Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أزمة كورونا تختبر وحدة وادي النيل

يُعدُّ ترابط شعبَيْ مصر والسودان أهم نقاط قوة مشروع التكامل بين البلدين

مثلث حلايب وشلاتين بين مصر والسودان (مواقع التواصل)

 اختبرت أزمة تفشي فيروس كوفيد- 19 وحدة وادي النيل بين مصر والسودان، وهي واقعية على المستوى الشعبي، إلاّ أنَّها آخذة في التذبذب على مستوى الحكومات، بحسب الأنظمة الحاكمة في البلدين وميول كل منها السياسية وحالات ائتلافها واختلافها. في ظل أزمة كورونا، ظهرت اتفاقية "الحريات الأربع" التي وُقّع عليها في القاهرة في عهد الرئيس المصري السابق حسني مبارك في 18 يناير (كانون الثاني) 2004، التي تمكِّن مواطني البلدين من الإقامة في البلد الآخر والتنقل والتملك والعمل. ولم تكن تلك الاتفاقية الأولى، إذ كان هناك اتفاق تكاملي آخر بين البلدين تم التوصل إليه في عهد الرئيسين السوداني جعفر النميري والمصري محمد أنور السادات عام 1974، بهدف دمج اقتصادَيْ البلدين.
 

ثنائية ناجحة

انطلق اتفاق النميري- السادات من تعاون سياسي أفضى إلى تعاون اقتصادي. كان التعاون السياسي يتعلّق بتبادل الخبرات التنظيمية والحركية والاطّلاع على التجربة النضالية وتاريخ مقاومة الاستعمار في البلدين، ثم بدأ في وزارات مهمّة، مثل الخارجية والمالية والزراعة والري والنقل والمواصلات والتجارة والصحة والشؤون الدينية والثقافة والإعلام والتربية، بهدف تحقيق التكامل في كل المجالات بما يتواءم مع السياسات التنموية في البلدين، إلى جانب دفعها ودعمها حتى تحقق نتائجها.
ودخل التكامل حيّز التنفيذ إثر الانتهاء من الدراسات بعد العام الثالث على توقيع الاتفاق الثنائي الذي حمل في ثناياه اتفاقيات عدّة تكفل حرية الحركة والانتقال لمواطني وادي النيل. ودُمجت مؤسسات وشركات عدّة عاملة في مجالات الزراعة والصناعة والتعدين والمياه الجوفية والري والإنشاءات والملاحة النهرية وعدد من المشاريع الاستثمارية. وكُفلت حرية التنقل والعمل والإنتاج لمواطني البلدين، كما أُلغيت تأشيرة الدخول بينهما وأُجيزت اتفاقية ازدواج الجنسية السودانية - المصرية ورُبط البلدان بشبكة طرق برية وبحرية ونهرية وجوية يتم التعامل معها باعتبارها رحلات داخلية، كما حصل تعاون في مجالَيْ الصحة والضمان الاجتماعي.

في المحصّلة، نجد أن ذاك الوعي التاريخي بضرورة التكامل بين البلدين والتعاون المشترك، تبلور بظل ظروف تجسّد فيها الإدراك الحقيقي لجدوى التعاون، كأحد رهانات البيئة الدولية المحيطة. ثم ظهرت بعد ذلك نزعة النهج التحرّري التي رأت فيها كلتا الدولتين أن شكل الدولة الحديثة الذي وصلتا إليه نجح في إزاحة عقبات كانت حائلة بين المشترك الفكري والثقافي والاجتماعي بين شعبَيْ وادي النيل. فانفتحت وفقاً لذلك أبواب الجامعات لأبناء البلدين وتم التبادل الإعلامي والديني والثقافي.


التكامل العربي - الأفريقي

ولعب التكامل المصري - السوداني دوراً طليعياً وسط التكتلات العربية – الأفريقية، كعنصر مكمّل ومشروع جزئي داخل التصور الشامل للتكامل العربي - الأفريقي، لذا وقعت عليه مسؤولية أخلاقية بأن وضع حجر الأساس للانتقال من الثنائية إلى التكامل الجماعي. والتحدي هنا هو أنَّه إذا فشل التكامل الثنائي، فسيشكّل ذلك إحباطاً ويجسّد العجز الذي يقف دون تحقيق التكامل على مختلف المستويات. وسينبّه أيضاً إلى غياب الإرادة الفعلية لتحقيق التكامل على الرغم من الطبيعة الثورية لدولتَيْ مصر والسودان في تلك الأيام، وحملهما لواء القضايا العربية والإقليمية، لدرجة ظن بعض الدول أن التكامل المصري - السوداني مقصود به إقصاء أطراف أخرى، لم تستطع الدخول في هذه الثنائية.
 

آثار باقية

كانت اتفاقية "الحريات الأربع" تسير بخُطىً وئيدة ومتوازنة على الرغم من وجود رواسب في العلاقات بين الحكومتين بسبب محاولة اغتيال الرئيس مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، التي تمَّ تدوين بلاغات فيها ضد ثلاثة من رموز نظام الرئيس السوداني المعزول عمر البشير اتُهموا بالتخطيط للمحاولة، وهم وزير الخارجية وقتها علي عثمان محمد طه ومدير جهاز الأمن نافع علي نافع ومدير جهاز الاستخبارات السابق صلاح قوش. واستمَّرت تلك الاتفاقية على الخُطى ذاتها إلى أن لُفت الانتباه إليها لدى زيارة الرئيس المصري السابق محمد مرسي إلى الخرطوم في 4 أبريل (نيسان) 2013، حيث قال إنّ الحكومة المصرية السابقة "كانت مكبّلة بالقيود السياسية، لذا تردّدت في تنفيذ بنود الاتفاقية، وفي المقابل ظلَّ السودان ينفِّذها منذ التوقيع عليها مباشرة". وعلى الرغم ممّا كان يربط البشير ومرسي من انتماءٍ للحركة الإسلامية، إلاّ أنّ الإخوان المسلمين في الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) وفي الحزب المعارض (المؤتمر الشعبي) في السودان حينها، انتقدوا تأخُّر زيارة مرسي إلى بلادهم، إذ أتت بعد زياراتٍ خارجية شملت الصين والسعودية وقطر وإيران وجنوب أفريقيا وباكستان وبلجيكا والهند وألمانيا وإثيوبيا.
وتشدّدت الحكومة السودانية في موقفها عند تأكيد مرسي في ختام زيارته على أن قضية الحدود المُعلَّقة بين البلدين عند حلايب وشلاتين لا تمثّل مشكلة للتواصل والتكامل. وأعطت هذه الإشارة صبغةً أيديولوجية للمباحثات التي جرت بشأن هذه القضية في ما بعد، من منطلق أنّ التوافق الفكري بين النظامين السابقين لم يكن في صالح شعبَيْ وادي النيل. وانعكست تلك الصبغة على التوافق حول فرضية التكامل السياسي والاقتصادي الشامل، إذ رُهنت القضية بتوافق فكري على المستوى الحزبي الضيق ما أضاف مزيداً من التعقيدات أدَّت إلى تجميد اتفاق "الحريات الأربع" وربطه في ما بعد بقضية الحدود وملف حلايب.
ويقودنا ذلك إلى أن سيرورة التفكير الهادف إلى إرساء قواعد التكامل والتعاون بين البلدين آل بعد زيارة مرسي إلى مفاقمة عقبات الاتفاق عوضاً عن تذليلها، إذ تم تحميله عوائق قد يأخذ حلّها زمناً طويلاً. وبُنيت هذه العوائق على أساس "حمولة أيديولوجية" جمعت بين النظامين الحاكمين، ما أثَّر في تعاطيهما مع السياسة الدولية وعدم اتخاذ موقف واضح من مشروع التكامل. كما أنَّ عزلة البلدين وقتها جعلتهما يفكّران في التلاقي التكتيكي لأنهما يمثلان أقرب منفذين لبعضهما. بالتالي، فإنّ هرولة النظامين نحو بعضهما لم يكن بداعي إحياء التكامل، كما أنّ الاتفاق الشفهي على إقامة المشاريع من دون الاستناد إلى اتفاق قديم موقَّع وهو اتفاق "الحريات الأربع"، نشط بسبب الرغبة في إخماد المشاكل الداخلية والاضطرابات السياسية والأمنية وصرف الأنظار الخارجية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


التكامل تحت الاختبار


من جهة أخرى، وضعت أحداث عدّة مرَّت بالبلدين مشروع التكامل بين مصر والسودان تحت الاختبار، أهمها انفصال جنوب السودان، وبعد حوالى عقد من الزمان تفشّي فيروس كورونا.
بالنسبة إلى انفصال جنوب السودان، فإنَّه نظراً إلى أن مشروع التكامل والتعاون القديم واتفاق "الحريات الأربع"، أُقرّا في ظلّ السودان الموحد، فإنَّه بعد انفصال جنوب السودان عام 2011، سعت الحكومة المصرية إلى تقييم جديد للوضع وطرح فرضيات لتعاونها مع الشمال أو الجنوب أو الدولتين معاً، مدفوعةً بواقع جديد قد ينشأ معه تهديد لمنابع النيل. وحدث هذا كله في ظلّ نمو مشاريع سياسية بين مصر والسودان، عبّرت بشكل أو بآخر عن دوران لعبة التحالفات والتوازنات بين القاهرة من جهة والخرطوم وجوبا من جهة أخرى، أكثر ممّا أسهمت في تذليل العقبات والعوائق أمام المسار التعاوني المبني على العلاقات الأبدية بين البلدين.

 أمَّا الأثر الذي أحدثه وباء كورونا في قضية التكامل، فكان أنه بعدما قرّرت السلطات السودانية إغلاق الأجواء والمعابر الحدودية وفرض إجراءات احترازية للحيلولة دون تفشّي الفيروس، علِق حوالى 1080 سوداني في مصر. وعلى الرغم من نجاح السفارة السودانية في القاهرة بإجلاء عدد كبير منهم كانوا علقوا لأسابيع في منطقة السباعية بمحافظة أسوان في طريقهم إلى معبر أرقين الحدودي لدخول السودان براً، إلاّ أنّ حملات منظّمة من أتباع النظام السوداني السابق، أجّجوا أجواء الخلافات غير أنّ حركتهم لم ترقَ إلى أن تصبح حملة رسمية. ولكنّ جهات تابعة لنظام البشير تمادت بدعوة السودانيين في مصر إلى تنظيم وقفةٍ احتجاجيةٍ أمام مبنى السفارة في القاهرة، ثم اقتحامها في خطوةٍ متقدِّمة من التصعيد، ما وضع السفارة السودانية في موقف حرجٍ مع الحكومة المصرية.

وعلى الرغم من أن فرضية التوافق المدفوع بشعور النظامين بالتهديد قد تعود بالتفكير الإيجابي في مسألة التعاون إلى الوراء، وذلك من خلال التركيز على ما يشيعه البعض من عدم التكافؤ في مستوى الاستفادة من الاتفاق، إلاّ أنّها من ناحيةٍ أخرى قد تعمل أيضاً على تكثيف السؤال عمّا الذي يمثّل مفهوم التكامل لكلٍّ من مصر والسودان، ومدى إحساس الدولتين بضرورته، والأهمية التي يحتلّها في أجندة البلدين السياسية، فضلاً عن التقييم المتوقَّع لتنفيذه.
وينطلق المحدّد الذي يتداوله مناوئو وحدة وادي النيل، من جهة السودان، إلى أن مصر تحرّكها الحاجة إلى الموارد الطبيعية وهي تنفِّذ من الاتفاق ما يخدم مصالحها فقط، بينما يرى آخرون من الجهة المصرية أنّ السودان تحرّكه الحاجة إلى وجودٍ عربي، يحقّقه له المنفذ المصري. وإزاء هذين الافتراضين لدى قراءتهما مع حدثٍ محوري مثل انفصال جنوب السودان وحدثٍ عابر ولكنه مؤثِّر مثل تفشي فيروس كورونا، فإنّ قضية التكامل كقضيةٍ محورية، نجحت في أن تتعدّاهما، معتمدةً على نطاقِ المصلحة ومعايير تحقيق المكاسب سواء كانت مادية أو معنوية، فالخلاف ليس حول وجود التكامل من عدمه ولكن في عصيانه على أن يتحوَّل إلى مجرَّد شعار سياسي.
 

نحو الوحدة

 نسبةً إلى أزلية العلاقة بين الشعبين، توجد دواعٍ سياسية واقتصادية جيدة تشير إلى فتح تعاون مثمر وفعّال بين البلدين، يواكب عصر التكتلات الإقليمية كضرورة للبقاء. ولكن في الشكل العملي، لا بد من وضع رؤية واضحة لتنفيذ بنود التعاون المتمثلة بـ"الحريات الأربع". هذه الرؤية التي تُطبَّق بشكلٍ طبيعي ولكن من دون حمايتها من أي خلافٍ ناشئ، لم يظهر إلى الآن مدى تمكّن البلدين من تطبيقها وضمان استراتيجية تنفيذها ومدى مساهمة سياساتهما الاقتصادية في تشجيع الاستثمارات المتبادلة والمشاريع الاقتصادية التكاملية المشتركة. كما لم يوضع توقع مدى قدرة البلدين على الصمود لتحقيق الأهداف المشتركة في الاعتبار، ولكن بعد فشل أتباع نظام البشير في خلق حساسية وطنية بين البلدين، يمكن القول إنّ المبادئ التي بدأ بها مشروع التكامل باقية متجسِّدة في الوحدة الشعبية ولا ينقصها إلَّا إحاطتها بمزيدٍ من الحماية للاستمرار والتفعيل نحو وحدةٍ كاملة، تستفيد من استغلال مُشترك للموارد الطبيعية، وتفعيلها لدفع عجلة التنمية الاقتصادية إلى زيادة الدخل القومي وتحقيق الرفاهية الاقتصادية لشعبَيْ البلدين.

اقرأ المزيد

المزيد من العالم العربي