Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يقضي كورونا على "المكان الثالث"؟

راعت الشركات التي اعتمدت نظام "العمل عن بعد" الجانب الاقتصادي على حساب النفسي

حول فيروس كورونا المنزل إلى مكان لتأدية كل الأدوار العملية والأسرية في آن واحد (غيتي)

صاغ عالم الاجتماع الأميركي راي أولدنبورغ مفهوماً جديداً للمكان الذي يحتاج إليه الفرد ليعيش يوماً صحياً، إذ حدد في كتابه الذي صدر عام 1990 بعنوان "المكان الثالث" ثلاثة أماكن يجب أن تكتمل لدى الفرد في محيطه الحياتي، فبجوار مقر العمل ومنزله، يحتاج المرء إلى "مكان ثالث محايد ومنفصل عن المنزل والعمل"، عام وغير رسمي يقابل فيه الإنسان أفراداً آخرين ومختلفين، ربما يستمتع بمشاركة وقته معهم.

ويصف أولدنبورغ الأماكن الثلاثة، بأنها تعزز بناء المجتمع، ويشعر الإنسان فيها بأنه مرحبٌ به. وتوفّر بنية فضفاضة وتفاعلية، يشعر فيها الأشخاص فعلياً بالتساوي، وتؤدي إلى تطوير العلاقات بطريقة لا يحتمل حدوثها في مواضع أخرى.

إلا أنه ومع الظروف الصحية التي يشهدها العالم منذ بداية العام الحاليّ، أتى الوباء على المكان الثالث أولاً، بعد أن أقدم كثيرٌ من الحكومات على إغلاق تلك الأماكن العامة وغير الرسمية في إطار محاولتها لاحتواء تفشي كورونا. لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، إذ بدأت الأماكن الثانية (العمل) أيضاً بالتقلّص بعد أن أرسلت الشركات موظفيها إلى منازلهم بشكل مؤقت، واكتفى الناس بمكان واحد (المنزل)، على الأقل في فترة الطوارئ الحالية.

الاستمرار في العمل عن بعد

مع بدء انقشاع الأزمة، وعودة الموظفين إلى مقرات عملهم، فاجأ مؤسس "فيسبوك" مارك زوكربيرغ العالم خلال مؤتمر موجّه إلى موظفي شبكة التواصل الاجتماعي الأكبر في العالم، أن نصف العاملين فيها "سيتمكّنون من العمل من منازلهم بشكل دائم في غضون خمس إلى عشر سنوات".

الأمر ذاته حدث لمنافستها "تويتر"، التي أعلنت أن عدداً من موظفيها "سيُسمح لهم بالعمل من المنزل بشكل دائم بعد انتهاء الإغلاق".

وقالت الشركة إنّها كانت من بين أول من انتقلوا إلى العمل عن بعد، نتيجة للأزمة الصحية الراهنة، وستواصل هذه السياسة إلى أجل غير مسمى، باعتباره جزءاً من التحرّك نحو "قوة عاملة موزّعة"، كما أعلنت "غوغل" أمراً مشابهاً، ما سيدفع بكثيرٍ من الشركات للحاق بها.

وهو ما يعني أن أحد الأماكن الثلاثة التي يقوم عليها نمط الحياة الصحي لدى أولدنبورغ صار مهدداً، بعد أن بدأت الشركات دمج المنزل في مقر العمل، ليصبح لدى الفرد في هذه الشركات مكانان فقط من دون مكانٍ ثالث، ما يطرح تساؤلاً حول مدى صحية التجربة وإنتاجيتها.

هل نجحت التجربة فترة الحظر؟

قبل تداول فكرة استمرارية التجربة إلى الأبد، يجب طرح سؤال مهم حول مدى نجاح التجربة في الفترة الماضية.

إذ ينظر متخصصو التوظيف ومسؤولو الشركات إلى التجربة من الناحية الإنتاجية، كما الحال مع محمد القنيني مسؤول مؤسسة شركة للتوظيف، الذي يرى أن الموظف بدا أكثر حيوية في العمل خلال فترة الحظر والعمل من المنزل "عدم تعرّض الموظف إلى المشكلات اليومية، مثل الاختناقات المرورية، جعل قدرته على العمل بشكل صحي أعلى".

ويضيف، "الموظف في فترة العمل من المنزل انتقل من تقييم عمله عن طريق ساعات العمل إلى تقييمه من خلال الإنتاجية"، وهو ما يرفع قيمة العمل وجودته.

ويشترط القنيني نجاح التجربة بمدى قدرة المنشأة على توظيف التقنية في عملها "الشركات التي استعانت بالتكنولوجيا في متابعة سير العمل والحرص على عقد الاجتماعات لم تتأثر إنتاجيتها وعملها".

إلا أنه يُبقي ملف الجانب النفسي مفتوحاً، وهو ما جرت إحالته إلى المعالجة النفسية هلا عماد التي خشيت تأثير عدم قدرة الموظف على ضبط عوامل المكان، إلى شعوره بالضغط وفقدان القدرة على الاختيار.

وتواصل هلا عماد في شرح التأثيرات النفسية للعمل من المنزل "يمكن استخدام النظريات ذاتها التي تحدّثت عن تأثير مواقع التواصل الاجتماعي في الصحة النفسية بسبب تعطّل التواصل الإنساني على تجربة العمل عن بعد، فهذه التجربة التي ستخلق عزلة مفروضة ربما تزيد من حدة القلق والتوتر والاكتئاب، وتفجّر في بعض الأحيان بسبب الوحدة مشكلات نفسية أخرى كانت كامنة لدى الشخص ووجدت في الظروف الحالية الفرصة لإظهار نفسها".

وتضيف، "والزعم أن العمل عن بعد سيخفف من الأمراض النفسية المرتبطة بضغط العمل غير دقيق، لأن هذه الضغوط تأتي عادة من شكل التواصل بين الزملاء ورب العمل، وهي غير مرشّحة للتحسّن عبر العمل عن بعد".

التعليم عن بعد

النظر إلى تجربة "العمل عن بعد"، يدفعنا إلى متابعة نظيرتها "التعليم عن بعد" أيضاً التي زاملتها في الظهور تحت وطأة الأزمة، وإن لم تستمر بعد ذلك.

إذ تتفهم منى الصواف، استشارية الطب النفسي، هذه الخطوة باعتبارها "مرحلة طوارئ"، غير قابلة للاستمرار إلا في أطر ضيقة "في الظروف الطبيعية لا بأس بتطبيق التعليم عن بعد على المراحل العليا، من الثانوية والتعليم الجامعي، لأن الفرد في هذه السن يفترض أنه اكتسب المهارات الاجتماعية المطلوبة، وصارت الأولوية في هذه المرحلة هي تلقي المادة العلمية"، وتضيف في ما يتعلق بالمراحل الأولى "لكن في المراحل الأولى فإن العادات الاجتماعية والمهارات التفاعلية التي يفترض أن يكتسبها الطفل من احتكاكه بالفضاء العام أهم من التحصيل العلمي، مثل الانضباط والاستيقاظ الباكر، لذلك لا يمكن فرض التعليم المنزلي عليهم".

إلا أنها لا ترفض فكرة التعليم المنزلي بالمطلق "التجربة التي عشناها في الأشهر الماضية، جعلت الأسرة شريكة في عملية التعليم للطفل، بعد أن كان دور الأسرة مقصوراً على تجهيز الأبناء للذهاب للمدرسة"، لذلك فالصواف تفضّل دمج التجربتين، بحيث يكون جزء من عملية التعليم منزلية، مقابل تقليل ساعات الدراسة الصفية.

الطبابة عن بعد

تستمر الصواف في الحديث عن الجانب النفسي، لكن من باب الطبابة، إذ اعتمدت بعض العيادات على التقنية لتشخيص المرض عن بعد، وهو ما لا تتفق معه لكونه يضر عملية التشخيص الدقيق "في عملية التشخيص النفسي نعتمد على لغة الجسد لفهم الحالة النفسية للمريض، والتأكد من مدى صدقية المريض، وهو ما لا يمكن التأكد منه في هذه الحالة، ونكتفي بالاعتماد على صدقيته الشخصية".

وأضافت "أضف إلى الأسباب السابقة موضوع الخصوصية، إذ إن حالة المريض التي يُفترض بها أن تبقى خاصة بينه والطبيب المعالج، صارت مهددة أمام فرص اختراق وتسريب المعلومات التي نتلقى تحذيرات مستمرة منها".

وتحصر الصواف مبررات استخدام التقنية في مجال الطبابة في ظروف خاصة "يكون استخدام التقنية مبرراً في الظروف التقليدية في حالة عدم قدرة المريض على زيارة العيادة لأسباب صحية، أو عدم توافر عيادة بالتخصص المطلوب في منطقته"، وسوى ذلك ترى أن عملية التشخيص حينها "ستكون غير دقيقة".

المزيد من صحة