Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السودان... ثقوب على ثوب التطبيع

دخلت إسرائيل إلى أفريقيا من بوابة المساعدات

تظاهرة سودانية في مدينة عطبرة للاحتفال بالذكرى السنوية الأولى للانتفاضة (أ.ف.ب)

عندما زار الرئيس التشادي إدريس ديبي إسرائيل في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تلك الزيارة بـ "التاريخية"، كونها الأولى بعد مقاطعة استمرت منذ عام 1972 عقب حرب 1967 تضامناً مع مصر. أهم ما في تلك الزيارة كان إعلان نتنياهو عن أمله في الوصول إلى "قلب أفريقيا"، بالتخطيط لتقوية علاقات تل أبيب مع دولٍ مجاورةٍ لتشاد، وعلى رأسها السودان ومالي وربما نيجيريا. وما كان من الرئيس التشادي إلَّا أن عرض خدماته بإعلانه عن وساطته لتحقيق تطبيع علاقات السودان مع إسرائيل، بحكم العلاقة التي تربطه بالرئيس السابق عمر البشير ومصاهرته لأحد رجاله زعيم ميليشيا الجنجويد موسى هلال، المطلوب أيضاً لمحكمة الجنايات الدولية.

وليس بعيداً عن تشاد، فقد جرى اللقاء بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس المجلس السيادي الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان في مدينة عنتيبيي، الواقعة على ضفاف بحيرة فكتوريا في أوغندا، بدعوة من رئيسها يوري موسيفيني يوم أمس الاثنين 3 فبراير (شباط) 2020.

الجسر الطائفي من إسرائيل إلى النيل

في الواقع، الصلة التاريخية بين إسرائيل والسودان كانت بدايتها في عهد عبد الله خليل، سكرتير عام حزب "الأمة" ورئيس وزراء أول حكومة بعد استقلال السودان عام 1956. أرّخت بعض المراجع الإسرائيلية وكتاب للأكاديمي والسفير محمد عمر بشير، للعلاقة بين حزب "الأمة" وإسرائيل منذ 1956 وامتدت إلى 1958 على خلفية علاقة اقتصادية بدأت في لندن وإسطنبول إلى باريس، التي التقى فيها عبد الله خليل بوزيرة الخارجية الإسرائيلية غولدا مائير عام 1957.

  كانت أهم محاور تلك اللقاءات تقديم إسرائيل مساعداتٍ ماليّةٍ لحزب "الأمة" على شكل قروض لتمكينه من مواجهة النفوذ المصري في السودان، وكذلك مواجهة الأحزاب السودانية، خصوصاً الحزب "الاتحادي الديموقراطي"، وهو الحزب الطائفي المنافس الأول لحزب "الأمة" والذي كان يدعو إلى وحدة وادي النيل والحفاظ على علاقات متطوّرة بين السودان ومصر. أما حزب "الأمة" فقد كان يناصب مصر العداء في اختياره الاستقلال عنها وعدم الاتحاد معها بعد خروج بريطانيا، وفصل السودان عن أيّ اعتمادٍ اقتصاديّ عليها، وكذلك البحث عن شركاء آخرين لتحقيق الأهداف الإسرائيلية في السودان.

 وتوّجت تلك التحركات بالاتفاق على تقديم قرضٍ لزعيم حزب "الأمة" وقتها الصدّيق المهدي، الابن الأكبر للمهدي، وقيمته 300 ألف دولار، على أن يوقّع إيصالات لضمان سداد المبلغ. والبحث في أوروبا والولايات المتحدة عن طرق لجمع الأموال لاستعمالها في مشاريع اقتصادية في السودان، توضع تحت تصرّف إسرائيل. أما ما شرحه محمد أحمد عمر، نائب الأمين العام لحزب "الأمّة" وقتها، من قلق السودان المتعاظم من محاولات مصر زيادة نفوذها في السودان، على الرغم من اعتراف مصر أمام الخارج باستقلاله، فقد ختمه بعبارة: "مصالح السودانيين الذين يتمسّكون باستقلال السودان تتماهى مع مصالح إسرائيل ضدّ الخطر المشترك المتمثّل في مصر".

محطة الإنقاذ وإسرائيل

وبدأ اقتراح التطبيع داخل أروقة الحكومة السابقة عندما كشفت تسريبات "ويكيليكس" عن برقية أُرسلت في 29 يوليو (تموز) 2008، صرّح فيها مصطفى عثمان إسماعيل، مستشار الرئيس عمر البشير وقتها، بأنَّ حكومة بلاده تقترح على الولايات المتحدة أوجهاً للتعاون، تتضمن تطبيع العلاقات مع إسرائيل. كما صرَّح بعد ذلك وزير الخارجية السابق ابراهيم غندور بأنَّ السودان يمكن أن يدرس مسألة التطبيع مع تل أبيب. وامتد الأمر إلى لجنة العلاقات الخارجية بمؤتمر الحوار الوطني التابعة للحزب الحاكم، التي أيّدت إقامة علاقات طبيعية مشروطة. ثم جاء دور وزير الاستثمار السابق مبارك الفاضل المهدي، رئيس (حزب الأمة الإصلاح والتجديد)، المنشق عن "الأمة" الأصلي الذي قابل زعيمه الصادق المهدي، شيمون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي، ورئيس إسرائيل السابق عام 2005، على هامش القمة الدولية حول الديموقراطية والأمن ومكافحة الإرهاب في العاصمة الإسبانية مدريد.

درَجَ نظام الإنقاذ على إلقاء خبر التطبيع مع إسرائيل كل فترة على لسان وزيرٍ مختلف، كبالون اختبار يمتص شيئاً من الرفض الشعبي للفكرة، حتى تحوّل الأمر إلى مزايدة سياسية بين الحكومة وقتها وحزب "الأمة" بشقيه المعارض والمؤتلف. وقد تبنَّت الإنقاذ هذه الخطوة بعد مناشدة إسرائيل الولايات المتحدة وأوروبا بتحسين العلاقات مع الحكومة السودانية، بما أوضحته من وقف تهريب الحكومة السلاح إلى غزة، وقطع علاقاتها مع إيران وانضمامها إلى محور الدول السنية المناوئ لطهران.

الطوق الأفريقي

ودخلت إسرائيل إلى أفريقيا من بوابة المساعدات بزيارة وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" اليميني المتطرف عام 2009، دولاً أفريقية عدة، من بينها بعض دول حوض النيل التي بينها وبين مصر خلاف حول حصص مياه النيل. ففي كينيا جرى إعلان وزير الخارجية الإسرائيلي لجملة مساعدات في مجال الري والزراعة، ولم تنس التذكير بأفضال إسرائيل بمساعدتها في قضية تحرير الطائرة المخطوفة في مطار عينيتيي في أوغندا، وتسليم مواطنين ألمان عملوا مع فلسطينيين.

ثم وصل ليبرمان محطة نيجيريا إحدى أغنى وأهم الدول الأفريقية، والتي توجد فيها مجموعة كبيرة نسبياً من رجال الأعمال الإسرائيليين الناشطين في مجال الزراعة والبنية التحتية، بالإضافة إلى اعتبار نيجيريا هدفاً لصادرات الأسلحة الإسرائيلية. ولكن أخطر ما روّج له ليبرمان خلال زيارته تلك، هو عرض فكرة "تدويل الأنهار المشتركة" أو "خصخصة المياه" على الأمم المتحدة بتوصية إلى البنك الدولي لدراستها بدعوى منع قيام حروب مياه. وجاءت جولة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في يوليو 2015 إلى أفريقيا، والتي شملت كلاً من أوغندا وكينيا ورواندا وإثيوبيا، شاهدة على ما حصل خلال العقد الماضي من سعي إلى تحقيق أغراض معلنة كطلب الدعم الأمني الإسرائيلي المتزايد، وحاجة إسرائيل إلى إقامة تحالفات جديدة، والتركيز العسكري والاستخباراتي على مصادر المياه الأفريقية لإحاطة وتطويق دول حوض النيل.

التطبيع بين الإنقاذ والانتقالية

كان السودان ينظر إلى الطوق الأفريقي الذي اختارته إسرائيل، كميزة تجاوزته وتجاهلته عند مروره تاريخياً بمصر شمال الوادي ومخترقاً الهضبة الإثيوبية، ثم حديثاً مع دولة جنوب السودان وتشاد. فأخذت الحكومة تُظهِر تجاهلاً وتركّز نافية عقد نية التطبيع مع إسرائيل بينما دوائرها الداخلية منشغلة بذلك. ففي غير وقت أُثير موضوع التطبيع في أروقة الدبلوماسية السودانية.

في الواقع، الحكومة السودانية تدرك أنّ الغرب كان يتعامل مع الرئيس السوداني عمر البشير على أساس أنَّه مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، على خلفية جرائم حرب وقعت في إقليم دارفور أثناء الحرب الدائرة هناك منذ عام 2003. ولكن تحركات واسعة من كبار المسؤولين بالخارجية الإسرائيلية طالبوا واشنطن بتحسين علاقاتها مع السودان، وحثها على إزالته من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بعد قطع علاقاته بإيران منذ عام 2015. لاقى ذلك توصية من مساعدين في وزارة الخارجية الأميركية حول سبل التعاون مع القارة الأفريقية، على خلفية زيادة النشاط الدبلوماسي الإسرائيلي في القارة السمراء.

وعلى هذا، يتبيّن أنّ تفكير الحكومة السابقة في التطبيع مع إسرائيل كان متردّداً في ظلّ ما عكفت عليه في حساب ما قد تجنيه، ولذلك ظلَّت تلعب بورقة القضية الفلسطينية من دون أن تتخذ قراراً. ومن ناحية إسرائيل فكان الأمر ينصبُّ في مدى إمكان أن يحقّق السودان صمام أمان إقليمي، ثم الحذر في التعامل المباشر مع نظام الخرطوم السابق، وذلك أسوة بالغرب والدول التي ترتبط مصالحها به. أما الآن فيعتقد نتنياهو أنَّ السودان بعد الثورة، بدأ يتحرك في اتجاه جديد وإيجابيّ، مع تصريح البرهان في رغبته في مساعدة بلده على المضي قدماً في عملية تحديث من خلال إنهاء عزلته ووضعه على خريطة العالم. أما الثابت من ناحية إسرائيل، هو إعطاء الإذن لفتح المجال الجوي السوداني كممرّ آمن وسريع للطائرات الإسرائيلية خصوصاً المتجهة من وإلى أميركا الجنوبية. ومن ناحية السودان فإنَّ الثابت في ظلّ الحكومتين السابقة والحالية، أنَّ التطبيع هو إقامة علاقات طبيعية مشروطة مع إسرائيل على اعتبار أنَّ جامعة الدول العربية تدعم هذا الاتجاه، وأنَّ نموذج التطبيع المُراد هو الذي طبَّقته دول عربية وأفريقية مجاورة من دون أن ينتقص من سمعتها شيئ، بل مهَّد الساحة للمساهمةِ في تسيير أمورها وحصولها على المساعدات وعبورها خط المناكفة الغربية في نهاية المطاف.

المزيد من الشرق الأوسط