غيّرت الأزمة الاقتصادية والمالية كثيراً من مفاهيم المواطن اللبناني وسلوكياته، ويعتبر ازدهار "البُوَر" مؤشراً على ذلك، ففي مدينة الميناء الشمالية، تنتشر عشرات من المحال التي تبيع شتى أنواع السلع والتجهيزات المنزلية والحياتية، المستعملة والجديدة.
وينطبق على تجارة "البُوَر" المثل اللبناني التقليدي "من البابوج إلى الطربوش"، إذ يتفاجأ الزائر بشدة بتنوّع البضائع المرصوفة في أنحاء المحال البدائية الهندسة والبسيطة التجهيز، وتؤمن مصدر دخل لحياة العشرات من الأفراد، بسبب تعدّد الأنشطة التي تغطيها هذه السلسلة الاقتصادية، وتلعب دوراً في عملية تدوير السلع، وإعادة استعمالها نظراً لحالتها الجيدة.
محاولة توازن
تختصر مسيرة حسام شركس المراحل التي مرّت بها "بُوَر البضائع المستعملة"، في عام 1991، بدأ العمل على شاحنة صغيرة، يجول فيها المناطق اللبنانية بحثاً عن رزقه من خلال شراء البضائع التي قرّر أصحابها الاستغناء عنها، ومن ثم انتقل إلى العمل بـ "الكرستا" وهو المحل الذي يجمع فيه البضاعة.
وتمكّن حسام من مراكمة الصدقية مع زبائنه إلى جانب "كمية كبيرة من البضاعة التي لا تتعرض للتلف السريع"، ويتنوّع الخيار من الأبواب والشبابيك الخشب والألمنيوم، إلى رفوف السوبرماركت وخزانات حديدية عسكرية والمغاسل والحمامات الرخامية وأثاث غرف الأطفال.
وتشكل المناطق اللبنانية الغنية والطبقات الميسورة "المصدر الأساسي لهذه البضائع"، ويجول أصحاب الشاحنات الذين يُقدر عددهم بـ 150 سائقاً بين الأحياء والقرى، يسعون وراء "منزل يُعاد ترميمه"، أو عائلة قرّرت تجديد مرافق مسكنها، أو متجر أقفل أبوابه، ويحاول هؤلاء "اقتناص الصفقات الرابحة"، ويدخلون في تفاوض مع أصحاب المؤسسات لتحقيق الحد الأدنى من الربح.
يشتري أصحاب "البُوَر" موجودات الشاحنات، ويحاولون إجراء التوازن بين الحصول على أفضل سلعة وأقل ثمن ممكن. يقدّر حسام حجم التوفير بالنصف، فالمشتري يوفّر ما لا يقل عن 50 في المئة من ثمن السلعة الحقيقية، وعلى سبيل المثال، فإن باب الألمنيوم الذي لا تقل كلفته عن 300 دولار، يمكن شراؤه مقابل 200 ألف ليرة لبنانية (حوالى 50 دولاراً) من البُورة.
ويحتل المصدر الخارجي للبضائع المستعملة، موقعاً ثانوياً، ويشتري أصحاب البُور بعض البضائع المستوردة من بولونيا وغيرها من الدول الأوروبية التي تنتج مواد الصلب.
أزمة الدولار
وانعكست الأزمة الاقتصادية على سلوكيات وقرارات اللبناني، ويلاحظ أصحاب البُوَر تراجع كمية البضائع ذات المصدر الداخلي، ففي الأسابيع القليلة الماضية، قلّت كمية الشبابيك وازدادت الرفوف الحديدية، هذا الأمر يقرأه التجار بصورة سلبية، فعدد البيوت التي يتم تجديدها يتراجع، بينما يتزايد عدد المحال التجارية والمطاعم التي تقفل أبوابها وتُخلي رفوفها.
ويتحدث حسام عن تلقيه اتصالاً من حوالى 80 مطعماً، عرضت عليه بيع تجهيزاتها، وهو مؤشر خطير لإقفال عدد كبير من المؤسسات أبوابها، وبات لافتاً توجه المواطنين إلى شراء بعض التجهيزات الطبية المستعملة، فهم لم يعُد بإمكانهم شراء "أسرة المستشفيات" من المستورد الذي يشترط تقاضي الثمن بالدولار ونقداً.
ويوضح حسام تأثير بورصة الحديد على تسعير البضاعة، فخلال الفترة القليلة الماضية ارتفع سعر كيلوغرام الحديد الأمر الذي يدفع تلقائياً إلى ارتفاع ثمن الأغراض.
مستقبل غامض
وعايش حسام مرتين "انهيار سعر الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي"، ويصف الحركة الاقتصادية بعد الحرب الأهلية بالغنية، وأتاحت فرصة لعدد كبير من الشباب لتأسيس أعمال تجارية، ويتخوّف من ارتفاع سعر الدولار لأن ذلك سينعكس على القدرة الشرائية للمواطنين، وسيطاول الركود الأنشطة الاقتصادية كلها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بدأ التاجر يتلمس "الغصة" عند اللبناني وتردده في شراء السلع المنخفضة الكلفة، ويلاحظ حسام إقبالاً كبيراً من "أبناء بيروت" على شراء "بضاعة البُورة"، في حين بدأ "محدودو الدخل" بالتراجع، وهو يعتقد أن هناك من يسعى لشراء سلع أرخص لأن الجديدة المستوردة مرتفعة السعر.
ويكرر أصحاب "البُوَر" الحديث عن تأثر الطلب بارتفاع الأسعار وشُح الدولار، لذلك، يشبّه أصحاب "البُوَر" عملهم حالياً بـ "القجة" التي يجمعون فيها البضائع في انتظار عودة الزبون، ويشير حسام إلى شراء بعض المؤسسات البلدية والقوى الأمنية التجهيزات من بورته، لأنها بحالة جيدة وبسعر منخفض.
ويمكن تقييم الطبقة الاجتماعية لزبائن "البُورة" من خلال السيارات التي تقف أمامها، ويُلاحظ انتماء عدد كبير منها إلى "الطراز الفاخر"، فهناك كثير من أصحاب الثروات يقصدونها للحصول على البضائع الجيدة بأقل كلفة ممكنة.
دور أساسي في التدوير
وأسهمت "البُور" في ضخ الحياة الجديدة في كثير من السلع، وتلعب دوراً في تدوير المواد الأولية، ويقوم التجار بالمقارنة بين سعر القطعة كاملة أو "كسرها" وبيعها بالكيلو لتدويرها وإعادة تصنيعها. ويوضح حسام أن انخفاض الطلب على بعض البضائع، يدفع إلى بيعها لتجار حديد الخردة، إذ يتم فرمها (القَصّ) أو ضغطها وتصديرها إلى تركيا ومصر بغية إعادة تصنيعها.
وتُشكل تجربة "البُوَر" صورة عن مستقبل لبنان، فالمواطن المنهك اقتصادياً لن يتأخر في شراء البضائع المستعملة للاستمرار على قيد الحياة، فلطالما نجح المواطن اللبناني في الحفاظ على التوازن بين المظهر الجيد والكلفة اللائقة.