لم يكن علم الأرقام يوماً مجرد إحصاء وتحليلات مالية أو تعداد وتحديد كمّ فحسب، بل ارتبط على مر الزمان بتفسير العديد من الظواهر وإحداث ربط منطقي وإحالة أفكار أولية على احتمالات أقوى وأكثر حضوراً، لقد دخلت الأرقام في تركيب بنية الطبيعة وقدمت تفسيرات عن الطريقة التي صمّم عليها الكون بدءاً من أصغر موجوداته وصولاً إلى قوانينه الكبرى، كما شكّل هذا العلم أساساً لكل العلوم الأخرى ودخل في تطبيقات شملت جوانب الحياة العملية كلها، سواء في تقديم تفسيرات كما في الطب والفيزياء أو إيضاحات كما في السرد التاريخي والجغرافيا والبيولوجيا، أو أساس جمالي بُنيت عليه صناعة فنية كاملة، التصميم والعمارة إحداها.
"النسبة الذهبية"
وشكّل موضوع ضبط الأبعاد والخروج بنسب جمالية وإخضاع العمل الفني لأبعاد قياس ثابتة لتحقيق وحدة جمالية متماسكة، هاجساً شغل بال الفنانين على مرّ العصور، فاعتبر اكتشاف "النسبة الذهبية" وخضوع التركيب الجسماني والبيولوجي والفني لها، سراً من أسرار الكون وأحد مفاتيح فهم تصميمه في فترة ما مضت، إذ لم يأخذ رقماً في تاريخ الرياضيات أهمية كالأهمية التي حصل عليها الرقم الذهبي.
لـ "النسبة الذهبية" جذور قديمة تعود إلى عهد عقول رياضية أخذت الكثير من الوقت في دراسة هذه النسبة وخصائصها وأسباب ظهورها المتكرر في الهندسة، وقد قدم إقليدس ( عالم رياضيات يوناني، يلقب بأبي الهندسة) أول تعريف مكتوب لها.
يرمز لها بالرمز فاي ϕ (PHI) المُشتق من اسم النحات والمعماري اليوناني (فيدياس Phidias)، كما تكتب أيضاً باعتماد الحرف الإغريقي φ، وتتحقق عندما تساوي نسبة مجموع عددين على الأكبر بينهما النسبة بين أكبر العددين على الأصغر وتنتج ثابتاً رياضياً قيمته (1.618).
تُحسب "النسبة الذهبية" وتُطبق بطرق عديدة أشهرها المقطّع والمستطيل والمثلث والحلزون الذهبي، وتتجسد في مُتوالية فيبوناتشي Fibonacci التي تحتوي سلسلة من الأرقام، تبدأ بالرقمين 0 و1 وتتكون بجمع هذين الرقمين ثم جمع الرقم المتشكل مع سابقه (0 1 1 2 3 5 8 13 21 34 55)، وحاصل قسمة كل رقم على الرقم الذي يسبقه يشكل نسبة تقترب تدريجياً من النسبة الذهبية كلما تصاعدنا في الأرقام.
العمارة الذهبية
إن الافتتان بهذه النسبة لم يقتصر فقط على علماء الرياضيات والفيزياء، بل امتد ليشمل الفنانين والموسيقيين وبشكل خاص المصممين والمعماريين الذين لطالما استثمروها لإنتاج تكوينات متوازنة، فاعتمدت العمارة في تطبيقاتها على هذه النسبة لتحديد أبعاد التصاميم وتفصيلاتها والوصول إلى أشكال جذابة تنحو باتجاه المثالية في مقاربة بصرية مع الموجودات حولنا من عناصر أولية طبيعية.
رُصدت هذه النسبة في العمارة السورية والبابلية والفرعونية وحتى الإغريقية، وقُدمت ادعاءات على وجودها في هرم خوفو في الجيزة في مصر ومباني الإغريق وعند الهنود القدماء، وفي تصميم البانثيون في روما وضريح تاج محل في الهند وكاتدرائية نوتردام في باريس وكذلك مسجد القيروان في تونس ومسجد قبة الصخرة في فلسطين.
استخدمت في العصر الحديث في كثير من المباني منها مبنى الأمانة العامة للأمم المتحدة وفي برج CN في كندا، ويعدّ مبنى برواز دبي الذهبي أقوى مثال عصري على تطبيق النسبة الذهبية.
تحقيق قبول أولي
انتشر الادعاء بشرطية "النسبة الذهبية" في تحقيق الراحة البصرية والنفسية، ودعمه المنساقون وراءها بشكل كبير، وكان في هذا استبعاد للكثير من الاحتمالات والصيغ الرياضية الأخرى التي تحقق الغاية نفسها.
إن انتشار هذه النسبة بشكل كبير من حولنا شكّل مع الوقت مقياساً أوحداً تقاس عليه التصاميم، بالتالي أكسب تطبيقها التصميم احتمال قبول أولي أعلى، وفي هذا نوع من الاستسهال البصري!
فالذهاب إلى الاحتمال الأعلى للقبول لدى البشر، بحكم التعوّد على هذه النسبة لوجودها الطاغي في الطبيعة، والالتزام بها في كل تصاميمك، يعني أن تتبع النظرة التي تسلك الاكتفاء بالعدد المحدود من المعارف الفكرية والبصرية، على حد سواء، طريقاً في الحكم على التصاميم الجديدة.
فتعميم نسب معدة مسبقاً ومتفق عليها في محاولة دعم رياضية للتصميم للوصول إلى الجمال والمثالية في محاكاة التكوينات الطبيعية، وإلحاق جميع المصممين داخل هذا النسق الرياضي، يعد شكلاً من أشكال القولبة البصرية التي ستنتج حكماً الرؤية البصرية ذاتها، من حيث التناسب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا شك في أن النسبة الذهبية بإمكانها أن تكون أداة مهمة، لكن الالتزام بها كقاعدة أساسية واحدة لتحقيق التوزان والوصول إلى صورة جذابة يعد نوعاً من المبالغة، حتى أن معظم التصاميم التي اتُفق على أنها تطبق هذه النسبة لم تكن مطابقة تماماً لها، بل قريبة منها، بالتالي هناك عدد لا بأس به من الاحتمالات الرقمية المحيطة بهذه النسبة (على الأقل) يمكن اعتبارها ذهبية بشكل ما أيضاً، بخاصة أننا نتعامل مع أعداد غير كسرية.
بناء المثالية
إن تعميم المثالية وتأكيد حضورها في التصاميم من حولنا يشكّلان نوعاً من أنواع التقليد والتقييد أيضاً، لأن هذه المثالية البصرية تنحو مع الوقت إلى أن تصبح تقليدية ومملة بشكل أو آخر، بحكم الاعتياد البصري وتكرار الظهور والتواجد، إضافة إلى أنها لا تستهوي الجميع، ودقتها المبالغ بها يمكن أن تخلق نوعاً من الاستفزاز لدى الناظر، بينما التصاميم الخارجة عن الضوابط المعدة سابقاً يمكن أن تشكل قبولاً أكثر ديمومة على المدى الطويل، وتشير الأبحاث إلى أن الكثير من الناس لا يفضلون التصاميم المصممة على هذه النسبة، بل إن الأشكال المصممة بعيداً منها تجد تفضيلاً ًوقبولاً نفسياً أكبر لدى البعض.
الأكيد أن التصاميم المقيّدة بنسبة واحدة، تنحو مع الوقت لتصبح رتيبة وكلاسيكية، وإذا كانت الكلاسيكية مثلاً مطلوبة في مكان أو لحظة ما، إلا أنها غير مطلوبة دائماً.
مجرد مصادفة!
أصبحت "النسبة الذهبية" هوساً لدى العديد من المصممين، علماً أن تصاميم كثيرة عظيمة لم تعتمد عليها كصيغة رياضية دقيقة، والسؤال هنا، هل كان استخدامها متعمّداً ومدروساً من قبل المصممين؟ أم أنها مجرد مصادفة ساهم البحث المكثف في التركيز على أمثلة حققتها بشكل تقريبي، مما أوحى لنا بتسّيدها.
الحقيقة أن التشكيل البصري ينحو بطبيعته باتجاه الفطرة ويصنع كل مرة مقاربة لا مقصودة مع هذه النسبة، انطلاقاً من الاعتياد على النسب الطبيعية الغالبة التي تحقق توازناً بصرياً، فالطبيعة نفسها تضم عدداً لا نهائياً من اللغات الرياضية لا يمكن اختزالها بلغة واحدة، فكيف إذاً بنسبة واحدة؟
وإذا كان تحقيق التناسب شرطاً أساسياً ملحاً في التصميم إلا أن الوصول إلى التناسب لا يشترط اتّباع قاعدة نسبية محددة، بل هو عملية تقدير لا تحتاج كل هذا التعقيد من قبل المصمم الجيد، حتى أن المصمم الخبير تقوده تقديراته البصرية إلى خلق نماذج تصميمية تقترب جداً من هذه النسبة من دون الاعتماد على التطبيق الآلي أو المصمم مسبقاً ضمن دوائر ومستطيلات وحلزونات ذهبية جاهزة، وهذا دور المصمم على أية حال.
وهنا يعوّل على النظرة الفنية العالية ودور الخبرة في تقدير النسب للخروج بتناسب جميل بعيد من التطبيق الآلي لنسبة محددة. وفي النهاية، سواء كان تطبيقها مقصوداً أم عفوياً، لا يمكننا إنكار أن هذه النسبة تحقق تناسباً لا يضاهى، وتقدم نتائج جذابة جداً إذا طبّقت في إطار يستوجب فيه الخروج بتصميم يخدم توجهاً ذات طابع مثالي وربما تقليدي ومنضبط.