Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ناس الغيوان"... الظاهرة الموسيقية المغربية بين الحاضر والماضي

شكّلت مجموعة "ناس الغيوان" ظاهرة موسيقية فريدة أعادت الاعتبار إلى الثقافة الشعبية المغربية

مجموعة "ناس الغيوان" في بداياتها

تكوّنت مجموعة "ناس الغيوان" في أواخر ستينات القرن الماضي، في أحد أحياء مدينة الدار البيضاء الفقيرة، اعتمدت في أغانيها على كلمات أصيلة استقتها من الإرث الشعبي وعلى أدوات موسيقية بسيطة، وشكلت بعد سنوات قليلة أهم ظاهرة موسيقية في تاريخ المغرب.

ما يفسر الشعبية الكبيرة التي حققتها المجموعة كونها اعتمدت نهجاً فنياً ملتزماً، أنها التزمت صوت الفقراء والمقهورين الذين لم يكونوا يجرؤون على التعبير علناً عن معاناتهم، وذلك في فترة طبعها التضييق على الحريات بين سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي في المغرب، كما واكبت هموم الأمة العربية ومآسي القارة الأفريقية.

النشأة

على الرغم من تأثر أعضاء المجموعة كبقية أبناء جيلهم برياح موجة التحرّر التي عرفها العالم في فترة الستينيات، فضلاً عن بساطة مستواهم الأكاديمي، إلا أنهم تشبّعوا بالثقافة الشعبية واعتمدوا في معظم أغانيهم على "الزجل" المنبثق من الإرث الثقافي الشعبي. ولم يكن همهم السعي وراء الشهرة والمال، ولكن التحدث باسم المهمشين والدعوة إلى التشبث بالهوية.

استطاعوا خلق انقلاب على المسار الغنائي السائد في المغرب آنداك، المتمثل في تأثير المدرسة الموسيقية الشرقية من جهة، وتأثير النمط الفني الفرنسيّ من جهة أخرى، إذ عرف المغرب بعد الاستقلال ما سمي موجة "الأغنية العصرية" التي ركزت على المواضيع العاطفية ومزجت بين الآلات الموسيقية العربية والغربية.

أغنية "الصينية"

لم تكتفِ مجموعة "ناس الغيوان" بتشكيل منصة للتعبير عن السخط على الوضع الاجتماعي القائم، بل خلقت ثورة موسيقية شكلاً ومضموناً، وكانت أول فرقة اهتمت بالفن الشعبي الذي عرف تهميشاً كبيراً لعقود.

شكّلت الفرقة محاولة لإعادة إنتاج الاندماج الاجتماعي الذي فكّكه الاستعمار الفرنسي، وكانت مثلاً لبقية شباب المغرب الكبير من حيث مدى الاقتناع بالهوية والحرص على التشبّث بالثقافة الشعبية الأصيلة، وكان أول إنتاجاتها أغنية "الصينية"، وهي الآنية التي يجتمع عليها المغاربة لشرب الشاي في طقوس اجتماعية خاصة بالمجتمع المغربي.

"مسرح البساط"

شكّل المسرحي الراحل الطيب الصديقي المؤطّر الثقافي لأعضاء الفرقة في مرحلة معينة من مسارهم، ساعد التكوين الذي تلقوه في إطار "مسرح البساط" (نوع مسرحي عريق يعتمد على المزج بين التشخيص والغناء) على إتقان فن الإلقاء والتواصل مع الجمهور، وهو الأمر الذي برعوا فيه خلال مسرحية "الحراز" إحدى أهم المسرحيات في تاريخ البلاد.

قال عنهم الصديقي "إنهم ليسوا مغنين بالمفهوم التقليدي، هم ممثلون يغنون". لكن إحساسهم بالإهانة من أحد تصريحاته الصحافية، التي وصف فيها ممثليه بحقل تجارب، جعلهم يبتعدون عنه.

بو جمعة... المحرّك

يعتبر الراحل بو جمعة حكور الملقب بـ "بوجميع" المحرّك الأساس والنواة الأولى للمجموعة، لم يتمكن من متابعة دراسته لظروف عائلته الاقتصادية، إذ اضطر إلى ترك دراسته في الثانوية والعمل في مجالات النسيج والتصبير لإعالة أسرته.

تمتّع بشخصية فريدة يطبعها الخجل والصدق والعبقرية وحس إنساني كبير، وكذلك بصوت وحضور متميزين ساهما في شكل كبير في شهرة المجموعة.

أُولِع "بوجميع" منذ صغره بالأهازيج الشعبية، وكان يحضر حلقات الذكر الصوفيّ في الزوايا، إضافة إلى متابعة عروض فرق موسيقية وحكواتيين في إحدى الساحات القريبة من بيته، ما مكّنه من حفظ رصيد مهمّ من الأهازيج والقصائد التراثية.

قام بو جمعة بإنشاء فرقة مسرحية ومن ثم انضم وبعض زملائه إلى فرقة الطيب الصديقي، وسرعان ما قرر إنشاء فرقة تهتم بالتراث الشعبي مع كل من العربي باطما وعمر السيد وعبد العزيز الطاهري، الذي سيعوّضه عبد الرحمان قيروش الملقب بـ "باكو" إضافة إلى علال يعلى.

تمازج ثقافيّ

قام "بو جميع" الذي تتحدّر أصوله من جنوب المغرب، بكتابة عدد من الأغاني، واستعان في ذلك بوالدته التي كانت تحفظ العديد من قصائد التراث الشعبي العتيق. كما ساهم العربي باطما، الآتي من منطقة الشاوية القريبة من مدينة الدار البيضاء، في البحث في التراث الشعبيّ، واستقى بدوره العديد من الأغاني مما كانت تحفظه والدته.

عُرف باطما بروح البدوي البسيط، وعلى الرغم من مغادرته المبكرة للمدرسة إلا أنه كان مهووساً بالقراءة، واستطاع بعد سنوات تأليف قصائد عدة استخدمتها المجموعة، كما كتب مجموعة من السيناريوات السينمائية والمسرحية.

اعتُبِر "مجدوب" الفرقة، نسبة إلى عبد الرحمان المجدوب الشاعر المغربي المتصوّف الذي عاش خلال القرن 16، وألف قصائد زجلية وأمثالاً شعبية ما زالت تشكل إرثاً ثقافياً لمنطقة المغرب الكبير.

حمل ثقافته الأمازيغية

حمل عمر السيد ثقافته الأمازيغية وصوته العذب الذي جعل المجموعة تعتمد عليه في إلقاء بعض المقاطع نظراً لسهولة تجوله عبر الطبقات الصوتية المختلفة، كما تكلّف بالجانب الإداري والتنظيمي للفرقة منذ نشأتها إلى الآن.

وأضاف باكو ثقافة الموسيقى "الكناوية" إلى المجموعة باعتباره كان من أمهر عازفي آلة "السنتير"، بينما قام علال يعلى ذو الأصول الصحراوية بتدريس الموسيقى لزملائه، واشتهر بمهارته في العزف على العديد من الآلات الموسيقية، خصوصاً آلة "البانجو" التي طبعت أنغام فرقة "ناس الغيوان"، وساعدت خبرته الموسيقية في شكل كبير في اختيار ألحان موسيقية رائعة تتماشى مع عمق الكلمات المستخدمة في أغاني "الغيوان".

شكّلت الفرقة في حد ذاتها مجتمعاً مصغراً، وعمل التنوع الثقافي لأعضائها على إغناء نصوصها الغنائية وتعدّد روافدها الموسيقية، فيما أضاف الطابع الصوفيّ للعديد من القصائد التراثية التي استخدمتها، نفحة روحانية جعلت حتى من لا يفهمون اللغة العربية يتأثّرون بسحر أغانيها.

تضييق السلطات

لم تستسغ السلطات النقد السياسي اللاذع في بعض أغاني فرقة "ناس الغيوان" مثل أغنية "غير خذوني" التي تسرد معاناة المعتقلين في السجون السرية، وأغنية "مهمومة" التي تحكي الفرق الشاسع بين الثراء الفاحش للأغنياء، والبؤس الذي يعيشه الفقراء في فترة "الحديد والجمر" التي عرفت اعتقال العديد من الشباب بسبب توجهاتهم الفكرية، ما حدا بها إلى التضييق على المجموعة عبر منعها من تسجيل بعض أغانيها، ومنع بثّ بعضها الآخر في وسائل الإعلام التي كانت تشكّل آنذاك قناة تلفزيونية وإذاعة حكوميتين فقط.

رحيل الزعيم

شكلت وفاة بوجمعة في العام 1974 عن عمر 30 سنة ضربة قوية لمجموعة "ناس الغيوان" التي لم يستوعبها أعضاؤها في حينه. يروي علال يعلى تفاصيل اليوم الأخير في حياة صديقه قائلاً إن آخر سهرة شارك فيها بوجميع كانت في مدينة القصر الكبير شمال المغرب، نصحه بأن يخلد إلى الراحة بعدما تقيأ بوجميع الدم بسبب مرض قرحة المعدة الذي كان يعاني منه لسنوات، لكنه تحامل على نفسه وأكمل السهرة. ويضيف علال أنه بعد رجوعهم في تلك الليلة إلى الدار البيضاء، استفاق ليلاً على خبر وفاة بوجميع، "بدا الأمر كالكابوس تمنيت أن أفيق منه".

قرّر بعض الأعضاء إثر ذلك حلّ المجموعة لاعتبارهم أنه لا وجود لـ "ناس الغيوان" من دون بوجميع، لكنهم عادوا عن قرارهم وأكملوا مشوار الأغنية الملتزمة الذي دام سنوات، وأنتجوا أغنية "والنادي أنا" نعوا فيها صديقهم الراحل ضمن ألبوم سموه "تكريم بوجميع".

سكورسيزي و"الحال"

أعجب المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي بـ "ناس الغيوان" في شكل كبير بعد مشاهدته فيلم "الحال" الذي أنتج في العام 1981، ووثّق مسار المجموعة. وقام سكورسيزي باختياره ليكون أول فيلم يستفيد من برنامج الحفاظ على التراث السينمائي العالمي الذي تدعمه مؤسسة السينما العالمية، كما قام باستخدام أغاني الفرقة في فيلمه "الإغراء الأخير للمسيح"، وهو ما زاد من شهرة المجموعة، التي كان يسميها "رولين ستونز أفريقيا"، على المستوى العالمي.

واقع الغيوان

عرف مستوى فرقة "ناس الغيوان" تراجعاً بعد رحيل معظم أعضائها المؤسّسين، خصوصاً منذ وفاة العربي باطما الشاعر والباحث التراثيّ في العام 1997، ما أدى إلى غياب مبدع في وضع كلمات الأغاني، وبالتالي لم تستطع مواصلة مستواها المعهود، وظلت في الغالب تعيد أغانيها القديمة الناجحة، وإنتاج أغان لم ترقَ إلى مستواها المعروف.

بقيَ عمر السيد الوحيد من العناصر القديمة التي ما زالت تنتمي إلى الفرقة إلى جانب أعضاء جدد، وذلك بعد وفاة باطما في العام 1997 وباكو في العام 2012، وبعد انسحاب علال يعلى الذي اعتبر أن روح "ناس الغيوان" أخذها مبدعوها الراحلون معهم إلى اللحد.

"ناس الحال"

انضم يعلى إلى مجموعة "ناس الحال" في العام 2006 وهي مجموعة جزائرية أنشئت في العام 1980 تأثراً بالظاهرة الغيوانية، تقول المجموعة إن الهدف من تلك الخطوة هو إنشاء وحدة فنية مغاربية.

تبقى فرقة "ناس الغيوان" أهم تجربة غنائية عرفها المغرب، شكلت منارة أضاءت طريق العديد من المجموعات الشعبية التي سارت على دربها، وأعادت الاعتبار إلى الفنون الشعبية الأصيلة التي كان ينظر إليها بنمطية سلبية.

المزيد من فنون