Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معرض "كتاب الطبخ" ... مشاهد مركبة وفيديو في زمن الحجر

الفنانة المصرية مروة بن حليم تعود الى عالم المطبخ واسراره الخفية

الفنانة المصرية مروة بن حليم (اندبندنت عربية))

في كتابه "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" يتطرق الكاتب المصري الراحل رجاء النقاش إلى واقعة منع فيلم "شىء من الخوف"  للمخرج حسين كمال والذي تم إنتاجه عام 1969 بدعوى احتوائه على إسقاطات سياسية تتعرض لشخصية الرئيس، وكان نجيب محفوظ وقتها يعمل مستشاراً فنياً لوزير الثقافة. سُمح بعرض الفيلم لاحقاً بموافقة من عبد الناصر، والذي قيل أنه قد شاهد الفيلم ولم ير فيه ما يثير حفيظته. تطرق الكتاب نفسه إلى أزمات مشابهة تخص روايات نجيب محفوظ والتي يحمل بعضها إسقاطات سياسية ودينية، ومن بينها "ثرثرة فوق النيل" و "أولاد حارتنا" و "الكرنك" وخلافاً لفيلم شىء من الخوف هناك أفلام سينمائية مصرية أخرى قيل أنها تحمل إسقاطات سياسية، وإن لم تواجه أزمة في عرضها، كفيلم الزوجة الثانية لصلاح أبو سيف وفيلم الأرض ليوسف شاهين.

تبرز فكرة الإسقاط السياسي أو الديني أو الاجتماعي في معظم الثقافات، كما تشمل مناحي أخرى غير السينما والأدب، ويعدها البعض وسيلة ناعمة للهجوم أو التمرد، أو هي نوع من المقاومة بالحيلة، في ظل مُناخ لا يسمح بذلك، ما يدفع المُبدع إلى الحديث عن الشىء دون الإفصاح عنه. يمكننا أن نعثر على أثار هذا التوجه وانعكاساته أيضاً ضمن صيغ مختلفة في المسرح والفنون البصرية بأنواعها كما في السينما والأدب. ربما نجد له أثراً كذلك في الموروث الشعبي، أو حتى في الأمثال أو النكات المتداولة. وغالباً ما يجد الحس الشعبي لنفسه مساراً ما للتعبير يجنب صاحبه المخاطر، ويسلك المبدعون طرقاً مراوغة من أجل البقاء والاستمرار لإيصال الرسائل أو المقاومة الخافية. قد تتخذ بعض الأعمال قالباً يجمع بين الجد والهزل، كأن تُبث الأفكار الكبيرة مثلاً على ألسنة الحيوان، كما في كتاب كليلة ودمنة، أو في رواية مزرعة الحيوانات لجورج أورويل.

هذه الازدواجية في التعبير عن المعنى هي محور اهتمام المعرض المقام في مؤسسة مدرار في القاهرة للفنانة مروة بن حليم تحت عنوان "كتاب الطبخ" وهو عمل يجمع بين التركيب والفيديو وقد جاء في وقت الحجر المنزلي جراء انتشار الكورونا وإقبال الناس على مهمة الطبخ  والبحث عن وسائل جديدة له. يتوزع العمل على أجزاء مختلفة ضمن فضاء قاعة العرض، حيث تواجهك في البداية حجرة مظلمة يُعرض في وسطها شريط فيديو بتقنية الهولوغرام لعملية إعداد للطعام. تم صوغ التركيب الذي يُعرض في داخله الفيديو على نحو يسمح للمشاهد باكتشاف الخدعة، بينما يستمع لتسجيل صوتي لرجل يتلو نصاً ذي مفردات لها علاقة بالطعام وإنتاجه. يثير النص المُسجل قضية مُختلقة حول أزمة ما، أطرافها الحبوب والخضروات والفاكهة والطعام. يحمل النص جانباً ساخراً وفكاهياً، يرسخه التناقض بين المحتوى وطبيعة إلقائه، ففي حين يفترض محتواة حرباً وهمية مستعرة بين أنواع البذور والفاكهة، تحيلك نبرة الرجل وآدائه الصوتي إلى الخطابات الحماسية للسياسيين. يمكنك أن تلتقط بوضوح بعض الإسقاطات الرمزية عبر النص الذي يلقيه صاحب الصوت على حشد مجهول، ويقدم فيه نفسه كممثل لكيان مُفترض، وهو اتحاد المحاصيل.

جاء في النص الصوتي: "تنعقد هذه الجلسة وسط العديد من المواجهات. يجب أن تتحد كل الجذور لتهزم ذلك الجَزَر الذي نشترك جميعًا في اعتباره عدو لنا، سواء جئنا من أراضٍ مطيرة أو مشمسة وجافة، إلى جانب أزمة انخفاض منسوب الكرنب، وتصحر القرع العسلي، وإرهاب البطاطس، وهجرة الخس، وقرصنة الخيار، والرمان الذي صنعه الإنسان، ووباء الفلفل، وتكاثر الطماطم. ربما كانت الكينوا المتطرفة فيروس صُنع في معمل أبحاث، لكنها خرجت عن السيطرة، حيث صنعت في الأصل لتستخدم كسلاح. من بين التحديات أيضًا الموز المنافق، والتوت الفقير، والجوافة الجبانة، والشمام المادي، والباذنجان غير الأخلاقي".. وهكذا يستمر الخطاب المسموع في بث الحماسة لدى الحضور من أعضاء "الجمعية" وهو الكيان المُفترض الذي يلقى الخطاب أمام أعضائه، ويدعوهم فيه للتمرد والثورة تارة أو للبحث عن حلول جذرية للأزمات التي تواجههم تارة أخرى.

لا تختلف بقية أجزاء العمل الأخرى عن محتوى تلك الحجرة المُظلمة. في خارج الحجرة عُلقت لوحتين تحمل نصوصاً مكتوبة وشبيهة بالنص الصوتي في الداخل، لكنها تنبهك من طريق الحذف المتعمد لبعض الكلمات واستبدالها بأخرى بالمعنى المزدوج للنص. في الوسط وضع تجهيز لبعض أدوات الطبخ، بينما يُعرض على مسافة قريبة شريط فيديو آخر يحاكي برامج الطبخ التليفزيونية، ويتضمن حواراً بين امرأين تتحدثان فيه حول الطرق الصحيحة لتجهيز الطعام. يبدو الحوار في الفيديو مراوغاً كذلك، إذ سرعان ما تكتشف ازدواجية فحواه بسهولة. تسلط مروة بن حليم الضوء هنا كما جاء في البيان المصاحب للعرض "على كيفية تداول اللغة بأساليب مختلفة، وتعددية إمكانياتها التي تجعل منها وسيطاً سائلاً ومموهاً أحياناً وفقاً للسياق" أما المعالجة البصرية للوحات المعلقة، والتي تم الحفر على أسطحها، فتحمل دلالة خاصة حول ميكانيكية التصنيع الآلي للخطابات، وإشارة إلى النصوص الرسمية التي تنتجها السلطة كالجداريات التذكارية المصنوعة من الرخام في الأماكن العامة ولوحات التوجيه أو الإرشاد.

مروة بن حليم هي فنانة ليبية مصرية تخرجت في الجامعة الأمريكية عام 2014 وحصلت على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة في جامعة ساذرن ميثوديست بالولايات المتحدة الأمريكية. تهتم بن حليم في ممارساتها الفنية بهياكل السلطة والذاكرة الجماعية والهوية. تراوح بن حليم بين وسائط مختلفة كالنصوص والفيديو والآداء والنحت، وعرضت أعمالها في مصر والولايات المتحدة والإمارات العربية والمكسيك والمغرب وإيطاليا وأسبانيا. كتاب الطبخ هو عمل تم إنتاجه بمنحة من المورد الثقافي، وتعاون من أندريا نونيس، وناتاشا يونان، وهو من تنظيم الفنان أحمد شوقي.

المزيد من فنون