Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اليمنيون وحديث المرجعيات

لا السلاح والقهر قادران على حسم الموقف ولا المرجعيات يمكن فرضها عبر مجموعات الواتسآب

الوثيقة كانت مشروعاً للنقاش وليست أمراً واجب النفاذ (أ ف ب)

تفجرت ضجة كبرى بعد تسريب وثيقة قيل إنها مشروع الحل الشامل للأزمة اليمنية قدمها المبعوث الدولي للحكومة التي  تمثل "الشرعية" اليمنية المقيمة في الرياض. وكان من ضمن الاعتراضات عليها أنها تنسجم مع الطرح الذي ترغب فيه جماعة الحوثي، بل إنها هي التي صاغت أفكارها. وقال كثيرون من منتقديها إن الحوثيين هم الذين فرضوا وجهة نظرهم في شأن المسار الذي يجب أن تكون عليه المباحثات المقبلة التي تدعو إليها الأمم المتحدة، وتدعمها المملكة العربية السعودية. وما زاد من الغموض حول الوثيقة (المشروع) أن المبعوث الأممي مارتن غريفيثس ومكتبه لم يدليا بما يؤكد كلام المنتقدين أو ينفيه.

منتقدو الوثيقة (المشروع) هاجموها تحت مبرر أنها تجاهلت ما صار متعارفاً عليه بالمرجعيات الثلاث (القرار الدولي 2216، ومخرجات الحوار الوطني، والمبادرة الخليجية مع آليتها التنفيذية). وهي مجتمعة تشكل العناصر الرئيسة التي تحصل بها "الشرعية" على استمرار اعتراف الإقليم والعالم بها كممثل للجمهورية اليمنية، وتعتمد عليها في مواجهة خصومها، وهي سلاحها الوحيد في وجه منتقدي أدائها. ويرى المنتقدون أن معدي الوثيقة تعمدوا- من وجهة نظرهم- استخدام مفردات أثارت شكوكهم في نيات المبعوث، مرجعين ذلك ببساطة إلى أنه بريطاني الجنسية. وهكذا توصلوا إلى نتيجة مقنعة بالنسبة إليهم، أنه يمثل سياسات بلاده ويسعى لتنفيذها في اليمن لتحقيق أهداف شريرة. ويودون أن يتناسوا أنه يمثل قبل ذلك إرادة مجلس الأمن الدولي وخصوصاً الدول الخمس الكبرى.

في واقع الأمر إن الوثيقة -إذا افترضنا صحتها- كانت مشروعاً للنقاش، وليست أمراً واجب النفاذ. وقد يفهمها البعض بأنها مجرد بالون اختبار لمحاولة معرفة المواقف إزاء الموجهات الرئيسة للمشروع المقترح. وكي يؤكد المنتقدون صحة تفسيراتهم فقد انتقوا عدداً من المصطلحات التي تم إدخالها على الوثيقة المعدلة (يقال إنها الثالثة) مثل استخدام مصطلح (الأراضي اليمنية) بدلاً عن (أراضي الجمهورية اليمنية)، وأنها لم تذكر "المرجعيات" الثلاث الشهيرة. وهي ملاحظات تدل على قلق شديد من وقوع "الشرعية" ضحية ضعفها وغيابها وعجزها، وهي العوامل الحقيقية التي تجعلها غير قادرة على الفعل على أرض الواقع معتمدة على ورطة الإقليم، وتوريطه في تحمل أعبائها معولة عليه للدفاع عنها وحمايتها وتطبيق المرجعيات الثلاث نيابة عنها.

ما يغيب عن منتقدي الوثيقة -بغض النظر مرة أخرى عن صحتها من عدمها- أنهم في غالبيتهم يعيشون خارج اليمن بعيدين عن جحيم الحرب، وما يترتب عليها من نزيف دم ودمار. وهم يقيناً يدركون أن الإطار العام لما جاء فيها هو في الجوهر مبني على حقائق الأرض التي تكرس واقعاً مختلفاً عن الظروف التي أحاطت بنشوء "المرجعيات الثلاث" في الفترة مابين 2011 وحتى اليوم. ولا أقصد هنا تثبيت سيطرة الحوثيين على مزيد من المساحات الجغرافية التي تحكمها فحسب، إنما- وهذا الأهم- أن قوى كثيرة قد تعزز وجودها داخلياً وخارجياً، صارت تمتلك على الأرض أضعاف ما يمكن للشرعية أن تزعمه من النفوذ والتأثير. وعلى رأس هذه القوى (المجلس الانتقالي الجنوبي)، ناهيك عن الجماعات المسلحة التي تعمل خارج إطار "الشرعية" وأهدافها مثل تشكيلات (حراس الجمهورية) في الساحل الغربي، وكذا التجمعات المتكاثرة في حضرموت، وتعز، والحديدة، وغيرها.

إنه لمن الطبيعي أن يسري الخوف في جسد "الشرعية" على مستقبل ممثليها، فيصبح من المنطقي أن ترهق نفسها بالبحث عن الصيغ المحتملة التي تضمن لهم أدواراً في أي عملية سياسية مقبلة، وفي اللحظة نفسها هي تمعن في خلق العراقيل أمام أي تفاهمات قد تقذف بهم خارج المشهد، ولكنهم أيضاً يتهربون من التفكير الواقعي المتجرد من العواطف الذي لا بد أن يقودهم إلى إدراك أنّ استمرار وجودهم بأي صيغة من الصيغ على مسرح الأحداث سيكون حتماً محكوماً، ومرتبطاً بعوامل الأرض، ومعتمداً على قدراتهم الذاتية لا على نصوص "المرجعيات الثلاث"، ولا على دعم الإقليم لهم. وإذ إنهم غير موجودين فعلياً على الأرض، ستكون حصتهم متناسبة مع هذا الوهن العظيم.

إن ما يتوجب على "الشرعية" أن تفعله، من دون اختلاق التبريرات والأعذار، هو استدراك الموقف الذي خلقته بنفسها ثم اختنقت بحباله، وأن تستوعب أنها بتعاطيها غير الكفؤ ألقت بأثقالها وأخطائها على المملكة العربية السعودية التي لا بد أنها هي الأخرى تبحث عن وسيلة للخروج السريع من المأزق الذي كان من الممكن تفاديه منذ البداية لو أنها وجدت شريكاً وطنياً قوياً وقادراً. ولعل المشاورات التي تجري منذ أكثر من 4 أسابيع في فندق الريتز في الرياض، تشير بجلاء إلى حجم التعقيدات التي تشكلت على مدى السنوات الخمس، وتستوجب الخروج من دائرة أو دوائر البحث في ترتيب الأوضاع الخاصة لهذا الكيان، أو ذاك إلى نطاق أكثر اتساعاً يبحث عن هم وطني جامع بعيداً عن نظام المحاصصة الذي ترسخ في لبنان، والعراق ولم يؤد الغرض المتوخى منه لأنه بني على الانتماء المذهبي والمناطقي، ولم يكن يلتفت إلى معايير الكفاءة والنزاهة.

صارت "المرجعيات الثلاث" قضايا يمكن الاستناد إليها لمجرد الاستئناس بنصوصها، ولكنها لم تعد وحدها تشكل المخرج من أزمة البلاد المدمرة. لذا، فمن المفترض الدخول في مسار جاد للبحث عن صيغة وطنية جديدة يكون الدستور القائم مرجعيتها، ويمكن التوافق على إدخال التعديلات المؤقتة الواجبة على نصوصه التي تكفي حالياً لاستعادة نشاطات الدولة المدنية، ولا أتصور أن المواد الحالية غير قادرة، في حال الاتفاق على توفير قاعدة لحوار يمني- يمني.

ستتزايد الاعتراضات من كل الأطراف، وليس معقولاً تصور الدخول في مفاوضات- مشاورات بعد أن يكون المجتمعون قد اتفقوا على النصوص والبنود كلها. لأن هذا الأمر يستوجب اللقاءات المباشرة بين الأطراف للبحث في التفاصيل والعمل على تجاوز العراقيل. وليس من الحذق الظن أن أحداً سيتمكن من انتزاع ما يريده من طريق المرجعيات أو بالسلاح، فذلك ليس إلا أوهاماً يتشبث بها من لا يريد وضع حد لمأساة اليمنيين.

لا السلاح والقهر قادران على حسم الموقف، ولا المرجعيات يمكن فرضها عبر مجموعات الواتسآب.

المزيد من آراء