Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نساء الصومال يتذكرن الملكة أراويلو

حكمت بلاد "بونت" وانتقلت حكايتها إلى الأجيال اللاحقة عبر الشعر

مرت قرون على الزلزال الذي أحدثته أراويلو في المجتمع الصومالي القديم (مصطفى سعيد)

تحكي الأمهات الصوماليات لبناتهنّ قصة الملكة "أراويلو"، جدّتهنّ تلك التي كسرت ما رأت فيه قيوداً من الرجال على النساء، لتعتلي عرش الملك في قومها، وتذيق الرجال بعضاً مما أذاقوه للنساء. وتتفاوت سردية القصة قليلاً أو كثيراً، بحسب ما تعايشه الأم زمن تذكرها قصة جدّتها الملكة. لكن خلاصة الحكاية المرجو نقلها إلى فتيات الأسرة، هي أن المرأة يمكنها ليس تملك زمام أمور حياتها فحسب، بل إنها تمتلك من المقدرات ما يتيح لها إخضاع مجتمع كامل لإرادتها، إن وثقت بنفسها ومضت في ما تعزم عليه.

وتقول الأسطورة إن ملكة حكمت بلاد "بونت" (الصومال حالياً)، معاصرة للملكة بلقيس في القرن العاشر قبل الميلاد، وكانت تحكم البلاد من بلدة قديمة في ناحية هيلان الحالية، التابعة إدارياً لمحافظة سناغ شمال البلاد.

انتقلت قصتها شفاهية عبر القصائد التي نظمها الشعراء في جمالها وذكائها وحنكتها وقوة شكيمتها. في عهدها قلبت نظام المجتمع، فأصبح القول الفصل للنساء في كل شؤون الأسرة والقبيلة، معتبرة أن الرجال قساة ويحبون الحروب والمشاكل. ومع ازدياد اعتراض رجال قومها على مسلكها في الحكم، أوقعت بهم عقوبات قاسية ممعنة في إذلالهم بشكل جماعي، وقد بلغ بها الأمر حد إخصاء المتمردين منهم، إلّا أن رجلاً داهية خرج من شعبها ليتصدّى لها، وينهي حكمها بإنهاء حياتها، وينتقل الحكم إلى أختها أركسانو، التي عملت على إصلاح الأوضاع لتعيد التوازن إلى المملكة.

النظرة إلى الملكة تتغير

مرت قرون على الزلزال الذي أحدثته أراويلو في المجتمع الصومالي القديم. ومع أن تقليدّي إلقاء النساء الزهور على ضريحها وإلقاء الحجارة عليه من قبل الرجال لا زالا مستمرين، إلّا أن النظرة إلى الملكة الأم بدأت تتغير مع الزمن، مع انفتاح الصوماليين على العالم، ومشاهدتهم احتفاء أمم أخرى بشخصيات أشدّ قسوة ودموية من تلك المرأة. وقد يكون ذلك جعل غلواء التوجس منها، ومن الرسالة التي تحملها قصتها، والتمرد الذي تزرعه في قلوب النساء على سطوة الرجال في المجتمع، مرجعاً أساسياً لدى الوعي الجمعي لدى الصوماليين، لفكرة أن المرأة يمكنها تحقيق ما تصمم عليه، في كل مجالات الحياة. فالتاريخ خلّد أمّهات وأخوات، أخرجن من بين أسمال اليتم والخوف، رجالاً عظماء أسسوا سلالات حاكمة وقبائل، لا زالت قصصهم تعمر ليالي السمر حول النار في البوادي، أو في مناسبات التصاهر بين العائلات، أو اجتماعات قادة القبائل لرعاية جلسات الصلح، أو عقد التحالفات السياسية والعسكرية.

أراويلو في أعين الفئات الشابة

يقول الباحث في التاريخ محمد طاهر الزيلعي إن " أراويلو أول انقلابية في تاريخنا الشفهي، وهي كانت تكره أعمال البيت، وكانت ترى لنفسها دوراً سياسياً. أليس من حقها القيادة؟ أنا اعتبرها جدة النسويات وبطلة أمازونية من سهوبنا، يعجبني فيها أنها مجرد حكاية".

وفي تعليقها على ذلك، تستنكر الناشطة فاطمة الزهراء أحمد اعتبار أسطورة الملكة مجرّد حكاية خيالية، معتبرة أنه "على الأغلب هناك من الحكاية ما هو صحيح... وإلا فمن غير معقول أن يستمر تناقلها على مر كل تلك العصور". وهنا يستدرك الزيلعي مؤكداً وجود ما هو حقيقي، قائلاً "سابقاً درست هذه الحكاية، التي تنطبق عليها جميع شروط الأسطورة الستة. وكما قلت هناك أجزاء أصيلة وأخرى مزيفة، فالتاريخ قابل للتحريف".

وتقول خضرة جامع، الموظفة المقيمة في دولة الكويت، "بعيداً من معتقداتها، كان لها نهج وفكر وقدرة جعلتها من أقوى ملكات أفريقيا، وكان لها هدف آمنت به، ووصلت على الرغم من المحيط الذكوري المطبق عليها، في مجتمع كان يحاربها باستمرار، لقد تفوقت عليهم وكونت مملكة قوية، وحفرت اسمها في التاريخ حتى وصل صداه إلى يومنا هذا. ودائماً ما أنظر إلى القيم المستفادة من قصتها، التي مفادها أن المرأة ليست كائناً هامشياً وضعيفاً، كما يعتقد البعض، بل تستطيع أن ترتفع بمن تحبهم عالياً، ويمكنها أن تلقن من يسيء إليها أو إلى أحبتها درساً لا ينسونه".

كثيرون لا زالوا يتداولون حكاية الملكة أراويلو بكثير من التأمل، ويحاولون التوصل إلى الأفكار والعبر الأساسية، انطلاقاً من تصورات يبنونها عن المجتمع الصومالي قبل عشرات القرون، وكذلك آثار النقل الشفوي للأسطورة جيلاً بعد جيل. وتقول الناشطة الحقوقية والكاتبة سمية عبدالقادر شولي "اعتبرها من أساطيرنا الشعبية، وهي تحمل رمزية خوف الرجل من قوة المرأة. ويضحكني استدلال البعض بها للتأكيد على سوء حكم النساء إن تولّين مناصب عليا"، في حين يبدي عبدالسلام محمد، الموظف المقيم في فنلندا، حيرته في أمر الأسطورة، قائلاً "الغريب هو أن البعض من نسائنا يعتبرنها خرافة ذكورية، أي من صنع الذكور أنفسهم. بالتالي، هنّ لا يعتبرنها رمزاً نسوياً. الأمر محيّر جداً بالنسبة إلي".

وتأكيداً على التهديد الذي شكلته الملكة أراويلو على هيمنة الرجال في المجتمع، تقول الناشطة الثقافية هنادي أحمد نور "كان ظهورها كالتهديد المزلزل للرجل، وعلى الرغم من كونها بذرة للفكرة الراسخة اليوم لدى النساء الصوماليات بتساويهنّ مع أشقائهنّ، إلا أن معظم النساء الصوماليات يرينها قدوة لهنّ تعزز لديهنّ الشعور بالثقة في قدرتهنّ على الحكم والقيادة والسيطرة وإدارة المجتمع، ولكن لا يمكننا اعتبار قصتها قصة نجاح كامل، ففي نهاية الأمر لم تنجح سوى في إثارة غضب الرجال واستنفارهم ضدها، وإسقاطها".

أراويلو مصدر إلهام ودافع للتقدم

كثيرات هنّ الصوماليات اللاتي حققن مكانة مرموقة في المجتمع الصومالي، نساء رائدات في مجال الأعمال، وأخريات في المجال السياسي، وغيرهنّ في الخدمات الاجتماعية والعمل الخيري، وفي الفن والشعر والعلوم الدينية. لكن تبقى حكاية الملكة أراويلو وخيالها يحلّق فوقهنّ، كملاك حارس، أو روح تهمس لهنّ في وجدانهنّ لتدفعهنّ للعمل أكثر، ومقاومة الظروف مهما كانت قاسية. لذا، تعتبرها زهور بيحي بيله، اللغوية ورائدة الأعمال المقيمة في هرجيسا، قدوة أساسية للمرأة الصومالية لتتقدم بثقة، قائلة "أشعر بالفخر الشديد بها، كانت قدرتها على المبادرة في الوصول إلى قمة الهرم في مجتمعها، في ذلك الوقت المبكر من التاريخ، أمراً مدهشاً حقاً، وأنا من خلال تذكري قصتها، أزداد يقيناً دائماً بأن المرأة تستطيع أخذ حقوقها، إن وضعت ذلك نصب عينيها، وأن الواحدة منّا يمكنها ويحق لها أن تكون قيادية في مجتمعها. أرى قصتها دافعاً لي للعمل بجد أكبر، وأن أكسب مكانتي واحترامي في محيطي بنفسي، ولا يمكنني أن أؤكد أكثر على فخري بكوني من بنات شعبها".

المزيد من منوعات