Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"إشراقة شجرة البرقوق الخضراء" رواية عن القمع والأمل المفقود في إيران

"اندبندنت عربية " تحاور شوكوفه آذر أول كاتبة إيرانية منشقة تبلغ القائمة القصيرة للبوكر العالمية

الكاتبة الإيرانية المنشفة شوكوفه آذر (اندبندنت عربية)

للمرة الأولى في تاريخ جائزة البوكر العالمية، تبلغ كاتبة إيرانية القائمة القصيرة عن عمل لها كُتِب بالفارسية أولاً وتُرجم إلى الإنكليزية لاحقاً مع التكتم على اسم المترجمة حرصاً عليها وعلى قدرتها على السفر من إيران وإليها. وقد بلغت الكاتبة والصحافية الإيرانية المقيمة في أستراليا شوكوفه آذر القائمة القصيرة لجائزة الرواية العالمية عن عملها الروائي الأول "إشراقة شجرة البرقوق الخضراء" (Shokoofeh Azar, The Enlightenment of the Greengage Tree). ويشير العنوان بوضوح إلى علاقة الرواية الراسخة بإيران وبحضارتها وتاريخها، فلم تختر آذر شجرة البرقوق الخضراء أو أيضاً ما يُعرف بشجرة الخوخ الأخضر اعتباطاً، فهذا النوع من الشجر ينمو في بلاد فارس وهي معروفة به، أما في ما يتعلق بكلمة إشراقة أو ما تُرجم أيضاً بمصطلح "تنوير" فهو مصطلح روحي صوفي بحت ينقل منذ البداية رغبة الكاتبة في المزج بين واقع إيران المضمخ بالتشدد الديني والسياسي وبين الروحانية الصوفية والجوهر الإنساني العميق.

ولا يستغرب القارئ هذا الميل الواضح إلى الروحانية، فابنة بلاد فارس الأربعينية تحمل في كلماتها قروناً من التيارات الصوفية والروحانية العريقة والغنية عن التعريف. فتقول آذر في مقابلة أجريناها معها خصيصاً لمناسبة ترشحها إلى الجائزة العالمية للرواية البوكر: "تعكس هذه الرواية شخصيتي وكيف أرى إلى هذا العالم وأمور الحياة والموت. وبحكم نشأتي في إيران، تشكلت علاقتي بالتيارات الفلسفية والروحية العتيقة فنهلتُ من منابع الزردشتية والميثرائية والزورانية طبعاً، كما تعلمت من الحلاج والسهروردي وعين القضاة الهمداني. تعلمت عن الحياة والموت من الطبيعة البرية وبخاصة من الغابات والأشجار إنما كذلك من تصوف الصين القديمة واليابان ومن مؤلفات الفلاسفة كمثل داوديجنغ، وكتاب التغيرات والبوذية".

ويكتشف قارئ "إشراقة شجرة البرقوق الخضراء" أن الكاتبة اعتمدت في كتابتها تداخل عدة فضاءات روائية، أو عدة طبقات. فهناك الواقعية التاريخية التي تسرد أحداث إيران في ثمانينيات القرن العشرين بعد الانقلاب على الشاه، وهناك طبقة الأسطورة والسحر والتصوف والتأمل التي تتجلى في شبح الفتاة المتوفاة الذي يروي الأحداث من ما وراء الحياة. وتلفت في لغة آذر نزعة شاعرية ، شاعرية تعكس عمقاً ورهافةً وإنسانية طافحة، شاعرية مطعمة بالمعاني والرمزية والخرافة، فتقول آذر مثلاً في روايتها عن الموت بلغة رمزية مشحونة بالمعاني: "للموت فوائد كثيرة. فأنت عندما تموت تصبح فجأة خفيفاً وحراً وتكف عن الخوف من الموت ومن المرض ومن الأحكام المسبقة ، عندما تموت لا يعود مكتوباً عليك أن تكون نسخة مطابقة للآخرين".

واقعية سحرية مختلفة

تختار شوكوفه آذر الكتابة بأسلوب الواقعية السحرية (magical realism) وهي فن أدبي اشتُهر أكثر ما اشتُهر في ستينيات القرن المنصرم في أميركا اللاتينية وذاع صيته على أيدي كل من ماركيز ويوسا وبورخيس وغيرهم من رواد الأدب اللاتيني قبل أن ينتقل هذا الفن اليوم بخصائصه إلى كتاب من سائر أنحاء العالم كسلمان رشدي وغيره. تعود آذر إلى هذا الفن الذي وضع أسسه الناقد الألماني فرانز روه عام 1925 جاعلاً منه فناً يعتمد السحر والميثولوجيا والجو الأسطوري ليخفي نقداً للمجتمع سياسياً ودينياً وفكرياً. تعود آذر إلى الواقعية السحرية لتتناول المجتمع الإيراني في العقد الأول ما بعد عام 1979، تاريخ الانقلاب على الشاه وتأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فتمزج العنف والوحشية السياسية وحملات التطهير السياسية والدينية بجو من التصوف والتأمل والأسطورية والسحر، فتقول آذر تعليقاً على هذا الخيار في حديثها معنا: "كان من البدهي أن يترك العيش في ظل مجتمع مغرق في السريالية والفضاءات السحرية أثره فيّ وفي قصصي وفي أسلوبي الكتابي. لم أشك ولو لحظة بضرورة اعتماد هذا الفن وبخاصة بالنظر إلى ميلي الشديد وحبي للجذور الحضارية العتيقة.

إن اعتماد الواقعية السحرية في روايتي أمر طبيعي بالنظر إلى تاريخ إيران العريق والعتيق في الميثولوجيا والأساطير، تاريخ يمتد على ثمانية آلاف سنة. فعلى غرار الحضارات القديمة التي تطرقت إلى العلاقات بين القوى الطبيعية والقوى الخارقة غرفت إيران تاريخاً وحضارة وشعباً من السحر والميثولوجيا والشعر والخرافة والأساطير. إن الأدب الفارسي حافل بالخوارق والأخبار المذهلة المنتمية إلى فن العجيب، آلاف النصوص والقصائد والخرافات منسوجة في هذا الجو السحري الذي يعالج علاقة الإنسان بالقوى الخارقة أو بالكائنات العُليا، ومن هنا بالتحديد، الحضور الطاغي للتصوف والدين والروحانيات لدى الشعب الإيراني. وأنا كصحافية، عندما أعود إلى تاريخ إيران الحديث على ضوء هذه المعتقدات والروحانيات، أجد أن الشعب الإيراني كان الشعب الوحيد في العالم الذي تحول عام 1979 من نظام علماني إلى نظام ديني. ويظهر ترسخ الدين والروحانيات وخوارق الأحداث في الحياة السياسية في إيران في حديثٍ للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية خامنئي نفسه حين قال في إحدى خطباته: "لقد تواطأ الجن مع الولايات المتحدة الأميركية للإطاحة بالنظام الإسلامي". هذه الجملة وحدها تُظهر إلى أي مدى ترتبط الحياة السياسية في إيران بالمعتقدات الخرافية البدائية. من هنا خياري لهذه التقنية السردية وهذا الفن. إضافة إلى ذلك أعتبر أن الواقعية السحرية القائمة على وقائع سياسية أكثر عمقاً وتأثيراً وأناقة من الرواية الواقعية السياسية البحتة الخالية من عنصر المتخيل".

الانتماء والحب الأول

على غرار كتّاب وصحافيين إيرانيين كثر، اضطرت شوكوفه آذر إلى الهرب من القمع والرقابة إلى حيث يمكنها الكتابة والتعبير والتنفس، فانتقلت قسراً إلى النصف الآخر من الكرة: أستراليا، ومن هناك عبرت لنا في حديث معها  ل"اندبندنت عربية" عن حزنها لبعدها عن وطنها: "عندما غادرتُ إيران عام 2010 شعرت بغضب شديد وإحباط لا قاع له، فأنا ابنة بلاد فارس، ابنة قرون من الحضارة والشعر والموسيقى، أراني مضطرة إلى الرحيل عن أرضي لأسباب سياسية. مهما حلكت الظروف ومهما قسى الزمن يبق الحب للوطن الأول. كتبتُ هذه الرواية في ظروف قاسية، وسط تشتت ولجوء ونفي ذاتي قسري عن الوطن الأم. في أنصاف الليالي كتبت ولمدة ثلاث سنوات (2012-2015)، كتبت هذه الرواية الإيرانية الروح والهوى أنا العاجزة عن العودة. روايتي هي رواية في حب إيران وأهلها وتاريخها وحضارتها وآلامها، فقصة المرء تكمن حيث فؤاده وروحه وعقله وأحلامه. يقول البعض إن الوطن هو حيث دُفن الذين نحبهم، ويقول البعض الآخر إن الوطن هو حيث نقع في الحب للمرة الأولى. كلها أمور صحيحة، لكنني أود أن أضيف أن الوطن هو المكان الذي منه تولد أحلامنا. وبالنسبة إلي، ما زال المكان الوحيد الذي أراه في أحلامي هو إيران: شوارع طهران، حديقتي الصغيرة في غابة هيركانيان القزوينية وصحراء لوط. إيران هي المكان الذي صقل أحلامي وشخصيتي ووجودي. أظن أنني يجب أن أقيم في أستراليا لمدة عشرين سنة أقله لأتمكن من الكتابة عنها بعمق وعاطفة كما أكتب عن إيران. منحتني أستراليا حرية التعبير، أثمن هدية يُمكن أن تُمنح لأي امرئ مبدع وخلاق. من هنا الدين الكبير الذي علي تجاه أستراليا وأهلها، وأتمنى ذات يوم أن أسدد ديني هذا بالكتابة عن أستراليا وأهلها وحضارتها بالحب والعمق والفهم الذي كتبت به إيران".

وتعليقاً على علاقتها بإيران اليوم تقول آذر: "صحيح أن أستراليا منحتني حرية التعبير لكن إيران منحتني طريق البحث عن معنى الحياة. منذ وصولي إلى أستراليا وأنا أتابع يومياً أخبار إيران السياسية والاجتماعية والفنية والأدبية، كما أنني دأبت على قراءة نصوص الخرافة والفولكلور والتصوف والشعر الكلاسيكي والنثر الفارسي. هذه القراءات وتقنية تثقيف الذات تساعدني على اطلاع دائم على الأخبار والشؤون التي أحتاج إليها في كتاباتي. من هنا انخراطي العميق بالواقع الإيراني مجتمعاً وأدباً. أنا شخص سعيد ونشط إنما في الوقت نفسه شخص حزين ومحبط. صحيح أن لحزني أسباباً شخصية إنما أنا حزينة كثيراً لبعدي عن أرضي، الأرض التي أشتاق إليها. أشتاق حتى إلى روائح شجر البرقوق الأخضر في حديقتي الصغيرة شمال إيران. وأنا محبطة لأنني لا أستطيع أن أغير الطريقة التي يدور فيها اليوم عالمنا القاسي الخالي من أية روح. أشعر بالحنين كثيراً إلى طفولتي وإلى الأرض التي نشأت فيها. تلك الأرض وتلك الحديقة وتلك الروائح تشدني مراراً وتكراراً بسحرها الغامض الأسطوري. لكنني لا يمكن أن أعود ما دام النظام الحالي قائماً".

الكتابة مغامرة

تتقن آذر الإمساك بنصها وشخصياتها، فهي تُظهر للقارئ كيف يمكن أن تُكتب رواية جميلة حافلة بالميثولوجيا والأساطير على خلفية أحداث دموية عنيفة، تُظهر للقارئ كيف يُبنى السحر والخارق على وقائع سياسية دينية حالكة. فأحداث "إشراقة شجرة البرقوق الخضراء" يرويها طيف فتاة مراهقة تنتمي إلى عائلة إيرانية تهرب من طهران جراء حملات القتل والتنكيل التي يقوم بها النظام بُعيد الانقلاب. خوف وقمع وعنف وترهيب وقتل متوحش في إطار سحر وتصوف ومتخيل. وتعترف آذر أنها كانت تجرب وتكتب في الوقت نفسه من دون أن تكون مهمتها خالية من التحديات، فتخبرنا: "كنتُ أدرك منذ البداية أن كتابة روايتي هذه والطريقة التي اخترتُ الكتابة بها ليست بالمهمة البسيطة، فأنا كنتُ أخلق وأجرب وأتعلم في الوقت نفسه، في وقت الكتابة. وهي لشجاعة فعلية أن يطلق المرء العنان للتجريب، لهذا السبب كانت تجربة كتابة هذه الرواية بالإضافة إلى روايتي الثانية التي أنا الآن بصدد العمل عليها تجربة مذهلة، تجربة أصنفها بالشُجاعة والمحفوفة بالتحديات. ولا أنكر أنني وجدت الأمر جميلاً ومثيراً لأنني اعتمدتُ خلال الكتابة على حسي الذاتي، فأنا لم أرد أن أكرر أسلوب كتابة روائي آخر. صحيح أن الواقعية السحرية فن طُبِع بطابع أميركا اللاتينية وأدبائها وقد تأثرتُ بهم من دون شك، إنما أجد أن الواقعية السحرية التي كتبت بها دمجتها مع خبرتي في مجال الصحافة وحرصتُ فيها على النهل من معتقداتي الروحية وأهوائي الشعرية وتقنيات الفن الحكائي الفارسي الكلاسيكي والرجعات إلى وقائع من حياتنا اليوم وأدبنا المعاصر. لقد حرصت على مزج مظاهر الجمال والقبح في إيران، دأبت على التوقف مطولاً عند بشاعة العنف في إيران إلى جانب بهاء الطبيعة والأدب. بكلمات أخرى قصصي هي نقطة تقاطع بين العنف في الوقائع السياسية والجمال والعمق في الميثولوجيا الأدبية والتصوف والأساطير".

وتضيف الكاتبة عن انصهار الواقع بعنصر الخارق فتقول: "الرواية والخيال يهدفان إلى تحريك روح القارئ ونفسه وفؤاده، يهدفان إلى خضه وزعزعته. القصة التي لا تغير ولا تصفع ولا توقظ وعياً وإدراكاً ولا تحكم قبضتها على القلب والعقل والروح ليست قصة جديرة بالكتابة وبالأدب".

وتؤكد آذر أنها علمت منذ البداية أن روايتها ستُمنع في إيران نظراً إلى موضوعها الذي لن يمر مرور الكرام أمام أعين الرقابة، فتقول بهذا الشأن: "الكتابة بحرية في إيران أمر مستحيل، وأراني في روايتي كسرت التابوهات الثلاث: التابو الديني  والجنسي والسياسي. قبل نشر روايتي نصحتني أمي وشقيقتي بالإضافة إلى عدد من الإصدقاء بإزالة اسم الخميني والوصف الجغرافي الواضح لإيران لتفادي أية مشكلات مع النظام القائم في إيران. لكنّ محو هذه الأمور لا يعني سوى تفريغ روايتي من جوهرها ومن الغاية وراء كتابتها. إما أن تكون الحياة مغامرة وإما ألا تكون، فقررت أن أغامر وأن أنشر روايتي بالشكل والمضمون اللذين ارتأيتهما منذ البداية. وقد علمتُ تماماً أن نشر روايتي بشكل علني ورسمي في إيران لن يكون أمراً ممكناً، وذلك طبعاً جراء الرقابة القاسية والشديدة التي تُمارَس على الآداب والفنون. إنما، وعلى الرغم من ذلك، حظيَت روايتي برواج هائل وباتت ذائعة الصيت، بخاصة بعد بلوغها القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية. تُنشر روايتي اليوم في إيران وتُباع سراً طبعاً ووصلني أنه في خلال أسبوع واحد فقط بيعت منها خمسة آلاف نسخة، وهذا يُظهر لي كم أن الشعب الإيراني مهتم ومولع بقراءة ما هو غير خاضع للرقابة وما له علاقة بالدين والجنس والسياسة".

القائمة القصيرة للبوكر

إجابةً على سؤال حول شعورها إزاء بلوغها القائمة القصيرة للبوكر العالمية لعام 2020 تقول آذر: "لقد كان تأثير ترشيحي إلى هذه الجائزة العالمية إيجابياً جداً، فقد لفتت الجائزة الانتباه العالمي إلى روايتي وبات قراؤها كثراً ومن مختلف أقطار العالم. ماذا بوسعي أن أطلب أكثر؟ هذا حلم أي روائي. لقد أعطاني هذا الأمر الإحساس بأن الناس ما زالوا يهتمون بالقصص الأدبية وما زالوا يفهمونها وإن كان جو الكتابة غريباً عليهم. لقد منحتني الجائزة ثقة وترسخاً في طريقة رؤيتي للفن الروائي والخيال". وتضيف شارحةً عن مخططاتها الروائية المستقبلية: " لقد شكلت كتابة هذه الرواية ضرباً من التأمل واكتشاف الذات، وهي البداية فقط. لقد قطعتُ وعداً على نفسي بأن أكتب ثلاث روايات قبل أن أموت، وأتمنى أن تكون الروايتان التاليتان أكثر إبداعاً وشجاعة وحسناً. روايتي الأولى هذه كانت حول مصير الأمل والحلم في ظل النظام الإيراني القائم؛ وروايتي الثانية التي أعمل عليها هي حول مصير الحب والجنس في ظل النظام الإيراني القائم وعنوانها "شجرة الطوبى في مطبخنا"؛ أما روايتي الثالثة فستكون حول مصير الضمير والأخلاق في ظل النظام الإيراني القائم".

وتضيف آذر أخيراً عن مخططها الروائي الثلاثي الأبعاد عن الحياة في إيران في ظل نظام قائم يمنع حرية التعبير ويحول الدين إلى سلاح بيد الحاكم: "لم أجد أية صعوبة في نحت شخصيات روايتي، وكأن هذه الشخصيات كانت موجودة داخلي منذ ولادتي. رواياتي الثلاث هي أناي ورؤيتي لأمور الدنيا والحياة والسياسة والحب والفن والأدب؛ هي كيفية فهمي للأمور وللارتباط الراسخ بين الروحي والمادي، بين الواقع والسحر".

المزيد من ثقافة