Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الخط الأحمر" غير المرئي يرسم الحدود ويهدد

إذا جمعنا الخطوط الحمراء التي تطلق يومياً من قبل الناس والسياسيين والباحثين قد لا نجد طريقاً نسير فيها

نزل الخط الأحمر من علياء السياسة والدبلوماسية والتهديد المتبادل بين الأعداء والمتنافسين ليصبح في متناول الجميع (غيتي)

من منا لم يستخدم عبارة "خط أحمر" عشرات ومئات المرات في حياته، عندما يريد أن يشير لآخرين إلى أنه عليهم ألا يتعدوا حدودهم في أمر ما يخصّه. ومن منا لم يسمع سياسياً رافعاً سبابته مهدداً بأن هذا الأمر أو ذاك هو "خط أحمر" وأن من يتعداه سيتلقى عقاباً أو رداً. الخط الأحمر غير المرئي بات من أدبيات الكلام والتهديد والدبلوماسية والتفاهمات والعداوات ورسم الحدود، في كل أنحاء العالم من دون استثناء، حتى يمكن القول إنه بات كعبارة جزءاً من اللغات العالمية المشتركة، مثله مثل كلمة "ألو" على الهاتف أو "أوكي"، للموافقة.

والخط الأحمر ليس شيئاً مادياً ملموساً ومرسوماً، على الرغم من أن عدم تجاوزه غالباً ما يكون مادياً. كما هو الحال مع الإشارة الضوئية الحمراء، أو الكارت الأحمر الذي يرفعه حكم المباراة بوجه اللاعبين أو اللون الأحمر العدائي في الطبيعة الذي تستخدمه بعض النباتات لجذب الحشرات لافتراسها. الخط الأحمر الذي يجب ألا نتعداه هو إشارة غير ملموسة لفعل ملموس، فقد يقال "صيد الحيتان" خط أحمر. الحيتان كائنات ملموسة وصيدها فعل مادي بينما الخط الأحمر غير مرئي ولا وجود له سوى مفاهيمياً، ولكنه رادع حفاظاً على التنوّع البيئي، في هذه الحالة.

الخطوط الحمراء في كل مكان

نزل الخط الأحمر من علياء السياسة والدبلوماسية والتهديد المتبادل بين الأعداء والمتنافسين، ليصبح في متناول الجميع، فحتى الأم في البيت تستعمله في وجه أبنائها وترسم لهم خطوطاً حمراء يجب ألا يتعدوها. والمعلمة في المدرسة، وسائق التاكسي وأي شخص في العالم مهما علا شأنه أو تواضع، يمكنه استخدام الخط الأحمر لرفض أمر أو لوضع حدود مع الآخرين. أما الموضوع الذي قد يكون خطاً أحمر، فقد يتناول أي شيء، فكل فكرة أو عمل أو شروع بعمل أو حدث أو عقيدة أو بضاعة في السوق، يمكن أن يكون خطاً أحمر بالنسبة إلى شخص ويجب ألا يتعداه شخص آخر.

وهناك خطوط حمراء ثابتة وأصيلة، في العالم العربي مثلاً، الدين والسلطة والجنس خطوط حمراء. في أوروبا "الهولوكوست" والنقاش بحدوثها أو عدمه خط أحمر، في الولايات المتحدة باتت "العنصرية" خط أحمر، وفي الصين الحزب الشيوعي... إلخ. هذه مواضيع هي خطوط حمراء مرتفعة دوماً وفي كل المناسبات. ولكن هناك خطوطاً حمراء عريضة ورفيعة ومتوسطة الحجم ولامعة وشفّافة، وكلها تتأثر بحسب الأحوال التي وضعت من أجلها، في السياسة ما يصنّف على أنه خط أحمر قد يصبح أزرق مع مرور الوقت، وفي الاقتصاد يرتفع ويهبط الخط الأحمر مع هبوط وارتفاع الأسهم وأسعار الدولار والعلاقات الاقتصادية بين الدول.

ربما لو جمعنا الخطوط الحمراء التي تطلق يومياً من قبل الناس والسياسيين والباحثين والاقتصاديين، وكل أنواع البشر الذي لا يستنكفون عن وضع الخطوط الحمراء وعلى رأسهم الثائرون أو أصحاب الحقوق والمطالبات، إذا جمعناها كلها وخلطناها ببعضها بعضاً قد لا يجد المرء طريقاً يسير فيها من دون أن يقاطعه خط أحمر.

البعض يتساءل، ولماذا لون هذا الخط الممنوع عبوره "أحمر"، وليس لوناً آخر. السبب العلمي هو أن اللون الأحمر صاحب أطول موجة لونية، ويمكن رؤيته من مكان بعيد، وهو أول ما يصل إلى العين من بين الألوان، لذا فإن علامات الخطر كالحريق وحوادث السير أو أي أمر طارئ تضاء بالأحمر، كذلك إشارات السير وإشارات التنبيه في الطرق. ومنذ الصغر يتعلم الأطفال كل ما يجب عدم لمسه أو عبوره من خطوط حمراء، وكلنا نذكر الخط الأحمر الذي كان يقسم صفحات دفاترنا المدرسية إلى قسمين: قسم أكبر نكتب عليه فروضنا، ويحده هذا الخط الذي يُمنع علينا تجاوزه، لأن القسم الأصغر مخصص لملاحظات المعلم المصحّح. والانصياع الإنساني لخطاب هذا اللون يعبِّر بشكل عيني عن قبول الإنسان بالشروط اللازمة والمفروضة للانتماء إلى مجتمع منظم بقوانين وأعراف وتقاليد تضبط أداءه.

تاريخ الخط الأحمر

هل يمكن إيجاد عبارة "الخط الأحمر" في "إلياذة" هوميروس، أو في أي رسالة فلسفية تاريخية يقول فيها أرسطو إن سقراط عبر الخطوط الحمراء، أو أن الرومان حذروا الفرس من عبور الخطوط الحمراء. هذا الأمر مستبعد تاريخياً. لأن عبارة الخط الأحمر حديثة جداً، ويرجعها البعض إلى الخط الهاتفي المباشر بين رئاسة الدولة في الكرملين السوفياتي ورئيس الولايات المتحدة في البيت الأبيض. وقد أنشئ هذا الخط بعد أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، أثناء المواجهة بين جون كينيدي ونيكيتا خروتشوف حين أسهم انعدام التواصل المباشر في انتشار التكهنات بشأن النوايا العسكرية للمعسكر الخصم، فيما استغرق وصول الرسائل بين موسكو وواشنطن ساعات، ولمعالجة هذا البطء فتح أول "خط أحمر"، في أغسطس (آب) 1963، وهو كناية عن جهاز تلكس بلون خشبي فاتح أتاح لكينيدي وخروتشوف التواصل عبر برقيات مكتوبة ومشفرة.

البعض الآخر يرجع الخط الأحمر إلى "اتفاقية الخط الأحمر" عام 1928 بين أكبر شركات النفط في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا من أجل توزيع نفط الدولة العثمانية بعد تفتيتها. في وقت التوقيع، لم تكن حدود الإمبراطورية السابقة واضحة ولعلاج المشكلة أخذ رجل أعمال أرميني يدعى كالوست غولبنكيان قلماً أحمر لرسم حدود الإمبراطورية بطريقة تعسفية غريبة، وكانت هذه الخرطشات هي الحدود النهائية للدولة التركية وللدول التي أفرزت عنها، وكانت هذه الاتفاقية بمثابة توزيع مصادر النفط على الدول المنتصرة في الحرب الأولى وقد بقيت كذلك حتى اليوم. لا تتعدى دولة على الحدود الحمراء المرسومة للدولة الثانية.

في إسرائيل تم استخدام العبارة بشكل خاص كمجاز سياسي من قبل وزير الخارجية يغئال ألون عام 1975، عندما قال إن واشنطن "تمكنت من رسم خط أحمر تعلم جميع الدول العربية أنه لا يجب تجاوزه - إن أميركا لن تقوم بالتضحية بإسرائيل من أجل الدعم العربي"، ومنذ ذلك العام يردّد الرؤساء الأميركيون هذه المقولة، أي أن دعم إسرائيل والحفاظ على كل ما يضمن وجودها هو خط أحمر. و"الخط الأحمر" له صدى خاص في إسرائيل باللغتين الإنجليزية والعبرية. و"الخط الأحمر" في بحر الجليل يمثل المستوى الذي تنخفض ​​دونه إمدادات المياه العذبة الحيوية بشكل خطير.

في المقابل، فإن الديكتاتوريين العرب قبل إسقاطهم كانوا على أتم استعداد لوضع الخطوط الحمر، ومن ثم محوّها بما يكفل دوام حكمهم وتكريس رعب الشعوب من الأنظمة العسكرية الاستخباراتية التي أنشأوها. لكن هذا الأمر ينطبق على غير الديكتاتوريين مثل الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي اعتبر أن استخدام نظام الأسد السوري الأسلحة الكيماوية سيشكل "خطاً أحمر" لإدارته، ولكن أوباما لم يكن له رد نهائي على استخدام السلاح الكيماوي، وعلى الرغم من ذلك ردّد جملته تلك مرة ثانية، ولم يقم بأي عمل في المرة الثانية أيضاً لاستخدام هذه الأسلحة من قبل النظام السوري، ما دفع  بالسيناتور جون ماكين إلى القول إن هذا الخط "مكتوب على ما يبدو بحبر مخفيّ".

طبعاً هذه أمثلة بسيطة من منطقتنا لكون الخطوط الحمراء يمكنها أن تتدرج نحو البرتقالي والزهري والأصفر، وهي مجرد تهديدات لا طائل منها إلا في حال التوافق الدولي عليها، وعدا ذلك فإنها تخضع للتوازن والاتفاقات الدولية.

ولكن على الرغم من ذلك، لا زال الخط الأحمر عبارة مستخدمة في كل الظروف والأوقات للتعبير عن حدود معينة أو بمثابة محاولة تهديد للآخر أو رسم حدود في القدرات الممكنة لكل فريق.

المزيد من منوعات