خلال سنواته الباريسية التي كانت آخر مراحل حياته، كان من عادة الشاعر الكبير محمود درويش أن يقول بكل مرارة للمقربين منه على شكل نصيحة "إياكم والنجاح... فهو طريقكم إلى العزلة في مجتمعات التفاهة التي نعيش فيها. سيجعل النجاح، وربما النزاهة أيضاً، كثراً ممن حولكم يتحوّلون إلى أعداء لكم". ويتابع مقترِحاً على أصدقائه أن يقرؤوا مسرحية "عدوّ الشعب" لهنريك إبسن، ليدركوا حقاً فحوى ما يقول! والحقيقة أن الذين قرؤوا المسرحية بناء على نصيحته فهموا تماماً ما أراد قوله، ومن ثم انصرفوا إلى البحث عن الأسباب التي دفعته إلى ذلك الاختيار في سنواته الأخيرة. غير أن ما سنتوقف عنده هنا يبتعد بعض الشيء عن ذلك الجانب من الحكاية ليسائل العمل المسرحي المعنيّ نفسه عما يحمله في داخله.
شؤون حاضرنا قبل قرن ونيّف
من المعروف عادة أن "عدوّ الشعب" التي تتوسط المسار المهني لإبسن وتعتبر من أبرز مسرحياته الاجتماعية، تبدو كذلك مرتبطة بأوضاعه الذاتية، حتى أكثر من "براند" و"بير جنت"، مسرحيتيه الشاعريتين السابقتين على مرحلة مسرحه الاجتماعي. إذ حتى ولو بدا واضحاً أن "عدوّ الشعب" التي تدور أحداثها في بلدة نرويجية صغيرة وتطاول أحداثاً اجتماعية- سياسية سيدهش المرء أن يجدها كمرآة تحكي عما يحدث في الكثير من مجتمعات العالم حتى في أيامنا هذه وفي أقرب الأماكن إلينا، من أمور تتعلق بالفساد والبيئة والمضاربات العقارية والتفكّك العائلي والدور الفاسد الذي قد يلعبه الإعلام و"البروباغندا" والسلطات الفاسدة المتحالفة مع قطاع الأعمال... وما إلى ذلك، لو بدا كل هذا واضحاً ومصوَّراً بصورة موضوعية، سيدهشنا بالطبع كون الكاتب قد جعل كل ذلك يتكشّف ويُفتضح ويصوّر بقوة موضوعية هائلة، ولكن من خلال فرد سيرى كثر من النقاد والمؤرخين مدى تشابهه مع إبسن نفسه.
هذا الفرد، الذي هو الشخصية المحورية في المسرحية يحمل اسم دكتور ستوكمان. ونراه حين تبدأ المسرحية فصولها الخمسة في حياته العائلية الوديعة ونجاحه المهني محاطاً بمن يحبونه ويترقبون خطوات نجاحه بإيمان ومودة، هو الطبيب المحترم. لكن الذي يحدث فجأة هو أن هذا الطبيب يكتشف أن المياه التي تصل إلى البيوت منذ فترة، وتلك التي يعتمد عليها موسم البلدة السياحي، ملوثة ثم إن سبب التلوث الذي أدى إلى إصابة العديد من السكان بالأمراض سدٌّ أقيم في خراج البلدة. أما المقاول الذي بنى السد فليس سوى... أخيه نفسه، عمدة البلدة الثري، الذي إذ يقرر الدكتور ستوكمان أن لا بد من تصحيح الوضع، تؤازره في ذلك الصحيفة المحلية واسعة النفوذ، يزوره طالباً منه التخلي عن مطالبه الإصلاحية لأن من شأنها أن تكلّف مبالغ باهظة من المال وتنسف الموسم السياحي المقبل الذي يعتمد أصلاً على المياه. وطبعاً لا يقتنع ستوكمان بحجج أخيه، بخاصة أنه يعرف تماماً أنها حجج تنبع من مصلحة هذا الأخير. ولكن بالتدريج، وإذ كان الدكتور ستوكمان واثقاً في البداية من أن كل "الشرفاء" في البلدة سيقفون معه في المعركة الإنسانية البيئية النبيلة التي ما لبث أخوه أن حوّلها إلى صراع بينهما، يكتشف بالتدريج وفي الفصول التالية في المسرحية، أن كل الذين آزروه في البداية قد تخلوا عنه مؤثرين المصالح الاقتصادية المباشرة. بل حتى زوجته راحت ترجوه أن ينظر "بعين العقل" إلى مصالح عائلته وابنيه إن كان في إمكانه أن يغضّ النظر تاركاً الأمور تسير على حالها. لكن ستوكمان الذي لن يجد مَنْ يدعمه حقاً في نهاية الأمر سوى ابنته الصبية سيصرّ على موقفه ولو وحيداً، ولسان حاله يقول إن أقوى إنسان في العالم هو ذلك الذي يقف وحده متصدياً للجميع... أي لكل أولئك الذين باتوا يعتبرونه "عدوّ الشعب".
بدايات كبيرة للمسرح الحديث
كان الكاتب النرويجي الكبير هذا هو الذي وضع بمسرحياته وتنظيره لفن كتابة المسرحية الأسس التي سيقوم عليها فن المسرح في القرن العشرين، بحيث إن جزءاً كبيراً من عمل ثورنتون وايلدر وتنيسي ويليامز وآرثر ميلر وكليفورد أوديتس، وصولاً إلى جيل الغضب البريطاني، وعلى رأسه جون أوزبورن، يعتبر استمراراً بشكل أو بآخر لمسرح هنريك إبسن، ناهيك بأن كاتباً مسرحياً كبيراً هيمنت كتاباته على القرن العشرين كله، برتولد بريخت، كان يقول طواعية إن إبسن كان معلّمه الأكبر.
وُلد إبسن في كريستيانا (أوسلو) عاصمة النرويج عام 1828 ابناً لتاجر ثري، وهو أُغرم منذ بدايات صباه بكتابة الشعر وقراءة الأدب. أما عمله الفعلي في المسرح فلم يبدأ إلا في عام 1851 كمدير مسرح وكاتب، لكنه يومها ما إن بدأ ينطلق حتى قادته الظروف إلى خارج بلاده مبتعداً نحو ثلاثة وعشرين عاماً أمضاها متنقلاً بين شتى المدن الأوروبية، لا سيما في روما، ما مكّنه من أن يطّلع من كثب على آخر ما تطوّر إليه فن الكتابة للمسرح وجعل منظوره الفني أكثر ثراءً. وهو لم يعد إلى النرويج نهائياً إلا في عام 1891 وكان قد أضحى كاتباً ومسرحياً معروفاً وبدأت أعماله تترجم وتُقدّم في العديد من اللغات والبلدان. ولقد بلغ عدد المسرحيات التي كتبها إبسن 26 مسرحية بدءاً بـ"كاتلين" عام 1849 وصولاً إلى "حين نفيق نحن الموتى" عام 1899. وهو بين هذه وتلك كتب بعض أشهر أعماله التي أثّرت على أجيال بأسرها من المبدعين، من "براند" (1865) إلى "بير جنت" (1867)، ومن "أعمدة المجتمع" (1877) إلى "عدو الشعب" (1882)، مروراً بـ"بيت الدمية" (1879) و"الأشباح" (1881) و"هيدا غابلر" و"معلم العمار"... إلخ.
مسرح الزمن الانعطافيّ
ونعرف أن كل هذه الأعمال وغيرها لا تزال حية في ريبرتوارات معظم الفرق المسرحية في العالم لا تقدّم فقط كجزء من تاريخ مؤلفها، بل كجزء من شؤون الحياة الاجتماعية والصراعات السياسية والفكرية. فالحال أن عين إبسن النبيهة، وكما رأينا هنا بالنسبة إلى "عدو الشعب"، كانت في ذلك الزمن الانعطافي الخطير، ترصد التغيّرات التي تطرأ على المجتمع، تماماً إسوة بما كان يفعله أنطون تشيخوف في روسيا، محاولةً أن تجعل للمسرح موقفاً مما يحدث. وعلى هذا النحو نجد كيف أن إبسن بعدما بدأ نشاطه الكتابي بمسرحيات شعرية وربما تاريخية - "براند" و"بير جنت"... مثلا- ومتأملاً لمشكلات وجودية وفكرية، راح يغوص أكثر وأكثر في مسرح اجتماعي تتصاعد قسوة مواقفه فيه، حيث على ضوء الانقلابات الاجتماعية الكبرى وتعقّد العلاقات بين الطبقات وموقف الفرد من المجتمع والمجتمع من الفرد، لا سيما رصده للنزعات التحرّرية التي راحت تتصاعد لدى المرأة بمقدار ما يزداد وعي الفرد لفرديته، انصاغ لديه من ذلك كله عالم مسرحي اجتماعيّ لا سابق له رسمه بلغة حديثة وأسلوب عصري يتطلع إلى العصور المقبلة، جاعلاً من نفسه ككاتب وعامل في المسرح، جزءاً من الصراع غير مكتفٍ بموقف المتفرّج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإن جرّ هذا كله على إبسن عداء كتاب راسخين وجدوا أنفسهم مقصّرين عنه، كسترندبرغ السويدي مثلا، وجد الكاتب دعماً كبيراً له لدى أساطين كتابة آخرين، من أمثال تشيخوف وجورج برنارد شو، سرعان ما أقرّوا بفضل الكاتب النرويجي الكبير عليهم... وهم كلهم اعترفوا بشكل أو بآخر، بالأبوّة الشرعية لهنريك إبسن للمسرح الحديث في القرن العشرين. غير أننا لا يمكننا أن نتوقف هنا عن الحديث عن إبسن من دون الإشارة إلى أن زمنه كان لا يزال أبكر من أن يساعد على اكتشاف سمة أساسية من مسرحه، وهي السمة السيكولوجية التي رحل هو عن عالمنا في عام 1906 في وقت كانت بحوثها لا تزال جنينية. ومن هنا كان واحداً من مهام الأزمان التالية على رحيل إبسن استكشاف ذلك البعد، لا سيما في أعمال رئيسة له، لعل "عدوّ الشعب" واحدة من أهمها.