Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الفن القبطي" يبوح بأسرار المرأة في مصر القديمة

كتاب جديد يستعرض رحلة للبحث عن وضع النساء من خلال القطع الأثرية والمخطوطات

يعتبر الفن القبطي أحد الفنون المعبرة عن هوية مصر (اندبندنت عربية)

على مدار التاريخ كانت المرأة تمثل انعكاساً لطبيعة المجتمع الذي تتواجد فيه ومعياراً لمدى تقدمية أو رجعية الأفكار السائدة في وقت معين, وعلى مر العصور كانت الفنون إحدى أدوات التعبير عن القيم السائدة في المجتمعات.

ويعتبر الفن القبطي أحد الفنون المصرية المميزة التي تعد جزءاً من هوية مصر وفصلاً مهماً من تاريخها، وبالطبع عندما يُذكر الفن القبطي مقترناً بالمرأة، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو الأيقونة الكلاسيكية لمريم العذراء بإطلالتها الملائكية وبأوجهها المختلفة التي طوعتها كل ثقافة بالصورة الأقرب إليها, فلطالما وقفت النساء أمام مقصورة العذراء يضعن يداً على قلوبهن لتلامس أحلامهن السرية ويشعلن بالأخرى شمعة يوقدن بها الأماني ويطلبن العون والمَدد.

قدمت الكنيسة القبطية مريم العذراء كرمز أسمى للطهارة والفضيلة والرحمة، فهي إيزيس مصر القبطية، وعلى مر العصور سكنت فكر النساء وقلوبهن وأصبحت صورتها أيقونة في قلوبهن، ولكن كيف ظهر هؤلاء النساء البسيطات في الفن القبطي؟ وماذا تخبر القطع الأثرية عن حال عامة النساء في مصر في ذلك العصر؟ وهل كان هناك اختلاف في تصويرهن مع التفاوت في الطبقات الاجتماعية؟ شكَّل هذا الأمر اهتماماً بالنسبة إلى إنجي حنا، مدرس الآثار والفنون القبطية بجامعة المنيا، لتعتمده كأطروحة لرسالتها للدكتوراة المجازة من قسم تاريخ الفن بجامعة ساسكس ببرايتون إنجلترا عام 2017، والصادرة أخيراً في كتاب بعنوان "النساء في مصر القديمة من خلال الفنون القبطية"، حيث يتناول تحليلاً تاريخياً اجتماعياً لتصاوير النساء في الفن المصري السائد خلال الفترة من القرن الثالث وحتى القرن السابع الميلادي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نساء في قرى صعيد مصر

لماذا المرأة تحديداً؟ وكيف جاءت فكرة البحث في هذا المجال دون غيره؟ عن هذا الأمر تقول إنجي حنا لـ"اندبندنت عربية"، "منذ سنوات شاركتُ في أنشطة تنموية في بعض قرى صعيد مصر، ولمست عن قُرب قصصاً حية لفتيات ونساء لا زلن يعشن تحت مظلة أعراف وتقاليد ترجع جذورها إلى عصور قديمة، وتأملت دور القوى الاجتماعية من مؤسسات حكومية ودينية في صناعة وتوجيه التغيير في حياتهن، لذا تساءلت (كيف عاشت المرأة في العصر الروماني المتأخر؟ وكيف أثر القانون الروماني والمؤسسات الكنسيِّة في تشكيل حياتها؟ وماذا ارتدت؟ وماذا كان اهتمامها وهمَّها؟ وماذا كانت اختياراتها حين امتلكت الاختيار؟)".

وتضيف "بالطبع لم يكن العالم قاصراً على القديسات والشهيدات والراهبات، فماذا عن المرأة العادية؟ كيف نظر المجتمع لها كفتاة صغيرة كزوجة وأم أو كامرأة ثائرة على الأعراف؟ كلها تساؤلات وجدتُ متعة في البحث عنها في الفنون القبطية وبين طيات المخطوطات".

حقبة مثيرة للجدل

وعن اختيار تلك الحقبة على وجه التحديد تقول مؤلفة الكتاب "تلك الفترة خصبة بالنسبة إلى الدراسات الإنسانية عموماً، وهي مثيرة للجدل في الأوساط الأكاديمية والبحثية، وصفها مؤرخو الفنون وعلماء التاريخ السياسي والاجتماعي بأنها فترة انتقالية فاصلة بين نهاية العصور الكلاسيكية القديمة وبداية العصور الوسطى".

وتتابع "شهد ذلك العصر سلسلة من التغيرات والصراعات والمواءمات الاجتماعية والتحولات السياسية المثيرة، بالإضافة إلى تشريعات قانونية فارقة وتفاعلات ثقافية مؤثرة، وأيديولوجية تولد وأخرى تضمحل وثالثة تستمر في ثوب جديد، لذا كانت دراسة تلك الفترة تحدياً ممتعاً لاحتواء هذه التفاعلات ورصدها على مستوى الفنون".

 

وضع المرأة في تلك الفترة

في هذا الصدد تتبادر إلى الذهن أسئلةٌ بشأن حياة المرأة التي كانت تعيش في ذلك العصر، وكيف كان وضعها في ظل الظروف السائدة وقتذاك؟ وكيف كان وضع الفئات المختلفة من النساء؟ وهنا تجيب المؤلفة "علينا أولاً أن نعي أننا عندما نقول امرأة لا نعني زوجة الإمبراطور أو نساء البلاط أو النساء المحظوظات ممن عشن في ظروف استثنائية، بل أعني العامة والقطاع الأكبر من مختلف طبقات النساء، فقد كانت المرأة في مصر، مثل سائر أقاليم الإمبراطورية الرومانية، أضعف من الرجل وأكثر عُرضة للنقد المجتمعي، ومثلت أغلبية غير متعلمة محرومة بحكم القانون من تقلُد مناصب إدارية في المؤسسات الحكومية والجيش".

وتوضح "تمحورت حياة النساء في ذلك الوقت حول المنزل، وكان الهدف الأكبر في حياتهن هو الزواج والإنجاب، ودعم القانون الروماني حماية أرواحهن وممتلكاتهن، في حين أنه لم يُؤمِّن هذا الحق لبعض طبقات النساء التي وصفها بالطبقة الدنيا، كالعبيد والنساء الخارجات عن التقاليد مثل الراقصات والغانيات".

أدوار اجتماعية

وبالطبع عند الحديث عن المرأة لا بد من الإشارة إلى عديد من الموضوعات الاجتماعية، مثل الزواج والأمور الأسرية، بالإضافة إلى كثيرٍ من الأدوار التي تقوم بها النساء، بجانب ضرورة مراعاة تفاوت الطبقات الاجتماعية التي ينتمين إليها، وفي هذا الشأن تقول إنجي "يستعرض الكتاب جوانب من حياة طبقتين متناقضتين من عامة النساء، هما الزوجات ويمثلن المرأة النمطية المقبولة اجتماعياً، والراقصات ويمثلن النساء الثائرات على الأعراف والمنبوذات اجتماعياً".

تواصل "اهتممت بتحليل مظهر ربات البيوت ودلالاته الروحية والاجتماعية والتصاوير التي تكشف جوانب من حياتهن مثل بلوغ الفتيات، والإعداد للعُرس،  والزواج، والحياة الأسرية، والأمومة، والخلافات الأسرية والطلاق، كما تناولت تحليل مظهر الراقصات، وأنواع العروض الاستعراضية، وتنظيم مهنة الرقص والتمثيل، ونظرة المجتمع للراقصات كطبقة منبوذة".

 

راقصات بملامح كاريكاتورية

لا تظهر المرأة في الفن القبطي كصورة مجردة خالية من المضمون، ولكنها تعكس أفكاراً تنتشر في المجتمع في الوقت ذاته، فما أهم الأمثلة التي يمكن أن نجدها في الفن القبطي في هذا الموضوع؟ تقول المؤلفة "هناك عديدٌ من الأمثلة على هذا الأمر، فمثلاً نجد تمثالاً طينياً رَديء الصنع لامرأة يخترق جسدها 13 إبرة برونزية يروي قصة عاشق محبط لجأ إلى السحر ليفوز بمحبوبته، ونجد الراقصات ذوات الملامح الكاريكاتورية الممسكة بآلات الإيقاع (الكروتولا) يقدمون تصويراً حقيقياً لشكل وتكوين الفرقة الاستعراضية في ذلك الزمن رغم نسب الجسد غير المتناسبة وملامح الوجه المضحكة".

وتضيف "نجد أيضاً الألواح الرصاصية المقصوصة بأسلوب بدائي يفتقر إلى المهارة على شكل رجل يداه ورجلاه ملفوفتان ومعقودتان تخبر عن قصة امرأة لجأت إلى (الربط)، وهو ممارسة سحرية تهدف لإعاقة الزوج عن الزواج من أخرى وضمان إخلاصه، فالفن القبطي أعمق وأغنى من كونه فناً يسر الناظر إليه، وأشمل وأعم من أن يكون فناً دينياً فقط فهو يرتبط تماماً بالمجتمع".

مصادر نصية

إلى جانب القطع الفنية المتعددة التي صورت المرأة في الفن القبطي، هناك مصادر أخرى تناولت هذا الأمر واهتمت به، ومن ثم تحولت إلى جزء من التراث المعني بالمرأة في الفن القبطي والتي استعانت بها المؤلفة في الكتاب، حيث تؤكد "هناك العديد من المصادر النصية ذات الصلة بموضوع المرأة في الفن القبطي من أهمها كتابات آباء الكنيسة الأوائل مثل العلامة إكليمندس السكندري والبابا أثناسيوس الرسولي والأنبا بسنتيئوس أسقف قفط في محافظة قنا (بصعيد مصر)، وكذلك تناولت بعض الحقائق التي عكستها سير بعض القديسات التائبات مثل القديسة بيلاجيا التي كانت تعمل كراقصة قبل توبتها، وأشرت أيضاً إلى بعض نصوص الأبوكريفا (النصوص المنحولة)".

وتتابع "بعض القوانين الرومانية قدمت الإطار العام للقواعد المتعلقة بحدود السلوك المسموح للنساء حتى لو كانت نظرية وتم تجاهلها في الواقع، إلا أنها تشير إلى أوضاع أدت إلى سَن هذه القوانين، واستندت أيضاً إلى قصائد شعرية ونصوص طبية وتعاويذ سحرية ونصوص لعنات ومراسلات يومية وشكاوى قانونية، فكل هذه المصادر توفر تنوعاً غنياً من النصوص القبطية واليونانية التي تكشف عن جوانب من حياة النساء كامنة بين السطور".

تقييم الفن القبطي على مر العصور

ويعد الفن القبطي واحداً من الفنون المصرية التي تمثل جزءاً من تراثها وهويتها الثقافية، بكل ما يحويه من مفردات بصرية مستوحاة من المجتمع والثقافة السائدة في ذلك الوقت، وهو بالطبع جزء من التراث الإنساني عموماً، وهنا توضح إنجي حنا "عند الحديث عن هذا الفن تتبادر إلى أذهاننا مفردات بعينها مثل (أيقونة)، و(نسيج القباطي)، و(الفريسكو)، وهي من أروع الفنون ذات البصمة المصرية القبطية التي انطلقت من مصر إلى العالم، لكنها لا تقدِّم نظرة شاملة لكافة أوجه الفن القبطي، كذلك ظل محور الحديث عن هذه الفنون منحصراً إلى حدٍ كبير في التقييم الشكلي مع عرضٍ مختصر للمحتوى عندما قيَّم بعض مؤرخي الفنون في القرن العشرين الفن القبطي من هذا المنظور وصفوه كفنٍ رديء وبدائي خصوصاً عند مقارنته بالفنون اليونانية والرومانية".

وتشير إلى أنه "في النصف الثاني من القرن العشرين ظهرت نظريات أكثر تطوراً وشمولاً، مثل نظريات شترزيجوفسكي وتورب، التي حررت الفن القبطي من قيود التقييم على الأسس الجمالية، وقدمت طرحاً جديداً يراعي المضمون والأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفي ضوء هذه النظريات أدركتُ قيمة الفن القبطي كأداة لاسترجاع القصص المفقودة والتي أغفلتها المصادر النصية".

 

مريم العذراء

عند الحديث عن الفن القبطي وتحديداً ما يتناول المرأة لا يمكن إغفال مريم العذراء باعتبارها النموذج الأكثر شهرة في هذا الإطار، فكيف عكست صورتها في الفنون القبطية هذه الدلالة؟ عن هذا الأمر تقول إنجي "قدمت الكنيسة القبطية ممثلة في آبائها الأوائل نموذج السيدة العذراء كرمز للفضيلة سواء للعذارى أو المتزوجات وكشفيعة للنساء كما للرجال، فصُورت كرمزٍ لرهبنة النساء على إحدى الجداريات في مقبرة بالشيخ عبادة في مدينة المنيا (بصعيد مصر)، وكمثلٍ أعلى للزوجة الورعة التي حثتها الكنيسة على الالتزام بالمنزل والانشغال في أعمال الغزل والنسيج، فصورت العذراء على حشوة كانت تزين صندوق زينة وعلى حجرها سلة من خيوط الصوف يتدلى منها المغزل وكأنها تذكر صاحبة الصندوق بأن الزينة الحقيقية في التحلي بالورع والتمثل بالسيدة العذراء".

وتضيف "صُورت أيضاً على دلاية ذهبية في مشهد من معجزة عُرس قانا الجليل الذي باركه المسيح بناء على وساطة السيدة العذراء، كأن لسان حال صاحبة القلادة يقول (باركي عرسي أنا أيضاً)، وصُورت المرأة على هيئة تماثيل من الطين المحروق جالسة تُرضع طفلها على غرار مريم العذراء والإلهة إيزيس، ربما لتعبر عن أمنيتها لتحظى بطفل أو ربما طالبة شفاء مولودها، فهكذا كانت العذراء دائماً في فكر نساء مصر القبطية، فهي المنقذة في الشدائد ومحققة الأحلام".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة