في أواسط سنوات الخمسين من القرن العشرين، لم يكن الحاسوب موجوداً ولا الهاتف الذكي ولا فيسبوك ولا يوتيوب ولا أي شيء على الإطلاق من تلك الأدوات التي غزت إنسان ما بعد الحداثة خلال العقود الأخيرة من السنين. كان كل شيء لا يزال بسيطاً ويدوياً، فيما تلوح الإلكترونيات خيالاً واهياً لمستقبل بعيد بعيد. ومع ذلك، في وقت كان الترانزستور بالكاد ظهر، كان ثمة صندوق كهربائي عجيب أخترع منذ العام 1930، لكن بدايات غزوه المقاهي وحتى البيوت لم تكن إلا في الخمسينيات. يومها وعلى الفور سحر ذلك الصندوق ملايين البشر، كما أنه دفع كثراً آخرين إلى التفكير في قدرته على تغريب الناس إذ يخوضون في لعبته ساهمين عن أي شيء آخر. وكان هناك في الوقت نفسه من فُتنوا بالجهاز لكنهم فكروا بمدى قدرته على التغريب والاستلاب. ومن بين هؤلاء كان الكاتب الفرنسي الروسي الأصل آرثر آداموف، الذي كان يُعتبر حينها واحداً من أساطين مسرح العبث/اللامعقول. وتعبيراً عن موقفه المزدوج من ذلك الصندوق الذي اعتاد في ذلك الحين أن يقف أمامه لاعباً ساعات وساعات، كتب آداموف مسرحية "بينغ بونغ" التي لا بد من الإشارة على الفور هنا إلى أنها كانت فاتحة تحوّله من الفوضوية إلى السياسة وغالباً بتأثير من برتولد بريخت، لكن هذا التحوّل ليس موضوعنا هنا.
الآلة والإنسان
موضوعنا هنا هو تلك الآلة في مواجهة الإنسان، التي يمكن القول على أي حال إنها مهدت بقوة للاستلاب الذي يعيشه الناس في أيامنا أمام الحاسوب وتوابعه. والإنسان هنا هو بالتحديد آداموف نفسه الذي جعل من آرثر بطل المسرحية صورة طبق الأصل منه. وعلى الفور هنا أيضاً لا بد من الإشارة إلى أن عنوان المسرحية يكاد لا يعكس شيئاً عن موضوعها أو مجراها وإن كانت ثمة لعبة بينغ بونغ في نهاية المسرحية تأتي كعودة "مازحة" إلى مسرح العبث، بعدما كان فصلا المسرحية قد وضعانا أمام نوع من رؤية مغرقة في تسيّسها، إذ يفترض الكاتب أن هناك نوعاً من "مجمّع" اقتصادي سياسي كان هو وراء اختراع تلك الآلة وإغراق الأسواق والناس في اللعب عليها تاركين لها أن تسيطر عليهم تماماً، فيما هم واقفون كالمأخوذين يتبادلون العنف الحركي واللفظي أمام إحباطاتهم والآلة لا تطاوعهم مرة إلا لكي تغدر بهم مرات ومرات. وكل هذا مصوّر عبر مباراة متواصلة يخوضها آرثر وصديقه فيكتور.
من المؤكد أن القارئ إن كان قد عاش في سنوات الستين والسبعين سيتعرف في ما نروي، على آلة "الفليبر" ذلك البليار الكهربائي الذي تتجول فيه الطابات المعدنية تنساب وتُخبط، تلتف وتسقط في الثقوب لتسجل النقاط فيما يكمن "التيلت" في المرصاد أمام كل تحريك لأصابع الآلة يأتي مبالغاً فيه. في اختصار يبدو الأمر لعبة مجنونة، ومن هنا ولع آداموف بالفليبر من ناحية، وتسييسه نفسه كي يكتب عملاً هو في نهاية الأمر مرافعة بريختية ضد مكننات العصر الحديث واستلابات الإنسان المعاصر. وكان التعبير الرمزي في المسرحية من القوة إلى درجة أن الناقد الفرنسي جان سيرج كتب يوم العرض الأول للمسرحية في باريس فبراير (شباط) 1955، "إنها أشبه بقنبلة هيدروجينية تنفجر على الخشبة وفي الصالة بين المتفرجين". ومن هنا اعتبرت المسرحية نوعاً من نضال سياسي فكري عنيف.
تناقضات كاتب
ومع ذلك، لم يكن آرثر آداموف محظوظاً بما فيه الكفاية خلال حياته، ولم يكن كذلك، محظوظاً على الإطلاق بعد موته. فهو منذ رحيله في مارس(آذار) 1970، بات نسياً منسياً في عالم المسرح، نادراً ما يكتب أحد عنه، ونادراً ما تقدم إحدى الفرق واحدة من مسرحياته. ومع هذا كان آداموف يعتبر حتى عام رحيله رابع أربعة من كبار كتاب المسرح في أوروبا المعاصرة، إلى جانب بريخت وبيكيت ويوجين يونسكو. ولكن يبدو أن "مأساة" آداموف كمنت في اختياراته الفكرية التي كانت هي ما أملى عليه اختياراته الجمالية، وتأرجحه الدائم بين الغوص في الذاتية، والغوص في الواقع الاجتماعي يحلله، ينهل منه، وينتقده. ولعل مسرحيتيه الأساسيتين "بينغ بونغ" و"باولو باولي" تكفيان في تضاربهما وتناقضهما للتعبير عن اتجاهيه هذين. من هنا اعتبر آداموف واحداً من سادة التناقض. وهو كان يقر بذلك طواعية، قائلاً إنه لم يكن من شأنه أن يكون غير ذلك، هو الذي ولد روسياً في القوقاز، واقتلع من وطنه باكراً ليتلقى تعليمه في سويسرا وفي فرنسا بلغة فرنسية لم تكن وطناً له على أي حال، حتى ولو أجادها واعتبر سيداً من سادتها، كما يقول جان فيلار الذي كان بادي الإعجاب به و"بمساهمته في مد اللغة المسرحية الفرنسية بثراء مدهش".
مهما يكن، فإن آداموف كان يعتبر نفسه مفكراً في المقام الأول، وكان يرى أنه اختار المسرح وسيلة للتعبير بمحض الصدفة وأنه كان بإمكانه أن يختار أي وسيلة تعبيرية أخرى، هو الذي كان مهتماً، في الأساس، بالفلسفة وعلم النفس. وآداموف لم يخض الكتابة المسرحية بشكل جدي إلا عند نهاية سنوات الأربعين، بعدما كان قد عاش أزمة روحية حارقة تحولت بسرعة إلى أزمة نفسية عبر عنها في الفقرة التالية المنتزعة من كتابه "الاعتراف": "ما الذي هناك؟ أعرف أولاً أن ثمة أنا. ولكن من أكون أنا؟ كل ما أعرفه عن أناي هو أنني أتألم، فإذا كنت أتألم فمعنى هذا أن ثمة في جذوري الذاتية شرخاً وجرحاً وانفصاماً". في تلك السنوات، بعد الحرب العالمية الثانية كان آداموف، إثر سنوات عديدة أمضاها في صحبة السورياليين وفي الكتابة للصحف، وفي ترجمة يونغ وتشيكوف وغوركي وبوخنر إلى الفرنسية، كان قد بدأ يكتشف خواء الشرط الإنساني في الوقت نفسه الذي كان يكتشف قبح الواقع الاجتماعي. كان الاكتشافان متناقضين، وهما قاداه معاً إلى الانخراط في الحزب الشيوعي، لكنه هناك ظل طائراً مغرداً بمفرده، وانتهى به ذلك التغريد إلى الانفصال عن الحزب الشيوعي والانتماء إلى اليسار المتطرف، ولكن دائماً عبر حالات تمزق وضياع وانفصام.
تأثيرات سجون فيشي
هذه الحالات عبّر عنها آداموف بمسرحياته التي تأثر فيها أولاً بسترندبرغ، ولكن كذلك بقسوة فترة السجن التي أمضاها في معتقلات بوليس حكومة فيشي الذي اعتقلته لكونه غريباً، روسي الأصل. مسرحيته الأولى حملت عنوان "الغزو" وتبين فيها منذ البداية تأثره بالمسرح الروسي وبالفردانية الروسية بشكل خاص... وكان قبلها قد كتب الصيغة الأولى لمسرحية "المسخرة" التي سيعيد كتابتها وتمثل في العام 1952 لتحقق له شهرة طيبة، حيث تواكب عرضها مع الحقبة التي عرضت فيها الأعمال الأولى ليونسكو وبيكيت ما جعل اسمه يقترن باسم المعلمين الكبيرين.
بعد ذلك كتب آداموف أكثر من 20 مسرحية من أشهرها "بينغ بونغ" (1955) و"باولو باولي" (1957) و"اتجاه السير" (1953) و"الكل ضد الكل" و"كما كنا" (1954) و"ربيع 71" و"خارج الحدود" (1968) وأخيراً "السيد المعتدل". وكانت أكثر مسرحياته مرارة وبؤساً وهي واحدة من آخر أعماله.
مسرح آرثر آداموف عبّر على الدوام عن العزلة والاستلاب وإخفاق الإنسان في تعبيره عن أي معارضة جدية في وجه الشرط الإنساني البائس. مهما يكن، فإن مسار آداموف المهني ينقسم إلى قسمين، أولهما يتسم صراحة بنوع من الفردية العبثية التي تنتمي إلى عوالم دوستويفسكي أكثر مما تنتمي إلى عوالم وجودية ما بعد الحرب العالمية الثانية، وثانيهما يتسم بالكثير من الانفتاح على الوضع الاجتماعي، وأحياناً ضمن صيغ الواقعية الاجتماعية ما يعكس انتماءه إلى الماركسية اعتباراً من أواسط سنوات الخمسين. وفي جميع الأحوال، كان من الواضح أن السؤال الأساسي الذي لبث آداموف يسأله لنفسه طوال حياته إنما هو معنى هذه الحياة.