يدان مجعدتان وشعر شائب، مرّ عليهما كثير من الحروب والنكسات، وإبتسامة عريضة لا تفارق محياه. هي ملامح الحاج التسعيني هاني ريحان من مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، الذي يعمل حتى اليوم في صناعة البلاط اليدوي الملون، والمعروف "بالبلاط الشامي".
وكما يتفنن الرسام بلوحاته والوانه، يحترف ريحان فن هذه الصناعة التقليدية القديمة، ويحفظ عن ظهر قلب نحو 500 زخرفة عربية إسماً وشكلاً، فهو يمارس هذه الحرفة منذ 73 سنة، ويتمتع بسرعة لافتة في الإنجاز.
رحلة فن
يقول الحاج الذي يعتبر أحد حراس البلاط اليدوي "الشامي" في حديث لـ "انبدبنت عربية"، "منذ أن كان عمري 17 سنة وأنا أعمل في صب البلاط اليدوي، وكنت من أوائل الناس الذين احترفوا في أربعينيات القرن الماضي هذا النوع من المهن التي تحتاج الى الذوق والدقة والسرعة في آن واحد، أعشق هذا العمل لما فيه من تراث وعراقة وفن".
ويضيف "مع انتشار البلاط الحديث والمزركش والرخيص، قلّ الطلب كثيراً على هذا النوع من البلاط، ورغم ذلك أستمر في الحفاظ عليه وصنعه، لأنه ينعش قلبي وروحي التي شارفت على الرحيل".
الوحيد في الشرق الاوسط
مصنع أصلان للبلاط اليدوي الملون في مدينة نابلس، هو آخر معقل لتلك الصناعة التقليدية في الشرق الأوسط، تأسس عام 1913، حيث كان الجد الأكبر للعائلة يعمل بالمهنة في عكا (مدينة فلسطينية داخل فلسطين المحتلة 1948)، حينها كانت فلسطين والأردن ولبنان وسوريا تعرف ببلاد الشام، وقبل أن تقع نكبة الفلسطينيين عام 1948، نقل المصنع الى مدينة نابلس وبقي فيها حتى اليوم.
في المقابل، يقول عنان أصلان أحد أصحاب المصنع، "منذ أكثر من قرن والعائلة تتمسك بهذه الصناعة، لأنها تشكل رمزاً للتراث الثقافي الفلسطيني العريق، فهو يجسد هويتنا المعمارية في البيوت والقصور القديمة، حيث كانت كل المنازل آنذاك تستخدم هذا النوع من البلاط المعروف بالشامي، وأنا من الجيل الرابع للعائلة، ورغم أن هذه الصناعة تواجه خطر الإنقراض، الا أنها باتت إرثاً ثقافياً في عائلتنا، نتناقله من جيل الى آخر".
بلاطة بلاطة
سنوات طويلة مرت على هذه الصناعة التقليدية، ومع ذلك فإن علاقتها بالحداثة غير فعالية، إذ تُبتكر بالطريقة والمكونات ذاتها، مع اختلاف بسيط في مدة التصنيع ليس أكثر، بفضل مكابس الكهرباء بدلاً من تلك اليدوية القديمة، إذ يوضع القالب النحاسي المزخرف أولاً على سطح أملس لتصب الألوان بحسب الطلب، ويرش فوقها خليط من الحجر والاسمنت الناعم المطحون، ومن ثم تُضغط البلاطة تحت مكبس كهربائي لدقائق، وبعد إخراجها تترك لـ 24 ساعة، قبل ان توضع مجدداً في الماء لـ 24 ساعة أخرى، وتصبح جاهزة للبيع.
ويشرح عنان، "المواد الخام بسيطة ومتوفرة محلياً لأن فلسطين مشهور بجودة الحجر وتنوعه وصلابته، وطريقة التصنيع سهلة وسلسة، لكنها تحتاج وقتاً وجهداً، فنحن نجهز بلاطة بلاطة يدوياً بحجم واحد، والقوالب التي تستخدم يفوق عمرها 100 عام، ولكل زخرفة اسم، فهناك القدسية التي تزين منازل مدينة القدس، والسجادة الشامية المعروفة برسمة البيوت الدمشقية، والبيروتية كذلك الأمر، والزنبقة والبطيخة، وباب الجامع كونها الأكثر استخداماً في البناء المعماري للمساجد".
ويضيف "ولهذا يعتبر البلاط اليدوي الملون في الوقت الحاضر باهظ الثمن مقارنة بالبلاط الحديث كالبورسلان والكراميكا، 70 بالمئة من البلاط الذي نصنعه نبيعه إلى فلسطينيّين داخل أراضي 1948 لترميم البيوت القديمة، و29 في المئة يباع في الضفة الغربية لترميم القصور والمنازل القديمة لحفظ التراث، ولا نُصدر أكثر من 1 في المئة إلى الخارج".
حكومة لا تحمي التراث
يقف المصنع الأخير للبلاط اليدوي في الشرق الاوسط، على حافة الإنهيار بسبب ممارسات الحكومة الفلسطينية التي تشترط على أصحابه اجراءات معقدة لتصديره الى الخارج، غير مكترثة بأهمية هذه الصناعة وندرتها، ومع كل ذلك يلهث التجار الإسرائليون وراء جلب المصنع الفلسطيني الى داخل إسرائيل مقابل حوافز مادية ومعنوية كبيرة.
ويوضح عنان لـ "اندبدنت عربية"، "تمت مراسلتنا من قبل مهتمين في دول عدة في الإتحاد الاوروبي والولايات المتحدة لتصدير البلاط اليدوي الملون، فهم يعتبرونه فناً راقياً يُزين القصور والمنازل الفارهة، لكننا نواجه صعوبة بالغة في التصدير مع وزارة الاقتصاد الفلسطينية، التي تشترط علينا تجديد الأوراق الثبوتيه للمصنع من أصحاب الأرض القائم عليها، لكنهم ماتوا جميعاً منذ سنوات طويلة".
ويضيف "وبسبب عدم قدرتنا على جلب تلك الأوراق لصعوبة الوصول الى الورثة، نحرم من التصدير الى الخارج، ليعرض علينا فيما بعد فرص إسرائيلية مغرية لنقل المصنع من نابلس الى تل ابيب وتقديم جنسيات واقامات لنا في داخل اسرائيل، مقابل أن يتم التصنيع بالطريقة ذاتها تحت اسم" صنع في اسرائيل"، وهذا أمر غير مقبول جملةً وتفصيلاً بالنسبة الينا كعائلة توارثت هذه الصناعة منذ عام 1913، فالبلاط اليدوي العربي الملون لن ولم يكن يوماً إسرائيليا، فكيف سيصدر الى دول العالم على انه اسرائيلي!".