Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اعتقال القيادات اليمنية في القاهرة والانسحاب المصري (1 -2)

كانوا يريدون مقابلة الرئيس جمال عبد الناصر والتفاهم معه حول أسباب التوتر

مشهد عام لمدينة صنعاء (رويترز)

في الأيام الأولى من شهر سبتمبر (أيلول) 1966، اشتدّ الخلاف في صنعاء بين القيادات السياسية، فقرّرت مجموعة منهم (حوالى ستين من كبار الشخصيات)، وعلى رأسهم القاضي عبد الرحمن الأرياني والأستاذ أحمد محمد نعمان (عضوا المجلس الجمهوري) والفريق حسن العمري (رئيس الحكومة)، السفر إلى القاهرة لمناقشة الخلافات بينها، والمشير عبدالله السلال الذي كانت مصر تدعمه بقوة، ولبحث طبيعة العلاقات بين البلدين بحكم الوجود العسكري المصري الضخم والدعم الذي تقدّمه إلى الثورة.

وكان في بالهم مقابلة الرئيس جمال عبد الناصر والتفاهم معه حول أسباب التوتر ومحاولة إقناعه والمسؤولين المصريين بعدم جدوى استمرار مساندة السلال بسبب النزاعات المستمرة التي عرقلت التوصّل الى إنهاء الحرب.

قبل مغادرة الوفد إلى القاهرة، أبدى عدد من كبار مشايخ اليمن خشيتهم من تعرّض المسافرين إلى الاحتجاز هناك، لكن أحداً لم يكن يتصوّر إمكانية قيام الحكومة المصرية بالحدّ من حرّية مسؤولين وقيادات من دولة أخرى.

وقبل مغادرة الوفد، بعث القادة الثلاثة (الأرياني والنعمان والعمري) برقية الى الشيخ صالح الرويشان والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر شرحوا فيها أهمية قرار السفر بعد اقتناعهم بأن كل القرارات والالتزامات والاتفاقيات تُقابَل بالاستهانة (مِمَّن لا يؤمن بشعبه ولا يحترم كرامة المواطنين)، في إشارة إلى السلال، وأنهم آثروا السفر تجنّباً للفتنة ومن أجل "حقن الدماء".

كان الاستقبال فاتراً على غير العادة، ولم تتم استضافة الوفد كما كان الأمر يحدث في زيارات سابقة، فتكفّلت السفارة اليمنية بذلك، وشعر المسؤولون بالقلق والريبة.

 وبعد انتظار أيام عدّة، حُدّد موعد للقاء مع نائب الرئيس المشير عبد الحكيم عامر والسيد أنور السادات (كان آنذاك رئيس مجلس الأمة) في 16 سبتمبر (أيلول) 1966، فذهبوا جميعاً عدا النعمان الذي شعر بعدم جدوى اللقاء في غياب الرئيس عبد الناصر.

لدى وصولهم إلى مقرّ الاجتماع، فوجئوا بأن الذين سيلتقون بهم هم وزير الحربية شمس بدران والممثل الشخصي لعبد الناصر (حسن صبري الخولي) والسفير المصري لدى اليمن أحمد شكري.

رفض الأرياني والعمري والقاضي عبد السلام صبرة البقاء وغادروا إلى منزل الفريق العمري، وما هي إلّا دقائق حتى لحق بهم بقية من تأخّر في مكتب شمس بدران وشرحوا الإهانة التي لحقت بهم من التعامل وأسلوب مخاطبتهم واتّهامهم بالخيانة، مِمّا اضطُرهم إلى المغادرة على الرغم من محاولات الخولي وشكري تهدئة الأجواء.

 وبعد دقائق، قرروا جميعاً الذهاب إلى منزل النعمان  لإطلاعه على ما حدث، والتشاور حول الموقف الذي يجب اتّخاذه جماعياً.

لم يمرّ وقت طويل حتى حدث ما كان المشايخ يحذّرون منه، إذ وصل عدد كبير من ضباط الاستخبارات وبعدما تعرّفوا على أسماء الموجودين، أجروا اتصالات وعادوا ليطلبوا من النعمان والدكتور حسن مكي والأستاذ أحمد عبده سعيد والشيخ أمين عبد الواسع نعمان مرافقتهم للقاء المشير عامر.

لكنهم فوجئوا بأن الموكب أوصلهم الى السجن الحربي، وهي العملية التي وصفها النعمان في "ذكرياته" بـ"الغزو الكبير". وانتظر الأرياني والباقون عودة النعمان ورفاقه حتى وقت متقدّم من الليل، إذ ظلّوا على اعتقاد بأنهم ذهبوا فعلاً للقاء المشير عامر.

يقول النعمان في مذكراته أن مدير السجون الحربية المصرية حمزة بسيوني كان في استقبالهم، وبعد انتظار، أبلغهم أن الموعد مع المشير قد تأجّل وأنهم سيكونون ضيوفاً.

وكان الأمر مذهلاً حدّ الصدمة، واقتادوهم إلـى زنزانات منفردة وأغلقوا الأبواب على المجموعة الأولى من "الضيوف"... وقد وصف النعمان في "ذكرياته" الحالة المزرية للزنزانة وانعدام التهوية والإضاءة وكان الأشدّ مرارة عدم القدرة على الذهاب إلى دورة المياه، إلّا حين يسمح السجّان، بعد التأكد أن السجين لن يلتقِ أحداً من زملائه في الطريق إليها ومنها، وهو ما عبّر عنه في عبارة شهيرة ذاع صيتها قالها لمدير السجن بعد أشهر من اعتقاله، حين سأله بسيوني إن كان مرتاحاً في سجنه، فسخر منه النعمان، قائلاً "كنّا أيام الإمام نطالب بحرّية القول، أما اليوم، فنطالب بحرية البول".

وفي صباح اليوم التالي، اعتُقل عدد آخر من الوزراء والمسؤولين والضباط (كان من بينهم الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي وعلي سيف الخولاني رئيس الأركان ومحمد تلها مدير الأمن العام وحسين المسوري ويحي مصلح وعلي المؤيد ويحيى المتوكل ومحمد أبو لحوم) وغيرهم وأودعوا جميعاً في السجن الحربي في زنزانات انفرادية.

بقي النعمان في السجن الانفرادي لمدة تسعة أشهر وعشرة أيام ويقول عن تلك الفترة "لم يكن أي سجين يعرف عن غيره، ويلاقي العذاب نفسه، يأنس لنفسه، لا يتكلم مع أحد ولا يكلمه أحد. لا يرى الشمس ولا يعرف من أين تشرق ولا يعرف أي شيء وهو في الزنزانة. يرمون له الأكل في الوقت الذي يريدون. يعطيك الفطور الساعة 12 ظهراً، ويعطيك الغداء الساعة 6 بعد الظهر، ويعطيك العشاء في منتصف الليل، ولم يكن مسموحاً للسجين الاستماع إلى الراديو أو قراءة الصحف".

عاش النعمان وبقية المعتقلين معزولين عن العالم، لا يعلمون ما يدور خارج زنزاناتهم، ولم يعلموا أنّ حرباً قد قامت وانتهت. وعن تلك الفترة، يقول في "ذكرياته"، "لم نكن نسمع أو نعرف عن الحرب شيئاً، إلّا حين فتح أحد السجّانين باب الزنزانة كأنّما يريد أن ينتقم من الهوان الذي يتلقّاه ليتشفّى كأنه منتصر، وقال لي: عم نعمان. الفرج جاء. قلتُ له: هل سيخرجوننا؟ قال: لا. جيشنا انهزم وإسرائيل في السويس والرئيس استقال وكلهم استقالوا... وللتأكيد على كلامه جاء له السجّان بالجريدة. وفي تلك الليلة، صارت "حرية البول" متاحة وبات اللقاء مع بقية المعتقلين مسموحاً، فجاء لزيارته زميل قديم هو المرحوم محمد حسن صبرة الذي كان قد أُخرج  قبلها للعلاج، إلّا أنهم أعادوه بعدما ازدحمت المستشفيات بالجرحى.

يصف النعمان ذلك اللقاء "في الليل، فتح السجّان الزنزانة وأدخله – يقصد محمد صبرة - ومن ثم أغلق علينا. التقينا كأننا خارجان من القبور، كل واحد يرى الآخر في شكل غريب، وكل واحد يتحدث من جلده لا من لسانه. وبعد قليل، جاء السجّان بابن عمي الذي كان في الزنزانة بالقرب مني".

 وبعد أيام، نُقل المسجونون إلى سجن القلعة، حيث صار اللقاء مسموحاً والحركة داخله بحرية وأيضاً الصحف والاستماع إلى الراديو.

المزيد من آراء