، والزمن (الماضي / الحاضر)، والتقنية (التزامن / الاسترجاع). وإذا كان السرد هو النمط الطاغي على الرواية، كما هي الحال في هذا النوع الأدبي، فإنّ الكاتبة قامت بكسر هذه النمطية في عدد من الوحدات السردية لتحقيق وظيفة معيّنة؛ فكسرته في الوحدة الثالثة بأغنية جنائزية للإيحاء بالرهبة، وفي الوحدة الثالثة والعشرين بأشعار زنجية للإيحاء بواقعية السرد، وفي الوحدة التاسعة والعشرين بمقتبسات وجيزة من دفتر ملاحظات تضيء سيرة الشخصية، وفي الوحدة الثانية والثلاثين بكابوس يعكس قلق الشخصية. على أن هذا الكسر بأدواته المتعدّدة لم يحل دون التناغم الداخلي في الوحدة السردية. وجميع هذه العلاقات بين الوحدات المختلفة أو بين المشاهد في الوحدة نفسها يجري التعبير عنها بلغة رشيقة، تؤثر الجمل القصيرة والمتوسطة وتُعرِض عن الطويلة، ما يمنح النص السلاسة والمرونة ويجنّبه التعقيد والاستكراه.    

المزيد من ثقافة