Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 المصري رءوف مسعد سوداني الهوى وامستردام ملجأه

في "لما البحر ينعس" يكتب ذكرياته المبعثرة ويعترف أن السجن جعله أديبا

الكاتب المصري رءوف مسعد (موقع الكاتب)

 قبل أن يبلغ من العمر خمسين سنة، كان "التشرد"، إذا جازَ التعبير، هو السمة الغالبة على حياة الروائي المصري رءوف مسعد، الذي ولد في 1937 في بورت سودان، لأبوين من محافظة المنيا في صعيد مصر ينتميان إلى أسرة تركت الكنيسة الأرثوذكسية "الغنية" التي تنتمي إليها غالبية المسيحيين في مصر، وانضمت إلى الكنيسة البروتستانتية الإنجيلية "الفقيرة"، على أمل الارتقاء اجتماعياً. في ذلك يقول مسعد: "أعتقد، مستنداً إلى مشاهداتي الخاصة لأعمامي الفقراء، أن والدي الطموح لم يرد أن يكون فلاحاً مثل أعمامي فالتحق بالتبشيريين الأميركيين في صعيد مصر، وقبِل البروتستنتية الإنجيلية التي وفرت له ولأولاده التعليم مجاناً في كلية أسيوط الأميركية".   

نذرته أمُه لخدمة الكنيسة لكنه عندما بلغ الخامسة عشرة من عمره عرف رءوف مسعد الشيوعية التي كانت في تصور أسرته تعادل الإلحاد الذي لن يجد في ما بعد غضاضة في المجاهرة به، ليقر في النهاية بأنه أنجب ابناً من زوجة بولندية خلال سني التشرد تلك، لكنها اختفت ومعها المولود ولم يهتم مسعد من جانبه أن يعرف شيئاً عن مصيريهما، أو لعله حاول ولم يفلح. تلك العلاقة نشأت في بولندا حيث يقول مسعد إنه عمل هناك في تنظيف المراحيض، وتعلَّم في الوقت نفسه "فنون الحب"، بعدما صال وجال في العمل الصحافي والنشاط السياسي والنشر في القاهرة وبغداد وبيروت، لسنوات انتهت بأزمة وجودية ترتبت على اجتياح إسرائيل للبنان في عام 1982، وأوجدت الرغبة في اللجوء إلى أوروبا... "أرابط الآن في أمستردام باعتبارها جزيرتي الأخيرة والتي أحببت أن أختارها مأوى لجسدي في الحياة" ص42. ابنته يارا وهي طبيبة طوارئ تكبر شقيقها ديدريك بثلاث سنوات، وهي أنجبت لمسعد حفيده لوقا. ويعمل ديدريك (ديدي) في بلدية مدينة أمستردام؛ "في قسم يتعلق بتسهيل الحياة على المواطنين، أي اختراع وسائل عملية لجعل حياة البني آدم أسهل". وخاض مسعد تجربتي زواج فاشلتين، الأولى من سيدة بولندية تدعى بربارا، والثانية من إيمان فتحي عافية.

صنع الله إبراهيم

ما سبق، يلخص على نحو ما، كتاب رءوف مسعد "لمَّا البحر ينعس: مقاطع من حياتي"، والصادر حديثاً عن دار "النسيم" في القاهرة بمراجعة يوسف فاخوري وتقديمه. ومن محتوى الكتاب نفسه نعرف كذلك أن رءوف مسعد جرّب الحبس لليلةٍ في مخفر شرطة وهو مراهق بعد ضبطه وهو يوزع منشورات "شيوعية"، قبل أن يعرف السجن على الخلفية ذاتها لأربع سنوات عقب تخرجه في قسم الصحافة في كلية الآداب جامعة القاهرة في عام 1960، وهي الفترة التي تركت في نفسه جرحاً غائراً، وشعوراً بأن عليه أن يعود إلى الكتابة يوماً ما عن في شكل أعمق، وذلك ضمن مشاريع شتى تعكس الروح الطفولية التي تأبى أن تغادر ذلك الشيخ الثمانيني. في السجن التقى الكاتبَ صنعَ الله إبراهيم الذي قال عنه لاحقاً: "لولاه ما دخلتُ مجال الأدب"، فقد كان يشجعه على إكمال كتابة روايته الأشهر "بيضة النعامة" والتي استغرقت كتابتها نحو 12 سنة.

ولاحقاً أيضاً تأثر رءوف مسعد سلباً باتهامه من جانب صنع الله إبراهيم بالذات بالتطبيع مع العدو بعد أن زار إسرائيل ووضع كتاباً يتحدث فيه عن تلك الزيارة أسماه "في انتظار المُخلص"، علماً أنهما قد شاركا باكراً ومعهما الكاتب كمال قلش في تأليف كتاب "إنسان السد العالي"، وفيه تمجيد لأهم مشروع أنجزته الحقبة الناصرية، وهي الحقبة نفسها التي عرفوا خلال بعض سنواتها الذلَّ متمثلاً في إجبارهم مثلاً على تكسير حجارة الجبل، والهتاف بحياة جمال عبد الناصر، الذي اختلفوا على ما إذا كان على علم بما يقع في سجونه من تعذيب نفسي وبدني، قبل أن تصل فضيحة موت شهدي عطية الشافعي متأثراً بضرب مبرح تلقاه في السجن، إلى الصحافة العالمية.             

ذكريات متشظية

في هذا الكتاب جزءٌ أول من "ذكريات" كاتب اشتهر بجرأته في "كتابة الجسد"، متكئاً على محطات في سيرته الذاتية، خصوصاً في طفولته وصباه وبدايات اكتشاف المثلية، وسبل المتعة الجسدية التي يمكن الارتقاء بها إلى ذرى نفسية. بدأ مسعد تلك الذكريات المتشظية أزمنة وأمكنة وشخوصاً، والمثقلة بتكرارات كان على فاخوري تلافيها، بتوضيح المقصود بعنوانها: "يعتقد بعض أهل التصوف في مصر أن البحر (النيل) ينعس مرة من وقت لآخر في وقت غير معروف ولا محدد، لكن المتصوف الذي يجلس إلى الشاطئ مترقباً نعاس البحر، سيكون محظوظاً لو شهد هذا النعاس؛ لأنه لو تمنى أمنية سوف تتحقق؛ مثل السير فوق الماء، أو أن يكون في مكانين في وقت واحد".

التحق رءوف بمدرسة ابتدائية في وِد مدني، وبدأ مرحلة الثانوية العامة في أسيوط، لينتقل مع الأسرة إلى الأقصر، فالإسكندرية ثم شبراخيت (محافظة البحيرة)، فالقاهرة، فوالده كان يعمل قساً قبل أن يقعده المرض، ثم يخطفه الموت تاركاً زوجة وأربعة أبناء يحصلون من أهل الكرم والإحسان على ما يبقيهم أحياء ويضمن استمرارهم في التعليم الحكومي. لا يكن مسعد لأبيه حباً لقسوته معه ومع بقية أشقائه إذ كان في لحظات الغضب يوسعهم ضرباً بالسوط حتى تدمى أجسادهم، لكنه كان يشعر بالإشفاق عليه بعدما أصيب بمرض جعله مثل خرقة بالية، وتسبَّب في حرمان الأسرة من الستر الاجتماعي الذي كان تتمتع به بفضل وظيفة الأب.

والأم لم يتمكن أيضاً رءوف الصبي من أن يحبها، ومن مواقفه معها أن شقيقه الأكبر رمسيس أحبَّ بنتاً مسلمة، فوشّت به أمه لدى أهل البنت في طنطا فأوسعوه ضرباً حتى يبتعد عنها، ما جعل الفتى رءوف يشعر باستياء شديد تجاهها، لكنه كان مشفقاً عليها أيضاً مِن حياة الشظف التي فرضها مرض الأب ثم موته على الأم التي لم تفر من مسؤولية تأمين الطعام لأولادها ولو بالاستدانة من البقال، وتلقي إعانات الأقارب المالية لتواجه عبء تربية خمسة أبناء بينهم فتاتان.  

معنى الإنتماء

تخرَّج رءوف في كلية الآداب قسم الصحافة بجامعة القاهرة عام 1960 وفي نهاية العام نفسه تم إلقاء القبض عليه وظل في السجن حتى أبريل (نيسان) 1964، وبما أن هناك من يصف مسعد بالسوداني، فإنه يقول: "يشرفني بالطبع أن أكون سودانياً، لكنني مصري الجنسية، وأحمل كذلك الجنسية الهولندية. يمكنكم القول إنني سوداني الهوى والمِزاج". في "المفتتح" يؤكد مسعد أن "هذه الكتابة هدفها أن أتذكر مَن تقاطعت حيواتهم بحياتي وأثَّروا فيها" ص23. ثم تحت عنوان "البدايات الأولى المهمة" يذكر أنه بدأ في حزيران (يونيو) 2016 (كان قد بلغ التاسعة والسبعين من عمره) عاد إلى هذه اليوميات أو الذكريات التي بدأ تدوينها عقب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001.   

في سجن الواحات تشكَّلت مجموعة متمردة على الواقعية الاشتراكية ضمَّته مع صنع الله إبراهيم وعبد الحكيم قاسم وكمال القلش، وذهبت، باستثناء قاسم، إلى أسوان للكتابة عن السد العالي. وفي السجن عرف تنظيماً داخلياً يسمونه "الحياة العامة"، من أقطابه شريف حتاتة، وهو مسؤول عن الاتصال بإدارة السجن وتسكين المعتقلين وتوزيع المواد الغذائية عليهم. قاد رءوف مسعد إلى الشيوعية في منتصف الخمسينيات صديقُ صِبا سوداني؛ اسمه نبيل ميخائيل، هاجَر في ما بعد إلى ألمانيا الشرقية، وفي ذلك يقول: "كنتُ وقتَها مراهقاً مكلوم القلب ساخطاً على الحياة وعلى أسرتي وعلى الكنيسة، وغاضباً لوصولنا إلى هذا الدرك الاقتصادي". يقول: "لم أجد معنى للانتماء إلا بعد أن أنجبت ابنتي يارا. كنتُ أتمزق في ظل صعلكة أحببتها وتمترستُ داخلها، إلى أن هاتفتني أنَّا ماريكا لتخبرني بأنها حامل. كانت أهم مكالمة أتلقاها في حياتي"، جاء ذلك مباشرة بعد أن تذكَّر أنه أثناء السجن؛ "باعت أسرتي كتبي لبائع الروبابيكيا وأعدموا كل أثر لي في البيت؛ لأني فضحتهم بسجني باعتباري شيوعياً، يعني ملحداً بينما أنا ابن قسيس". يكبر مسعد زوجته أنَّا ماريكا بـ17 سنة ومعها فهم أخيراً معنى الانتماء، فيما كان يرقب ابنتهما يارا وهي تكبر، وبدأ "الكتابة الجادة"، على حد تعبيره، كما بدأ يفهم "ضرورة أن أنتمي إلى التحضر والاستقلال الشخصي ومن ثم إلى الكتابة". ص161

وأخيراً، يبدو لي، وبحكم صداقة تربطني برءوف مسعد، أنه هو نفسه غير مقتنع بأنه ملحد، فهو روّج لذلك الأمر ربما ليسكت من يأخذون عليه تكريس كثير من كتاباته للدفاع عن المسيحيين. وفي عام 2016 رحل الكاتب علاء الديب، فعلَّق مسعد على صفحته على "فيسبوك" والتي نقلها بعد ذلك إلى كتابه "لمَّا البحر ينعس": "رحم الله علاء وأطال في أعمار الباقين الأحياء، ويا رب أطل عمري كمان سنتين تلاتة أخلَّص فيهم الحواديت دي وبعدين أبقى جاهز" ص167.

المزيد من ثقافة