Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عمرو العادلي يتخيل نهاية أخرى ل"رجال" غسان كنفاني

مأساة فلسطين مستعادة من رواية دخلت الذاكرة الجماعية منذ نصف قرن

رسم لغسان كنفاني على جدار في رام الله (يوتيوب)  

بعنوان مراوغ، جاءت رواية "رجال غسان كنفاني" (مكتبة الدار العربية للكتاب- القاهرة) وراح كاتبها عمرو العادلي منذ اللحظة الأولى يحفز التساؤلات بشأن ما يرمي إليه. فغسان كنفاني، الكاتب الفلسطيني الذي اغتاله الموساد عام 1972 هو أحد رموز مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وقد يبدو لوهلة أن الكاتب يرمي عبر هذا العنوان الإشارة إلى أن روايته تتناول أحداثاً وشخوصاً تمثل امتداداً لهذا الرمز الفلسطيني أو ربما يسخر من رجالٍ لم يرثوا عنه نضاله وإيمانه بالقضية. ثم تأتي المفاجأة حين يتضح اقتناص الكاتب الحكاية المحورية في رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني الصادرة عام 1963 والتي حوَّلتها الهيئة العامة للسينما في دمشق إلى فيلم تحت عنوان "المخدوعون".

تدور أحداث رواية "رجال في الشمس" حول أربعة فلسطينيين من أجيال مختلفة قرروا الخروج من فلسطين إلى الكويت عبر الاختباء داخل خزان شاحنة مخصصة لنقل المياه. وفي إحدى نقاط التفتيش وبسبب طول وقوف السائق فيها، اختنق الرجال الأربعة وفارقوا الحياة. هذه كانت النهاية في رواية "رجال في الشمس". لكنها البداية في رواية عمرو العادلي التي تقوم على نجاة أحد هولاء الأربعة، ليبدأ رحلة أخرى محفوفة كذلك بالمخاطر، ويطارده الموت في كل خطوة منها، ليبدو البقاء على قيد الحياة أملاً بعيد المنال.

اعتمد البناء الروائي السرد الذاتي بما عزَّز واقعية الأحداث التي بدأت في دكانٍ للأقمشة، كدلالة على نوع الطبقة الاجتماعية التي اختار الكاتب أن يشتبك معها، ممهداً للمعاناة التي ستغلف الأحداث وتؤرق الشخوص.اكتنفت البداية هالة من الإبهام بما يثير تساؤلات من شأنها دفع القارئ للصعود إلى سفينة السرد بحثاً عن أجوبة شافية. ثم ينساب البوح ليزيل ذلك الإبهام بالدخول إلى عوالم الذاكرة واسترجاع الماضي الذي بدأ في فلسطين بعد نكبة عام 1948 وما تسبَّبت فيه من معاناة اجتماعية واقتصادية طاحنة للفلسطينيين المسلوبة حقوقهم، وكانت بدورها سبباً في هروبهم من بلادهم والبحث عن الرزق في دولٍ أخرى.

التكرار والتناص

لجأ الكاتب لاستخدام بعض تقنيات السرد التي أسهمت في تعزيز قوة البناء الروائي، من بينها "التكرار" الذي بثّ من خلاله تصورات الشخوص ورؤيتها للعالم، كما مكَّنه من تمرير بعض الإسقاطات السياسية والفلسفية. وبدا التكرار في عبارات عدة، تناثرت في مواضع متفرقة، على لسان "مروان"، الشخصية المحورية في النص، ليؤكد شعوره بقبح الواقع الذي يعيشه، القبح الذي تراءى له منذ بداية رحلته من فلسطين مروراً بالعراق والأردن وانتهاءً بمصر. كذلك كان تكرار تصريحه بالشعور بالذنب "كأنه نسي فعل شئ كان عليه أن يفعله"، انعكاساً لآلامه وتعبيراً عما يعانيه من العزلة والحزن والقلق في بيئةٍ غير داعمة بما يؤكد شعوره  بالغربة والحنين للوطن. وكان تكرار المعنى ذاته في أكثر من موضع، دليلاً على توحش الأنا العليا لديه لتصبح سجنه الداخلي، وتشير كذلك لاستمرار الحالة الشعورية نفسها رغم كل حيله النفسية ومحاولاته للتبرير والإزاحة والغفران. ولعل الكاتب بهذه العبارة يثير استفهاماً ضمنياً لدى القارئ حول ماهية ذلك الشيء المنسي فيحفز خياله ويدفعه للتماهي مع النص عبر محاولات الاستنتاج. التناص تقنية أخرى لجأ إليها الكاتب باستدعاء النص القرآني استدعاءً غير مباشر، ينسجم مع النسيج الروائي مما أكسب البنية السردية مزيداً من القوة والجمالية: "طن رأسي بالعبارات الغاضبة، هذا ربي هذا أكبر" ص160، "يا يحيى خذ كل الأشياء بقوة" ص 205.

اعتمد الكاتب تقنية المونولوغ، باستعادة الشخوص؛ أحداثاً من الذاكرة، وطرح تساؤلات بشأنها ممزوجة باللوم، أو التبرير أو التشكك، ومن ثم تمكَّن من التقاط ما تمور به نفوسهم، وأبرزَ ما يعتمل فيها من صراع بين الجبن والشجاعة، الإقدام والإحجام، التحجر والرخاوة، مصوراً النتيجة التي أدت إليها تلك التناقضات من تفاقم الشعور بالغربة وتوحش الحنين إلى الوطن وحق العودة إليه. كما عمد الكاتب إلى استخدام أحلام الشخصية المحورية في النص لتأكيد الفكرة ذاتها والوصول إلى النتيجة نفسها. استخدم عمرو العادلي لغة شفيفة؛ واستطاع من خلالها أن يبني جسراً تعبر فوقه آلام الشخوص وأحزانها وكل ما يختلج داخلها من شعور، لتتجاوز صورته السردية، البلاغة الكلاسيكية وتتجه إلى العوالم الداخلية للنفس وتصل إلى بؤرة الشعور دون أن تطغى شاعريتها على باقي مكونات الحكي ودون أن تنتقص من حبكة السرد، ومثال ذلك التالي: "بيني وبينك ثلاثة بيوت، وثلاث دقائق، وثلاثون أمنية لا تتحقق، وثلاثون ألف هاجس وحلم وتصور...." ص219

كذلك لم تخلُ اللغة من حسٍ ساخر تخلل السرد؛ وذلك لم يُنعش النسيج الروائي وحسب، وإنما كان إحدى أدوات الكاتب لنكأ جراح بعينها وتمييزها داخل النص، وقد بدا هذا الحس مراتٍ عدة، كان منها ما تطرق للاحتلال والتخاذل عن تحرير الأرض؛ في خطاب "مروان" لأمه: "... سأصطحبها معي في أول زيارة إلى قيسارية، بلدة أجدادي، وذلك بالطبع بعد أن يحررها الجن"! 

ومنها ما كان يشي بالواقع الطاحن وصعوبة العيش في الوطن، في حديث "مروان" مع "صفية"؛ حبيبته الأولى: "لديَّ فكرة يا مروان. غُص في الغربة سنة. كلهم يغوصون سنة ثم يعودون ليبنوا البيوت ويحوزوا المزارع. وهل عندما أسافر سأعمل سفيراً لفلسطين في النمسا يا صفية؟".

براعة التقمص

بدا الكاتب شديد التأثر بمقولة الأديب الروسي مكسيم غوركي في كتابه "كيف تعلمتُ الكتابة"، حين قال: "إن على الكاتب إذا أراد الكتابة عن عامل أو موظف أو أي شخصية كانت، أن يقوم بدراسة 50 أو 100 من نماذج تلك الشخصية في الواقع، سواء ما يتصل بعاداتها، أساليبها، حركتها، حتى يستطيع أن يصنع نموذجاً وحتى يتمكن من إعادة خلق الشخصيات". واتضح عبر هذا النص الروائي، حرص الكاتب عمرو العادلي على التتبع التاريخي للنكبة والرسم الدقيق لجغرافيا المكان بما يخدم الأحداث، وأيضاً نقل سمات المجتمع الفلسطيني، بما قد يربك القارئ ربكة حميدة فيصدق أن الراوي واحدٌ من أبناء فلسطين. واستخدم العادلي من الوقائع والمفردات ومن الثقافة الفلسطينية ما عزَّز هذا التقمص، لاسيما في تناوله السردي للمستوطنات، المخيمات، الصليب الأحمر، اللاجئين، مزارع الزيتون، وحتى التراث الفلسطيني: "يا راعي يا سارح بالغنمات عالدلعونة...". وأوردَ كذلك تفاصيل أخرى، فأتى على ذكر"المسخنة"، وهي طبق من البيئة الفلاحية الفلسطينية، وأتاحت مثل هذه التفاصيل والمفردات مزيداً من المصداقية والواقعية في عمل روائي يتماس مع رواية شهيرة لغسان كنفاني.

وبالبراعة نفسها التي صوَّر  بها الكاتب الواقع الفلسطيني، فإنه نجح في رصد سمات المجتمع المصري في الفترة بين ما قبل نكسة 1967 ومقتل الرئيس السادات في 1981، فالتحم مع طبقة البسطاء والمهمشين، وشخّص بعض حالات الاذدراء والتنمر الاجتماعي، ونقل تأثير تلك الفترة على الشخصية المصرية، متناولاً المعطيات التي ترتَّبت عليها غلبة السلبية والخوف والرضوخ، وظهور النماذج المستغلة التي لم تتورع عن أن تتغذى على جراح الوطن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حضور المرأة

كان للمرأة حضور قوي في النص، فكانت بمثابة المحرك الرئيسي للأحداث، فالحبيبة كانت الباعث والمسبب للرحلة، أما الأم فكانت كالأرض، لا تبعث في النفس سوى الحنين والرغبة في العودة إليها. إلا أن تناول الكاتب لبعض الشخوص النسائية جاء مُربكاً، فـ"مريم" ذات الـ16 عاماً التي تحمل مولودها؛ يراها "مروان" طفلة، ومع ذلك سرعان ما وقع في حبها باعتبارها مكتملة الأنوثة. كذلك جاء تطور شخصية "ماما أمل" بعيداً عن المعطيات التي أتاحها الكاتب عن الشخصية. فالوفاء لحبٍ واحد على مدى أعوامٍ طويلة التهمت العمر والشباب وجعلت من الحبيبة راهبة، يجعل من الصعب تقبّل انقلاب الأمر إلى ذاك القدر من الخيانة والانحطاط، وربما كان على الكاتب أن يمهد لهذا التحول بسماتٍ محددة منذ البداية.

ويلاحظ أن العادلي لم يكتف برصد الوقائع التاريخية والاجتماعية، وإنما قام بتفسيرها وتمرير رؤيته عبر مقولات جرت على لسان شخوصه، فسائق الشاحنة يقول مخاطبًا "مروان": "بلدكم منكوب لأن الجميع يعاملونه كما يعامل السائق الطريق، عندما يقع حادث مفاجئ، تسير السيارات في طريقها المعتاد، لا يتدخل أحد للمساعدة وكأن شيئاً لم يحدث، وكأن السائقين جميعاً في مأمن مِن الحوادث، رغم أن القضية كلها لا تحتاج إلّا إلى رجال" ص 202.  

وأخيراً، يمكن القول إن رواية "رجال غسان كنفاني" بما تحمله من زخم إبداعي، تُمثل ذلك النوع من الأدب الذي يحفظ ذاكرة جمعية ليظلّ تاريخها حاضراً في الوجدان مهما تعاقبت الأجيال ومهما تعددت محاولات تغيير معالمها. 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة