Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 الجزائري سمير قسيمي... مدينة بلا أبواب ورواية بلا أبطال

"سلالم ترولار" تنتمي الى فن الديستوبيا... وتكشف وقائع الفساد

الروائي الجزائري سمير قسيمي (موقع الكاتب)

 رواية عربيّة جديدة تُضاف إلى فنّ الديستوبيا أو أدب المدينة الفاسدة والواقع المرير غير المرغوب فيه، عن الكاتب والصحافيّ الجزائريّ سمير قسيمي الذي بات اليوم غنيّاً عن التعريف بفضل إصداراته الكثيرة في فنّ الرواية ومقالاته الثقافيّة الأسبوعيّة وترشّحه لعدد من الجوائز الأدبيّة العربيّة أكثرها حداثة البوكر العربيّة للعام 2020. وقد صدرت رواية قسيمي "سلالم ترولار" عن دار المتوسّط (إيطاليا، 2019) وهي لا تتخطّى المئة وستّين صفحة حجماً، إنّما تحاكي الواقع السياسيّ الجزائريّ بتعرّجاته وتشعّباته مضموناً.

يختار قسيمي الحائز شهادة في الحقوق والغارق في المشهد الثقافيّ العربيّ منذ سنوات أن يبدأ نصّه بمقولة رائعة للشاعر والكاتب والروائيّ الجزائريّ مالك حدّاد (1927-1978): "لا تطرق الباب بقوّة، فأنا غير موجود هنا". وتأتي هذه المقولة متواطئة مع مضمون الرواية وحبكتها التي تدور حول مدينة اعتاد أهلها الملل والفراغ والانصياع واعتاد أربابها الفساد والتحكّم والاستبداد. ليستيقظ الجميع فجأة ويجدوا أنّ الأبواب قد اختفت. أبواب المدينة ببيوتها وسجونها ودوائرها الرسميّة اختفت. فما دلالة هذا الاختفاء؟ ولماذا شاء قسيمي أن يخلط الأوراق ويمنع الخصوصيّة والدفء والأبواب عن شخصيّاته؟ وماذا عنى بمقولة حدّاد، فلمن يعود ضمير الأنا غير الموجود؟ أهو للشعب الغائب المغيّب الإرادة أم هو للكاتب العاجز عن تأدية دوره في المجتمع والذي لم يعتنق حرفة الكتابة تماماً؟ من هو الأنا الغائب الذي لا ضرورة لقرع بابه لأنّه لن يفتح؟

شخصيّات قبيحة

يبحث القارئ عبثاً عن بطل في هذه الرواية. فالشخصيّة التي يُفتتح السرد بها تنال نصيبها من الوصف القبيح القميء المحقّر. فجمال حميدي البوّاب، ما هو سوى رجل مقعد يرى بعين واحدة ومصاب بعجز جنسيّ وجسديّ. هذا عدا عن الوصف المهين الذي يرميه به قسيمي: "لم يكن وهو في السابعة عشرة من عمره، قد أدرك حقيقة أنّه مجرّد قزم بدين، لن يزداد طوله عمّا كان عليه حينها. ولم يكن يتصوّر بأنّ الشعر الذي بدأ يكسو ذقنه، سيمتدّ إلى وجنتيه ومنخاريه وأذنيه ورقبته وصدره وسائر جسده، حتّى صار المسخ الذي أصبح عليه الآن. كما لم تكن قد بدأت تصدر من جسده تلك الروائح الغريبة التي أحالته إلى ما يشبه خنزيراً وحشيّاً يسير على قدمين". (ص: 23-24)

وإلى جانب جمال حميدي الذي لا يحمل من الجمال سوى اسمه والذي يظنّه القارئ البطل للوهلة الأولى، تحضر شخصيّة الكاتب، صانع القصص الذي لا يجرؤ على التوقيع باسمه. كاتب صاحب موهبة متلاشية لم يكتب منذ سنوات. فحتّى شخصيّة الكاتب في النصّ تعجز عن الخلق والإبداع والتمرّد وتعجز عن التدخّل في المشهد الثقافيّ لتقبع في نوع من العجز البشريّ الإبداعيّ. كاتب قسيمي نفسه لا يؤدّي دوره ولا يلتزم بأصول مهنته.

أمّا الشخصيّة الثالثة المتحكّمة بسير الأمور كلّها أو ما يمكن تسميتها صانعة الزعماء فهي شخصيّة رجل لا يحمل اسماً ولا هويّة بل يضعه قسيمي ضمن خانة الصِغَر ويسمّيه طيلة السرد بـ "الرجل الضئيل". الرجل الذي يلعب دور محرّك المشهد السياسيّ في هذه المدينة، العالِم بالأمور كلّها من صغيرها إلى كبيرها، هو نفسه رجل ضئيل حجماً ووجوداً وحضوراً.

ومن هذه العيّنة من الشخصيّات، يظهر للقارئ أنّ ديستوبيا قسيمي متماسكة ماهرة، فالشخصيّات ناقصة لا هويّة لها وتخلو من أيّ جمال أو مثل عليا وقيم وأخلاق، لتتحوّل بذلك القباحة الشكليّة الجسديّة إلى انعكاس للقباحة الداخليّة البشريّة.

زوال صراع الطبقات

تعكس ديستوبيا قسيمي الواقع الجزائريّ والعربيّ بشكل عامّ. تلاعب إداريّ، فساد سياسيّ، عقم إبداعيّ، انصياع اجتماعيّ، وفراغ وملل وخنوع لا حدّ لها. عالم متخيَّل في أكثر صوره قتامةً، يقسم المجتمع إلى أرباب وشعب، طبقتين غير متساويتين في الحقوق ولا الواجبات ولا المهارات. يرسم قسيمي مجتمعاً يزول فيه الخطّ الفاصل بين الواقع والخيال لترتمي الحقيقة بين براثن السوداويّة والعقم فتخلق أسطورة ملعونة تنطبق على واقع لا يعرف الإنسان كيف يخرج منه.

ومخطئ من يرى في نصّ قسيمي شخصيّات كاريكاتوريّة مضحكة. إنّ وصف قسيمي إنّما هو محنّك رمزيّ ماهر، يجعل للناس الخانعين بطوناً كبيرة ورؤوساً صغيرة على عكس طبقة الأرباب الحاكمين، فيقول: "لأنّهم كانوا مواطنين بلا رأس، ممّن ابتكرتهم الحكومة حديثاً، بحيث كانت بطونهم تحتلّ أكبر مساحة من أجسادهم". (ص: 63) كما أنّ المدينة نفسها تصبح بوصف رائع متهكّم أرض اللاتفكير واللانقد: "في بلد يستلذّ بالجلوس على حجر الحماقة". (ص: 68).

تشابيه واستعارات وإيحاءات كثيرة، فظّة وغير متوقّعة في معظم الأحيان، تسلّط الضوء على شعب لم يعد يحاسب أو يحاكم وخسر قدرته على المراقبة والنقد والتفكير، شعب اعتاد الانصياع للأمور ببساطة من دون سؤال أو اعتراض. ليزول صراع الطبقات المعروف تاريخيّاً ويحلّ محلّه انهزام طبقة المحكومين أمام طبقة قويّة جبّارة، وذلك كلّه في إطار واقع مؤلم خانق موجع، فالأرباب يحكمون بقبضة من حديد ويتحكّمون بالمصائر بينما اللامرئيّون أو التابعون ينقادون من دون اعتراض أو قدرة على الانتقاد.

لغة غدّارة

يقع القارئ في فخّ لغة قسيمي السهلة ظاهراً الساخرة باطناً. وكأنّ الكاتب يضع قارئه في خانة شخصيّاته العاجزة عن النقد والاعتراض، فيروح يتحكّم بنصّه ويُمعن في العبثيّة والخيال وهو عالم بأنّ أحداً لن يقدر على القيام عليه، فيقول في بداية نصّه: "لسبب لن يشرحه الكاتب طوال هذه القصّة، ولن يحاول التمهيد له، اكتشف جمال حميدي بمجرّد ضغطه على زرّ الإضاءة أنّ نافذة غرفة نومه وبابها اختفيا". (ص: 21). يتصرّف قسيمي بحرّيّة تامّة في نصّه وكأنّه بلا حسيب ولا رقيب. يُزيل أبواباً، يخلق شخصيّات، يعود آلاف السنين إلى الوراء، يقفز إلى الحاضر، يخلق أساطير، يربط المصائر، يخلق أمكنة، يعيد الأبواب ثانيةً، يلملم السرد وينهيه بما يناسبه، بينما قارئه متفرّج عاجز لا حول له ولا قوّة.

بالإضافة إلى قدرة قسيمي القويّة الطاحنة، تظهر سخريته في مواضع أخرى، سخرية هي صدى لمآزق واقع لا بدّ يؤرّق قسيمي ويصيبه في حبّه للأدب فيقول في أحد المواضع من دون مدارات لرأيه وحكمه الصريح: "لوثة غريبة أصابت ذائقة الناس في ذلك الزمن، بحيث صارت كلّ محمحة أو أحأحة قصيدة شعر رائعة". (ص: 25)

"سلالم ترولار" رواية تجبر القارئ على الركض خلفها ليمسك بمعانيها ومكامن التهكّم فيها. فلا يعبأ قسيمي حتّى بإخفاء عنجهيّته الأدبيّة وسخريته ومعرفته بأنّه المتحكّم بالأمور وحده. نصّ ديستوبيّ قاتم يمنح الرواية العربيّة دفعاً هائلاً نحو التجريبيّة بلغة مكتوبة بعفويّة غدّارة وسخرية فذّة ويتناول واقعاً هو للأسف نحو المزيد من التدهور.

المزيد من ثقافة