Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

آخر الجبهات السورية... قنابل من الجهات كلها وطائرات فوق الرؤوس

سكانها نزحوا من أماكن أخرى في البلاد ويخشون خطوة الأسد التالية

سوري أمام صاروخ أرض- أرض أطلق ضمن قصف "جنوني" على إدلب (أ. ف.ب)

يلوذ النازحون تحت أشجار بساتين الزيتون في محافظة إدلب، وهم أيضا يتجمعون بأعداد كبيرة في المخيمات المقامة على امتداد الحدود مع تركيا، لكنهم يبدون وكأنهم يملأون كل صدع صخري في الحقول المحيطة بهم.

 ينامون في الكهوف، لكنهم ينصبون أيضاً خياماً بدائية الصنع على امتداد حدود حقول الحنطة والشعير. ينتشرون في هياكل مجمعات الشقق نصف المبنية، ويبنون ملاجئ مهلهلة على طول جدران المصانع وسفوح الهضاب الصخرية، ويستخدمونها دروعاً تقيهم رياح آخر الشتاء.

هناك مئات من الأسر، التي سبق لها أن نزحت بسبب الحرب الأهلية السورية وهجوم بشار الأسد على مناطقها، تملأ الآن مرآباً للسيارات وأقبية ملعب لكرة القدم وسط مدينة إدلب.

قالت حسنى عبد الله مصطفى التي وصلت إلى الملعب مع أطفالها وزوجها قبل أسبوع من جبل الزاوية، الواقع شمال غربي سوريا لـ"اندبندنت": "أريد العودة إلى منزلي".

كانت حسنى وأسرتها قد هربوا من بيتهم المتوارث عن أسلافهم بعد استيلاء نظام الأسد على المرتفعات الريفية التي كانت تعيش فيها. ومنذ ذلك الوقت، سيطر المتمردون عليها، لكنها بقيت موضع صراع بين الطرفين.

أضافت "لا أريد طعاماً أو مالاً. لا أريد الذهاب إلى أوروبا. أريد فقط الأمان لأطفالي".

راحت الطائرات المقاتلة تهدر فوق الرؤوس، إحداها تشكل وراءها غيمة على شكل نصف دائرة، كأنها ترسم ابتسامة مهدِّدة في السماء الزرقاء- الرمادية، ثم بدأت أصوات الضربات المكتومة الناجمة عن الهجمات الجوية مع دمدمة قذائف المدافع، ومع مرور الوقت أخذت أصواتها تتزايد وتتكاثف أكثر فأكثر مع اقتراب مغيب الشمس.

بعد ساعات قليلة، ستعلن روسيا وتركيا اتفاقاً لوقف إطلاق النار، يبدأ مفعوله منتصف الليل، وهو واحد من بين عدد كبير من الاتفاقات التي أُعلنت خلال السنوات السابقة قبل انهيارها خلال ساعات أو أيام.

وإذ تقترب الحرب في سوريا من عامها العاشر، يكون نظام الأسد قد انتزع من المتمردين كل الأراضي عدا أجزاء صغيرة تقع في شمال سوريا، ويبدو أنه مصمّم على فرض سيطرته على المنطقة الشمالية الغربية التي ما زالت في يد المعارضة. وقد دفع هجومه المدعوم بالقوة الجوية الروسية والميليشيات المدعومة إيرانياً، السوريين الساكنين في إدلب، إلى الهرب لإنقاذ أنفسهم، على الرغم من أن كثيرين منهم سبق لهم أن نزحوا من أجزاء أخرى من البلاد.

 وتقدّر الأمم المتحدة عدد الأشخاص النازحين منذ بداية الهجوم في شهر ديسمبر(كانون الأول) الماضي بـ 900 ألفاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من جانبها، استغلت تركيا الأزمة الإنسانية المتنامية في إدلب واحتمال تدفق مدّ جديد من اللاجئين عبر حدودها، لتبرّر قرارها بالسماح لمن تزعم أنهم مئات الآلاف من المهاجرين بالتجمع على الحدود اليونانية سعياً للعبور إلى أوروبا، ما أثار القلق في بروكسل وعواصم غربية أخرى.

كانت رحلة فريق صحيفة "اندبندنت" إلى إدلب بموافقة السلطات التركية، وكانت تحت رقابة حكومة الإنقاذ الوطني، السلطة المدعومة تركياً التي تشرف على إدارة البلد، وعلى الأمن والقضايا الإنسانية في أجزاء صغيرة من سوريا التي هي تحت سيطرة القوات المتمردة.

بالرغم من أن مرافقنا كان دقيقا بمتابعتنا ( خلال زيارتنا لإدلب) لكنه منحنا حرية التحرك وسمح لنا باختيار مترجمنا وتشغيله وهو صحافي محلي وسائق أيضا رافقنا خلال الجولة التي استغرقت يوماً إلى مدينة إدلب وبعض البلدات المحيطة بها والتي تشكل معاً منطقة تحت قبضة المتمردين من سوريا، وخارج سلطة تركيا أو المتمردين الأكرد في شمال غربي البلد.

ما برز لنا منطقة تغلّفها حرب متواصلة، حيث كل شخص تقريباً سبق أن نزح، وأحياناً مرات عدّة، وليس هناك شخص لم تمسه مآسٍ عدّة.

هناك في إدلب حضور للفصائل الناشطة التي تدعمها تركيا، إضافةً إلى "هيئة تحرير الشام"، وهي تحالف يضم مجموعات مسلحة، بما فيها ذلك الجناح الذي كان موالياً في السابق لتنظيم "القاعدة". كذلك هو الحال بالنسبة إلى مئات الآلاف من المدنيين، رجالاً ونساء وأطفالاً الذين يعيشون حياة عادية.

يصرّ مازن كسارة، تاجر المجوهرات في السوق الرئيسة بإدلب على أن "الحياة لا بأس بها". لكنه يضيف "إنني خائف"، مشيراً إلى بندقية الكلاشنيكوف التي يحتفظ بها في زاوية من محله. فذات مرة، تمكّن اللصوص من سرقة خمسة كيلوغرامات من ذهب عائلته. قال معلّقاً "أنا خائف من أن تُسرق مجوهراتي ثانية. أنا خائف من الهجمات الجوية. أنا خائف من تكسّر زجاج واجهة المحل وتعرّضي لجرح بليغ نتيجة ذلك".

كانت الحياة خارج محله، وسط مدينة إدلب، عاصمة المحافظة، تصخب بإيقاعاتها اليومية الشائعة في أي مدينة عربية صغيرة. هناك سائق دراجة نارية تجلس وراءه زوجته وطفله بطريقة خطيرة، فيمرّ بسرعة عابراً ساحة برج ساعة المدينة، ومن مكبّر سيارة متحركة تنبعث تراتيل القرآن بصوت قوي.

محلات الكباب والفطائر منشغلة بتنفيذ طلبات الزبائن، وباعة الفواكه يعلنون بصوت عالٍ عن أسعار طماطم حمراء براقة وفاكهة اليوسفي التي تبرز من خلفية رمادية اللون.

لا توجد شبكة استقبال هاتفي في إدلب، لكنّ أصحاب المشاريع ربطوا مركز إدلب بالإنترنت اللاسلكي (واي فاي)، ووفّروا الكروت (البطاقات) للسماح للأفراد بتصفّح الويب وبعث رسائل إلى أحبائهم المقيمين في الخارج وبقية أجزاء سوريا، بينما هم يشربون الشاي.

يشكو الشباب من الضجر والبطالة. يقول بلال محفوظ، البالغ من العمر 23 سنة "ليس هناك أي عمل وكل شيء باهظ الثمن".

أما مدرّسة الرياضيات فاطمة مقدي التي كانت تستعرض محل ألعاب مع أطفالها الثلاثة، فقد تمكّن ولداها الكبيران من الوصول إلى ألمانيا، حيث يدرسان. غير أن زوجها المحاسب عاطل عن العمل ما يجعل حياة الأسرة صراعاً للبقاء. لكنها تشعر بخوف شديد على ابنتيها الجميلتين اللتين دخلتا سن المراهقة وابنها البالغ من العمر 11 سنة.

كان العشرات من أقاربها وأصدقائها قد نزحوا أو قُتلوا، ما أدى إلى تدمير طبقة متوسطة سورية كانت ذات يوم مزدهرة في هذه المدينة.

تقول فاطمة مقدي "أريد فقط أن أكون قادرة على البقاء في مدينتي وألاّ أنزح... لكن إذا فُتحت الحدود، فأريد الهجرة إلى بلد غربي".

في يوم 25 فبراير(شباط) الماضي، ضربت قنبلة مدرسة البراعم الابتدائية في مدينة إدلب، لتقتل ثلاثة أشخاص راشدين. بعد ذلك، عُلّقت الدراسة في كل المدينة، ولذلك وجد الأطفال أنفسهم في حالة فراغ خلال ساعات النهار، ومدرّسون مثل مقدي وجدوا أنفسهم من دون عمل. ففي أحياء المدينة، تمكن مشاهدة الأطفال يجوبون الشوارع، أو يضربون كرات القدم أو يخوضون في لعبة الشرطة واللصوص، لكنّ كثيرين منهم يقولون إنّهم يفضلون أن يكونوا في المدرسة.

يقول سليمان سليمان، 24 سنة، أستاذ اللغة العربية في المدرسة التي قُصفت: "قبل الهجوم، كانت هناك خطة طوارئ للمكان المخصص للدروس التي تستمر بضع ساعات في النهار... لكن بعد استهدافها، لم تُستأنف الدراسة، فالأطفال لا يريدون المجيء، والآباء لا يريدونهم أن يذهبوا إليها. التلامذة خائفون من قصد المدرسة، وبعض معلّميهم قد قُتل".

ظلّ نظام الأسد وداعموه الروس، ولسنوات، يمتنعون عن استهداف مدينة إدلب. لكن عند تجوالنا بالسيارة في المدينة وضواحيها، وجدنا أماكن لم يطلها القصف الأخير وما جلبه من كوارث. فبلدة الفوعة الواقعة شمال مدينة إدلب، كانت تعرّضت إلى قصف جوي قبل أربعة أيام أدى إلى تدمير مجمع من الشقق وقتل 9 أشخاص. كانوا جميعاً ممّن نزحوا من مناطق أخرى في سوريا، حسبما يقول جيرانهم.

يقول يوسف رمضان، 46 سنة، الذي لحقت بمنزله أضرار كبيرة، بسبب الانفجار الذي اقتلع كل أبواب بيته وكسر زجاج نوافذه "نحن سمعنا طائرة في السماء، ثم كان هناك قصف جوي".

وفي مدينة إدلب، ضربت غارة جوية حياً سكنياً، ما أسفر عن مقتل  أطفال كانوا يلعبون في الشارع حوالى الساعة العاشرة والنصف صباحاً.   

يقول محمد، ابن الـ11 سنة، الذي كان يعرف الأطفال القتلى "كانوا من أقاربي... إنه شعور رهيب".

وفي ملعب كرة القدم بإدلب حيث تقيم مئات الأسر الآتية من مناطق ريفية تحيط بالمدينة، ومن محافظتي حلب وحماة، وحيث تسكن نساء في مهاجع بدائية الصنع، عبّرن بحماسة عن رغبتهن في سرد قصصهن.

وصلت سامية محمد داخول، 76 سنة، إلى هذا المكان قبل شهر واحد من جبل الزاوية، هاربةً بعد مقتل ثلاثة من أبنائها في قصف جوي، وما زالت الأسرة عاجزة عن العودة لدفنهم بطريقة لائقة.

تقول داخول إن "أجسادهم ما زالت ملقاة في الأنقاض". كانت ترتدي ثياباً سود وشفتاها ترتعشان وعيناها تتخضّلان بالدموع خلال حديثها.

أما هديل باسل، البالغة 40 سنة من العمر والآتية من الكفرون فتقول "نحن لا نريد مالاً. نحن نريد منازل ومدارس لأطفالنا. ظلّ أطفالي لعشر سنوات من دون مدرسة".

يقول بعض السوريين إنهم أصبحوا معتادين على الدوي المتواصل للانفجارات التي تنقّط حروف الحياة اليومية هنا. لكن سائقنا واسمه ثائر من بلدة بِنِّش الواقعة إلى شمال مدينة إدلب، فيقول إنّه ما زال غير قادر على النوم بسبب القصف. وله صبي في سن الثامنة أصبح يعاني من مشاكل في البصر بسبب التوتر. يستطرد ثائر "هو دائماً خائف من الصواريخ".

سائقنا شخص لطيف يبلغ من العمر 40 سنة، وهو يتكلم بينما يقود في شوارع وطرق سريعة تعجّ بالسيارات والشاحنات والدراجات النارية التي تتسابق في ما بينها داخل المحافظة.

 

تصاعد تدخل تركيا في سوريا، بعد الهجوم الذي وقع على وحداتها العسكرية والذي تسبب في مقتل 33 جندياً، كانوا متمركزين في نقطة مراقبة لوقف إطلاق النار في إدلب، يوم 27 فبراير(شباط) الماضي. وتقول تركيا إنّها دمّرت أكثر من 12 طائرة مقاتلة للنظام السوري، إضافةً إلى مروحيات ومسيّرات وعدد من الدبابات والمدافع والمدرعات وتسع ترسانات للأسلحة.

وهذا قد يحسّن وضع المقاتلين المتمردين في صراعهم مع الأسد. ويبدو أن التدخل التركي الأخير قد وحّد فصائل المعارضين التي كانت تقاتل بعضها بعضاً.

وعلى الرغم من أنهم وضعوا خلافاتهم جانباً، فإنّ هناك شبه يقين لدى المدنيين والخبراء بأنّ "هيئة تحرير الشام" هي اللاعب المهيمن في إدلب. وعند سؤال مرافقنا المقاتل المتمرد سابقاً، البالغ من العمر 25 سنة، إن كان عضواً في الجماعة المثيرة للجدل التي تضم عناصر من تنظيم "القاعدة"، أجاب بعد صمت قصير "يعني"، أي "بشكل ما".

وقالت جماعة من المتمردين، منضوية تحت "الجيش الوطني السوري" المدعوم تركيّاً، لـ"اندبندنت" إنهم يحقّقون تقدماً، واسترجعوا بلدات كانت قبل فترة قصيرة تحت سيطرة النظام.

في هذا الصدد، قال أحد القادة العسكريين من هذه الجماعة، الذي عرّف عن نفسه باسم "أسد الله"، وهو يقف خارج نقطة عسكرية أمامية في بِنِّش "لم يعد الأسد قادراً على التحرك مثلما كان من قبل".

وقال إنه رجع للتو من معركة تم فيها استرجاع سراقب، التي تُعدُّ مدينة استراتيجية تقع بالقرب من الطريق السريع إم 4 المتنازع عليه. وعلى الرغم من أنّ عمره 35 سنة، فقد بدا وكأنه في الخمسين.

أضاف "أسد الله"، "كل الأسلحة التي يستخدمها الأتراك ضد نظام الأسد أفضل ممّا لدينا".

لكنّ الأطباء وعمال الدفاع المدني في إدلب يقولون إنّ التقدم  الميداني للمتمردين لا يعني بالضرورة تحسين حياة المدنيين وإنّ هناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن خسارة المتمردين أراضٍ في المناطق الريفية، ستمكن نظام الأسد من تصعيد الهجمات مع صواريخ متوسطة المدى وضربات جوية يمكنها أن تصل إلى مناطق كانت حتى الصيف الماضي تُعتبر أماكن آمنة.

وكانت النتيجة انتشار الشعور بالذعر والحركة المحمومة على الأرض. ولا أحد تقريباً يعرف كم عدد الأشخاص الذين نزحوا من مناطقهم بسبب استمرار تحركهم.

 وفي هذا الصدد، قالت شذا بركات، السياسية المعارضة التي التقيناها داخل الملعب الرياضي: "هناك عدد لكنه متغير... الناس ما زالوا ينزحون. لكنهم ينزحون من مكان إلى آخر مرات عدّة ونحن لا نستطيع تعقّب ذلك. بالتأكيد نحن لا نملك مصادر كافية لمواكبتهم".

يمكن القول إن النزوح لا يحقّق الأمان، فشخص مثل صالح أحمد طايش، 42 سنة، كان يملك مزارع سمك في ريف محافظة حماة، حيث استثمر آلاف الدولارات لتطوير تجارة ناجحة له ولزوجته وأطفاله الثلاثة. لكنهم آخر المطاف، وصلوا إلى إدلب قبل عام واحد تقريباً، هرباً من هجوم برّي وجوّي مدعوم من روسيا وإيران. وانتهى بهم المطاف إلى السكن في حقل دجاج خارج بلدة معرة مصرين، حيث كانوا يقيمون في خيمة ويطبخون في العراء.

جاء أول قصف جوي في ساعات مبكرة من صباح يوم الخميس (قبل الماضي)، حوالى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، حين كانوا نائمين. قال طايش الذي كان يتعافى من إصابات بليغة في رأسه وصدره في مستشفى إدلب: "كانت طائرات، ثم انهار كل شيء". 

سحبه أحد جيرانه إلى منطقة آمنة، ثم وقعت غارة جوية أخرى، قتل فيها منقذه، وخمسة عشر شخصاً آخر.

نجا ابنه من الهجوم مصاباً بجروح خطيرة، وقُتلت زوجته وابنتاه ووالده وأمه، لكن لا أحد من الأطباء أو الأقارب كانوا على استعداد عاطفياً لإخباره بالحقيقة، خوفاً من تعريض حظوظ شفائه للخطر، وهو يرفض النوم، على الرغم من مناشدة أطبائه وأخوته وأبناء عمومته له، والملتفين حول سريره.

قال طايش "ابني كان هنا، وهو الآن بخير... وحين أرى بقية أفراد عائلتي، سأشعر أخيراً بالراحة".

© The Independent

المزيد من تقارير