أخيراً استقال الدكتور إياد علاوي، رئيس ائتلاف القائمة الوطنية في مجلس النواب العراقي، مودعاً أكثر من خمسين سنة من العمل السياسي في العراق وخارجه، بعد أن أدرك أن قواعد اللعبة السياسية قد تغيرت بالكامل والقرار لن يأتي هذه المرة من فاعلين سياسيين عراقيين، بل من خلف الحدود تنفذه أجندات تخلط أوراق العمل السياسي النوعي في لعبة الديموقراطية العراقية المقحمة على مجتمع لم يكن مستعداً لها كلياً، والطموحات المخالفة لها بتأسيس مشروع الأحزاب الدينية التي حولت العراق إلى حديقة خلفية لإيران.
من النظام الشمولي إلى الديموقراطية
فالانتقال المفاجئ من مجتمع يرزح تحت نظام يعتمد أسلوب الحزب الواحد يحكم السيطرة على الشعب ويقوده لحروب طويلة منهكة لقدراته إلى نظام ديموقراطي مستحدث تتحكم به قوى متناقضة وغير موحدة، من توجهات الدكتور علاوي والجلبي وعدد من العلمانيين السنة، وصولا ً إلى سطوة رجال الدين والأحزاب الطائفية المدعومة من إيران التي تمثل العمائم بألوانها المختلفة، وطبعاً لا مكان (للأفندنية) الليبراليين الذين أشركهم بول بريمر الحاكم المدني الأميركي في العملية السياسية، ليفصّلهم على قياسات العهد العراقي الجديد في العراق عنوة!.
وهم العلمانيين في العهد الجديد
علاوي ورهط من السياسيين العراقيين الليبراليين يؤمنون أن العلمانية والدولة المدنية في العراق ما زال لها صوت الأغلبية، معتمدين في ذلك على طبيعة المجتمع العراقي الذي عرفوه في مجتمع السبعينيات والثمانينيات حتى التسعينيات، ومن ثم غابوا عنه طويلا أيام انخراطهم في المعارضة لنظام صدام حسين.
"المدنية" ذاتها التي قادتهم إلى الفوز بـ(92) صوتاً عام 2010 تمثل الأغلبية لقائمة الوطنية بزعامة الدكتور إياد علاوي (عندما تظافرت كل القوى العراقية في الداخل والخارج)، هذا الفوز الذي تعطلّ لاحقاً وتغيرت مناسيب تأثيره بعد شروع الإسلاميين الشيعة بتأسيس الائتلاف الديني الموحد في انتخابات العام ذاته، فلم يسمحوا لعلاوي ومناصريه بتشكيل الحكومة لاحقاً، فالقوى الشيعية تحالفت مع الكرد وقتها وقدمت لهم المزيد من التنازلات، بل فرضت قرارها من خلال المحكمة الدستورية العليا التي أرتأت بأن الكتلة الأكبر ليست الفائزة بعدد الأصوات في البرلمان!. وهي سابقة غير مقنعة للأوساط السياسية، حتى أن البلد قد انقسمت وكادت الحرب الأهلية أن تشتعل، لكنها في المحصلة أقصت قائمة الوطنية بزعامة الدكتور علاوي الفائزة التي تتفوق بثلاثة أصوات عن القائمة التي تليها، ورجحت خصمه العنيد نوري كامل المالكي للفوز بتشكيل الحكومة وسط عزوف أميركي عن ترشيحه لأسباب نجهلها حتى اليوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
علاوي بين السلطة والمعارضة
ظل علاوي في خندق المعارضة المتأرجحة بين رفض ما حدث له ولنوابه الـ92، الذين توزعوا على الكتل الأخرى فيما بعد، وضاعت أصواتهم بين الكتل الشيعية والسنية معاً، وبين رغبة الشراكة في الحكم وأخذ حصتهم في التمثيل الوزاري. واللافت أن العديد من نواب الوطنية أغرتهم السلطة وتحركوا وفق مصالحهم الخاصة والمنافع التي منحت لهم في عهد المالكي اللاعب الأمهر في ضرب الكتل ببعضها الذي صاغ السياسة العراقية وفق رؤية حزبه الإسلامي (الدعوة)، هذا الأخير هو نسخة شيعية من تنظيم الإخوان المسلمين، حيث يستقيان أفكارهما من سيد قطب ومنهجيته العقائدية، كما أكد لي إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء الأسبق حين سألته عن مشتركات الدعوة والإخوان، وكان يومها زعيم الدعوة وأمينها قبيل أن يزيحه المالكي عن المشهد السياسي بالكامل.
مؤسستان في مواجهة إياد علاوي
عناد علاوي وإصراره على فرض مشروع الدولة المدنية وتكريس آلياتها خلال 16 سنة اصطدم بمؤسستين ضاغطتين عليه وعلى تياره المدني العلماني الذي يرفض بشده تفرد السلطة الدينية (الثيوقراطية) بحكم العراق ووضع مقدراته البشرية والسياسية وموارده في خدمة مشروعات الأحزاب الدينية في العراق والمنطقة. لم تستسغه المؤسسة المرجعية برغم إدراكها بأنه لا يتناقض مذهبياً معها فهي تسعى لتثبيت سلطة وحكم الشيعة السياسية للعراق بإقناع الأغلبية الشيعية التي تفوق الـ60% من المجتمع العراقي، وهي تمارس الإقناع وتوسيع منافذ الحوار مع الطائفة ورعايتها التي لم تسمح لعلاوي وسواه تولي الإدارة التنفيذية للبلاد، وفقما أكده لي علاوي شخصياً في حواري معه في بغداد.
المؤسسة الثانية هي المؤسسة الإيرانية بفيالقها المختصمة معه تبعاً لخلفيته القومية، وهي تجد في العراق منفذاً وبوابة لمشروع تصدير الثورة وتحكّم الحرس الثوري وسياساته بالضغط على العراقيين لقبول سياسية المقاومة بانخراط الألوية والفصائل العراقية في سلك الحرس. هذه المؤسسة صارت قطعاً خصماً عنيداً لتطويق المشروع المدني الوطني العراقي وتقويضه بخطاب شيعي مغالٍ أو حتى اللجوء للقوة إن تطلب الأمر. ناهيك عن تأمين المنافع التي ترد من العراق والتي لا يمكن تمريرها من دون إحكام قبضتها على السلطة التنفيذية التي تتصرف بالأموال والميزانيات.
المناهض لسياسة الاجتثاث
كان تيار علاوي أول المستهدَفين في تلك السياسة لكونه رفض سياسة الإقصاء والاجتثاث، وآمن بضرورة استيعاب كل القوى العراقية وأن يكون للقضاء الكلمة الفصل في محاكمة الفاعلين في مراحل سابقة.
علاوي أبدلَ قانون اجتثاث البعث إلى المساءلة والعدالة، ولكن بعد فوات الأوان ما اضطر ملايين العراقيين إلى الهجرة القسرية بينهم آلاف الكفاءات العراقية وإفراغ الدولة من كوادرها الوطنية بشكل لافت ومؤذي، هذه السياسة التي نفذت بأجندة مكشوفة تسببت باستعداء النظام الجديد الذي لم يحسن أو يؤمن بالمصالحة الوطنية رغم استحداث وزارة خاصة لها.
انتخابات بمخرجات عاطلة
الدكتور علاوي، الطبيب البغدادي الشيعي العلماني، الذي ينادي بدولة مدنية ظل ناقداً لسياسة الحكومات الدينية المتعاقبة منذ 2010 حتى اليوم، فهي بنظره ونظر الكثيرين سلكت طريق الغاية تبرر الوسيلة، وعملت على تزوير نتائج الانتخابات، كما تمادت في تزوير انتخابات عام 2018 باعتراف أطراف عديدة. علاوي ضمنّ ذلك في معرض استقالته التي وجهها إلى رئيس مجلس النواب وأعضاء المجلس أن مبررات استقالته "تأتي منسجمة مع مطالباته المتكررة بعدم الاعتراف بمخرجات انتخابات عام 2018 والشبهات التي رافقتها والمقاطعة الشعبية الواسعة التي شهدتها وما رافقها من تزوير وتلاعب مازلنا ندفع ثمن تداعياته"، على حد قوله.
فشل البرلمان في فهم الحراك الشعبي
علاوي كشف لمجلس النواب الحقائق التي توصل إليها التي قادته للاستقالة بعد مرور مئة يوم من انطلاق الحراك الشعبي المُطالب بالإصلاح الجذري، يقول علاوي "لقد فشل المجلس في متابعة وحسم ملف النازحين واللاجئين وإعادة إعمار العراق ومحافظاته المنكوبة وفشله في إنهاء الأزمة بين بغداد وأربيل ومحافظات أخرى من منطلق وحدة وسلامة العراق، والفشل في إصدار قوانين مهمة نص عليها الدستور، مثل قانون النفط والغاز وتوزيع الموارد المالية والمجلس الاتحادي والمحكمة الاتحادية). ويجد الدكتور علاوي إن كل هذه الإخفاقات هي في صلب مسؤولية مجلس النواب الذي وضع مهمته التشريعية على الرف وأقحم نفسه في قضايا تنفيذية ليست من مهامه كما يقول علاوي في تصريحات متكررة للإعلام.
الاستقالة إدانة للاغتيالات السياسية
من جهة ثانية سوغّ علاوي استقالته نتيجه ما وصفه بـ"صمت المجلس المطبق إزاء تصاعد حملات الاغتيالات اليومية الممنهجة التي يتعرض لها الناشطون والصحافيون واستشهاد ما يقرب من 600 مواطن من المتظاهرين السلميين وإصابة عشرات الآلاف، وهو يعطي مؤشراً على ضعف الأداء الحكومي والنيابي الرقابي، فلم يكوّن خريطة طريق بخصوص صراع النفوذ والحرب التي تدور على الأراضي العراقية على حساب سلامة أرواح الشعب"، على حد قوله.
فشل في معالجة الأزمات
انتقد الدكتور إياد علاوي فشل مجلس النواب على مدى أكثر من أربعين يوماً بعد استقالة رئيس الوزراء في إيجاد بديل وطني يلبي تطلعات الحراك الشعبي ويحقق الإصلاح من خلال تشكيل حكومة مؤقتة تقود إلى الخلاص.
مؤكداً "استمرار هيمنة المحاصصة الطائفية السياسية وسياسات التهميش والإقصاء والاجتثاث وتفكيك مؤسسات الدولة المهمة من خلال مبادئ المحاصصة المتبعة حالياً أضافة إلى عدم تشكيل قيادة مشتركة للقوات المسلحة العراقية ، الذي أدى إلى تعدد المرجعيات والقيادات".