Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مصادفات سردية بلا تبرير في رواية "حطب سراييفو"

الروائي الجزائري سعيد خطيبي متغربا في سلوفانيا والفتاة الحالمة تصبح نادلة

مدينة سراييفو حيث تدور احداث الرواية (يوتيوب)

صدرت رواية "حطب سراييفو" للكاتب والصحافيّ الجزائريّ الثلاثينيّ سعيد خطيبي (منشورات ضفاف- منشورات الاختلاف، 2019) ودخلت في القائمة القصيرة للجائزة العالميّة للرواية العربيّة لهذا العام 2020 وهي الجائزة المعروفة بين القرّاء باسم البوكر العربيّة. لكن الحظ لم يحالفها ففازت رواية الجزائري عبد الوهاب عيساوي "الديوان الاسبرطي". يرافق قارئ خطيبي في هذا النصّ شخصيّتين اثنتين: سليم الشاب الجزائريّ الذاهب ليزور عمّه سي أحمد في سلوفينيا، وإيفانا الشابّة الآتية من سراييفو والتي ترحل بدورها إلى سلوفينيا. فتتقاطع سيرتا سليم وإيفانا في العاصمة ليوبليانا وتتقاسم هاتان الشخصيّتان زمام السرد وتتناوبان على هذه المهمّة في تبادل سيستيماتيكيّ يجعل لكلّ منهما فصلاً ثمّ للآخر الفصل التالي.

ويخطئ من يجد في هذه الرواية التي تدور في معظمها بالعاصمة السلوفينيّة ليوبليانا أنّها رواية تاريخيّة أو رواية اجتماعيّة أو رواية تروي الحرب أو تداعياتها أو حتّى رواية تأمّل التاريخ البشريّ، فعلى الرغم من أنّ السرد قائم بمجمله على الاسترجاع والتذكّر وعلى شخصيّات تعاني البؤس وانعدام الأفق جرّاء الحروب والصراعات، لا يجد القارئ وقائع تاريخيّة أو تعمّقًا في النسيج الاجتماعيّ الخاصّ بكلّ بلد سواء أكان ذلك عند الحديث عن الجزائر أو سلوفينيا أو البوسنة والهرسك.

المجتمعات المحاصرة

يكتشف قارئ خطيبيّ أن الجزائر وسلوفينيا والبوسنة والهرسك مجتمعات تعاني من البؤس والتشرّد والفقر والحرمان، هي مجتمعات سوداويّة خانقة محاصرة متشابهة على الرغم من تباعدها الجغرافيّ. فجوّ الموت والسوداويّة مسيطر في كافّة مدن السرد وما زالت شخصيّات خطيبي تعاني من مخلّفات الحروب الأهليّة، والناجون من الحروب أنفسهم هم ضحايا وجثث تسير فوق وجه الأرض، حتّى أنّ سليماً يقول في بداية النصّ: "الموت صار طقسًا تعوّدنا عليه." (ص: 12).

وجوّ الموت والصراعات الداخليّة والحروب الأهليّة يسيطر على النصّ ويكبّل شخصيّاته، فبسبب الصراعات الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة المستشرية، يحكم القدر على الشخصيّات الشابّة بموت الحلم والطموح، فلا سليم الصحافيّ قادر على ممارسة مهنته هو الذي طُرِد من الجريدة التي كان يعمل فيها لشدّة الرقابة في الجزائر، ولا إيفانا قادرة على تحقيق حلمها في العمل في المسرح لتردّي الأوضاع الاقتصاديّة: "حلمتُ بأن أصير كاتبة مسرحيّة أو ممثّلة وفقط، فوجدتُ نفسي، من سراييفو إلى ليوبليانا، نادلة" (ص: 108).

أحداث روائيّة يغلب عليها الطابع المأساويّ ما بين جوع وبؤس وضرورة الانصياع لضرورات الحياة. فضاء يطفح من ناحية بالتعصّب الدينيّ المتمثّل بنواطير الأرواح في الجزائر، ومن ناحية أخرى بغضب سياسيّ وعنصريّة متمثّلة بالحقد الذي يسير في عروق أهل أوروبّا الشرقيّة على بعضهم.

الذكوريّة الطاغية

عقد خطيبي مقاربة غير متوقّعة بين المجتمعات العربيّة المتمثّلة بالجزائر والمجتمعات الشرق أوروبّيّة المتمثّلة بسلوفينيا والبوسنة والهرسك، ففي هذه الأماكن كلّها هيمنة ذكوريّة ومصائر أنثويّة قاتمة وعلاقات بين النساء والرجال قائمة على كفّتين غير متعادلتين من الاستغلال والاستبداد الذكوريّ.

ويقع القارئ على نماذج كثيرة للرجل القاسي والمجحف، الأب نفسه يبدو ظالماً هو الذي يحتاج إلى "جنديّ يطيعه" لا إلى زوجة كما يقول سليم واصفًا علاقة والديه بعضهما ببعض. وهذا الواقع حقيقيّ وملموس في ذكريات إيفانا هي الأخرى التي تسترجع صورة والدها الذي ما كانت تناديه سوى باسمه لقسوته وسكره الدائم واعتياده ضربها وضرب أمّها.

ونموذج المرأة قائم على الانكسار والخضوع والعجز، فالنساء في الأمكنة الروائيّة كلّها منصاعة معرّضة للتضييقات وللتحرّش الجنسيّ وللّمسات الذكوريّة الصادمة والغريزيّة. فربّ العمل مثلاً وفي المقاطع السرديّة كلّها رجل استغلاليّ يتحكّم بالمرأة جسدًا وفكرًا وعاطفةً. ومصائب إيفانا كلّها ناجمة عن الرجال في حياتها، بدءًا من والدها، ثمّ حبيبها غوران، مروراً ببوريس الشاب الذي من المفترض أنه يساعدها، وصولاً إلى ربّ عملها العربيّ الذي يصادف أنّه عمّ سليم ونقطة التقاطع في السرد.

حنكة سردية؟

لا يمكن أن يغيب عن القارئ أنّ تطوّر الأحداث الروائيّة في رواية "حطب سراييفو" قائم على مصادفات سرديّة غير قابلة للتصديق وكثيرة بمكان. فهذه المصادفات الروائيّة غير مبرّرة وغير منطقيّة ولا يمكن للقارئ إلاّ أن يتساءل بسببها عن حبكة الرواية ومتانتها. فما هو احتمال أن تعمل معظم الشخصيّات لدى عمّ سليم، من إيفانا إلى صديقها القديم فجارتها وغيرهم؟ وما احتمال أن تقيم إيفانا في المبنى نفسه الذي تقيم فيه لورينا الجارة الشقراء التي ستحلّ محلّها في مقهى عمّ سليم وستتدخّل في السرد وستتعرّف إلى سليم وزوجة عمّه؟ وما هو احتمال أن تلتقي لورينا بسليم في حفل غنائيّ وأن تلفت انتباهه وأن يتحدّثا ثمّ أن تعمل لاحقاً في مقهى عمّه؟ وما هو احتمال أن تتردّد الشخصيّات كلّها إلى المطعم التركيّ نفسه وأن يُعجب سليم بنادلته ثمّ أن تكون هذه النادلة نفسها هي صديقة ساشا شقيق إيفانا الذي لا أثر له طيلة السرد سوى عندما يظهر مع هذه النادلة؟ وما هو احتمال أن يدخل سليم إلى مكتبة وطنيّة وأن يلتقي فيها بفتاة وأمّها، ثمّ أن تدخل إيفانا بعده بأيّام إلى هذه المكتبة نفسها وتلتقي بالفتاة وأمّها نفسهما؟ وما هو احتمال أن تكون حوريّة هي أخت حبيبة سليم وأن تعمل في الوقت نفسه في جريدته نفسها وأن يُعجب بها صديقه ويعمل على إغرائها؟ صُدَف سرديّة كثيرة غير منطقيّة وغير مبرّرة تحوّل الرواية من عمل سرديّ إلى مسلسل تلفزيونيّ تتشابك فيه العلاقات بطريقة عادية.

بالإضافة إلى ذلك، يقع القارئ على مشاهد وشخصيّات كثيرة لا مبرّر لوجودها في الفضاء الروائيّ ولا ضرورة لإيراد قصّتها، منها مثلاً الأم وابنتها في المكتبة، أو الجارة نبيلة (ص: 52) التي تنتحر في بداية السرد، والحاج لزرق الذي يبدو البطل المخلّص من المشاكل كلّها وهو أمر غير مبرّر سرديًّا بتاتا. فما أهمّيّة هذه الشخصيّات؟ وبمَ أفادت تقدّم السرد الذي هو أصلاً طويل ومتشعّب ويمتدّ على صفحات تربو على الثلاثمئة؟ وإن كانت هذه الشخصيّات بهذه الأهمّية لمَ لم تعكس واقعًا سياسيًّا أو دينيًّا أو معيشيًّا؟ لماذا هذا التشتّت الروائيّ؟ وأين تقنيّة السرد المتماسكة المتقنة التي لا تفلت من قبضتها شخصيّةٌ أو تفصيلٌ أو حدثٌ روائيٌّ؟

تتبدى بنية رواية "حطب سراييفو" في بنية جامدة عاموديّة وكأنّها بنية بحث علميّ. فالبنية قائمة على نظام يجمع الخيطان الروائيّة بطريقة شفّافة وواضحة بشكل بعيد عن الصنعة الفنّيّة الحذقة. أوّلاً يبدأ السرد بفصلين اثنين يقدّم كلّ منهما الشخصيّتين الرئيستين: سليم ومن ثمّ إيفانا، وكأنّ هذين الفصلين مقدّمة العمل. ثمّ تدخل بنية العمل في مرحلة صلب الموضوع، وهي مرحلة بناء سرديّ متوازية بين سليم وإيفانا، في ما يُسمّيه الكاتب الجزء الأوّل الذي يحوي على عدّة فصول صغيرة يجد القارئ نفسه فيها أمام استرجاعات وعودات إلى الوراء للتعرّف إلى سليم وعائلته ثمّ إيفانا وعائلتها. ثمّ يأتي الجزء الثاني ليسرد لقاء سليم وإيفانا وتطوّر قصّتيهما بالتوازي، وهو توازٍ مدروس وعلميّ وواضح تمام الوضوح بشكل ينافي الصنعة الروائيّة. يأتي الجزءان الثالث والرابع ليرسما مصيري سليم وإيفانا بشكل متوازٍ متشابه بشكل أوتوماتيكيّ سيستيماتيكيّ، وكأنّ الرواية آلة تحبك الأحداث بشكل متطابق، ففي الوقت الذي يغدر الحبيب غوران بإيفانا وتكتشف حقيقته من شقيقته، يحصل الأمر نفسه مع سليم الذي يكتشف حقيقة حبيبته مليكة من شقيقتها. بناء قائم بأكمله على التوازي والتشابه يخلو من أيّة مهارة سرديّة وحنكة أو دهاء في البناء. ليأتي من بعد هذه الأجزاء فصلان يشكّلان خاتمة سعيدة للسرد.

تُضاف إلى ذلك اللغة التقريريّة التي تحكم النصّ وتسلبه الكثير من المزايا التي يجب أن تتمتّع بها الرواية. أين صقل الشخصيّات بمشاعرها وأوجاعها وذكرياتها الطاحنة؟ أين دوّامة الصراعات التي تعيشها الشخصيّات في مواجهة المجتمعات الحاقدة والقاسية والظالمة؟ لا يتعاطف القارئ مع الشخصيّات في أيّ موضع، ولا يبكي معها، ولا يحزن لحالها، وكأنّها تبقى على الورق وتبقى مجريات حياتها قصصًا تؤلّف عملاً روائيًّا متخيّلاً بعيدًا كلّ البعد عن أحاسيس القارئ.

يصف خطيبي كلّ شيء ولا يصف شيئاً، يكشف عن المدينة بكلام تقريريّ لكنّه لا يحفر في الذات البشريّة، لا يحفر في نفس القارئ لحظاته السرديّة المفتاح، لا يحفر في التاريخ وقساوته ورعونته. حتّى النهاية التي تكاد تكون سعيدة إنّما هي نهاية لا تلامس القارئ ولا تبثّ فيه عطفًا أو تعاطفًا مع الشخصيّات، لتنتهي الصفحات الثلاثمئة بهدوء ولامبالاة.

"حطب سراييفو" عمل روائيّ فيه جهد وجدّيّة ومحاولة لترويض الرواية على الرغم من ثقل السرد في مواضع كثيرة وهيمنة اللغة التقريريّة التي تطغى على فنّيّة السرد. وعلى الرغم من أنّ هذا العمل قد يروق لقرّاء كثر يبقى السؤال للجنة تحكيم البوكر التي اختارت الرواية في القائمة القصيرة على حساب روايات مهمة غابت: هل تقنيّة السرد الموجودة في هذا العمل هي التقنيّة المرجوّة للرواية العربيّة المعاصرة؟ وهل هذه اللغة وهذا الأسلوب هما اللذان يُرغب في الترويج لهما وجعلهما نموذجاً للرواية العربيّة في السنوات الثقافيّة القادمة؟

المزيد من ثقافة