Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اتحاد المغرب العربي... موت من دون دفن

رصاصة الرحمة التي أطلقت على الفكرة كانت احتضار الفكر القومي وتراجعه في المشرق العربي

اجتماع وزراء خارجية اتحاد المغرب العربي في تونس عام 2016 (أ ف ب)

ظهرت الحماسة لفكرة تأسيس كيان باسم "اتحاد المغرب العربي" في عز الصعود السياسي لفكرة "القومية العربية" في المشرق العربي، خلال خمسينيات القرن الماضي، إلا أن فكرة توحيد نضال بلدان شمال أفريقيا ككيان سياسي ظهرت في أوساط الجالية الشمال أفريقية (الجزائرية والمغربية والتونسية) الموجودة في فرنسا، بخاصة من الطبقة العمالية والنقابية القريبة من الحزب الشيوعي الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي، وقد أطلق على هذا الكيان السياسي اسم "نجم شمال أفريقيا"، الذي تأسس عام 1926، وقد تم فيه تأكيد النضال الطبقي والاجتماعي، ولكن وبتطور الأحداث السياسية في منطقة الشمال الأفريقي وانسحاب كل من التوانسة والمغاربة من الكيان وأضحى جزائرياً صرفاً، امتزج فيه برنامج النضال الطبقي الاجتماعي بالبرنامج السياسي المتصل بالتحرر من الاستعمار الفرنسي.

ما يلاحظ بأن فكرة تأسيس كيان "نجم شمال أفريقيا" كفكرة شمال أفريقية كانت بعيدة في منشئها من القومية العربية، بل كانت قريبة في أهدافها وطموحاتها من الطروحات المتوسطية والأفريقية، وهذا يعود أصلاً إلى وجود غالبية كبيرة من المنخرطين فيه من "الأمازيغ". كما أن "نجم شمال أفريقيا" كان كياناً ثقافياً واجتماعياً ضد الاستعباد الرأسمالي وضد العنصرية، التي كانت ثقافة يومية في أوروبا وبخاصة في فرنسا حيال اليد العاملة الشمال أفريقية.

من كيان "نجم شمال أفريقيا" إلى كيان "اتحاد المغرب العربي" هناك مسافة كبيرة من التراكمات السياسية والاجتماعية عرفتها منطقة شمال أفريقيا، في علاقتها مع العالم العربي وفي علاقتها أيضاً مع أوروبا وبالأساس مع فرنسا المستعمر القديم. وقد تميز تأسيس "كيان اتحاد المغرب العربي" بجملة من المعطيات الأساسية، وأولها انخراط "بلدان شمال أفريقيا" بالأطروحة "القومية العربية" ذات الصبغة الدينية الإسلامية، على الرغم من المقاومات السياسية والثقافية التي ما فتئت تقدمها القوى السياسية الأمازيغية التي ظلت محاربة وممنوعة من حرية التعبير الثقافي واللغوي والإعلامي والتربوي. وكلما حاولت هذه القوى السياسية أن ترفع صوتها للمطالبة بحقوقها الاثنية والهوياتية إلا وتُتهم بالخيانة الوطنية والتبعية للاستعمار القديم ومعاداة القومية العربية، وتشتيت الجهود القومية من أجل تحرير فلسطين.

ومع مرور الزمن، وتعقد المشكلات السياسية بين أنظمة هذه الأقطار التي قام عليها هذا الاتحاد "غير المتحد"، وطغيان الخطاب السياسي المفرغ من أي محتوى اقتصادي أو ثقافي أو سياحي مشترك، أخذت كذبة "كيان اتحاد المغرب العربي" تظهر للعيان. وجاءت بعض أفكار "الوحدة"، التي نادى بها العقيد معمر القذافي وأيضاً ظهور أزمة الصحراء الغربية وتعارض المفاهيم الاقتصادية في كل دولة، لتحفر "قبر اتحاد المغرب العربي" وتصعّب عملية التنسيق والعمل المشترك.

ومع أن "الميت" موجود ومؤكد طبياً، إلا أن دفن الجثة لم يحدث. فلا تزال كذبة "الميت الحي" قائمة حتى الآن، وهي كذبة لا أحد يصدقها والجميع يتحدث عنها.

وكانت رصاصة الرحمة التي أطلقت على فكرة "اتحاد المغرب العربي"، هي احتضار الفكر القومي وتراجعه في المشرق العربي وصعود الفكر الوطني، حيث كل دولة عربية أخذت تبحث عن حليف لها من المجموعة الاقتصادية العالمية، في الشرق الاشتراكي أو في الغرب الرأسمالي، وهو ما جعل الاقتصاد والرأسمال، المال والأعمال قبل السياسة في كثير من توجهات بعض الدول العربية التي انتعشت اقتصادياً وسياسياً بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973.  

تشكلت فكرة كيان "اتحاد المغرب العربي" أيضاً على حس سياسي "دونكيشوتي" حول مفهوم فلسطين ومفهوم تحريرها وسبله، ولكن بمجرد أن تغيرت بعض الرؤى القومية في الشرق العربي، أخذ كل بلد من كيان الاتحاد يبحث عن علاقة مع إسرائيل. فالمغرب لم يخف يوماً علاقاته وتنسيقه مع إسرائيل من أجل مصالحه الإقليمية والدولية، وموريتانيا فتحت سفارة لإسرائيل وطبعت علاقتها معها، وتونس أيضاً لم تخف يوماً علاقتها الخاصة بها والتنسيق معها على مستويات مختلفة، وهي حسابات استراتيجية يفرضها منطق التنمية في كل دولة. ومع تعاظم المصالح الاقتصادية والأمنية المشتركة مع إسرائيل، فقد باتت واحدة من الأفكار التي تأسس عليها كيان اتحاد المغرب العربي من الماضي.

وآخر مسمار في نعش "اتحاد المغرب العربي" هو الصعود الواضح للقوى السياسية الأمازيغية في شمال أفريقيا، مع برنامج سياسي وهوياتي واضح، يقوم أساساً على استعادة اللغة الأمازيغية كلغة أصلية لسكان هذه البلدان، وهي اللغة التي ظلت تقاوم من دون تنازل أو تراجع أو كلل، وقد تكللت هذه النضالات القومية الأمازيغية التي قادتها أحزاب وجمعيات المجتمع المدني، في كل من الجزائر والمغرب، بالاعتراف باللغة الأمازيغية لغة وطنية ورسمية، بحسب دستوري البلدين. ولم يكن الوصول إلى هذه النتيجة بالأمر الهين، فقد قدم كثير من المناضلين حياتهم لأجل هذه القضية الهوياتية والكثير عرف السجن والنفي والتشريد، وما يلاحظ اليوم هو التحاق أمازيغ ليبيا وتونس بالمطالبة بما حصل عليه أمازيغ الجزائر والمغرب، من ترسيم لغتهم وتدريسها، بالتالي اعتبار كيان "اتحاد المغرب العربي" من الوفيات السياسية التي أنتجتها القومية العربية في زمن انتصاراتها ولو بالخطب.

لقد مات "اتحاد المغرب العربي" لا لأنه ارتبط بالقومية العربية فقط، ولكن أيضاً لأنه كان اتحاداً أيديولوجياً وضع المسألة الأمنية قبل أي قضية أخرى، أمن الأنظمة الحاكمة، وهو اتحاد جاء فارغاً من أي تعاون اقتصادي أو صناعي أو ثقافي. فمنذ إنشاء هذا الكيان لم تتأسس مؤسسة مغاربية واحدة قوية وفاعلة إن على المستوى الاقتصادي أو البنكي أو الثقافي، كل ما هو موجود هي مكاتب إدارية غير فاعلة في هذا البلد أو ذاك.  

أعتقد أن في الأفق هناك علامة على ولادة كيان سياسي واقتصادي جديد في شمال أفريقيا، كيان تامازغا، كيان القرن، كيان يقوم على المعطيات الثقافية والهوياتية الجديدة، كيان يقوم على التنسيق الشعبي القاعدي بين الحركات الأمازيغية لا على الأنظمة السياسية التي تبحث عن الأولوية "الأمنية" قبل أي قضايا أخرى تهم التنمية البشرية أو الاقتصادية.  

إن مشروع تامازغا، على الرغم من قيامه على ديناميكية سياسية وثقافية متميزة إلا أنه لا يمكن له النجاح إلا بربط مصيره بالدفاع عن التعددية واحترام التنوع الثقافي والعرقي الموجود في منطقة شمال أفريقيا، والخروج من المفاهيم القومية الضيقة التي سجن فيها كيان المغرب العربي نفسه وبها سجل شهادة وفاته.

المزيد من آراء