Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السد العالي... ذكريات "ملحمية" تتجدد في حفل مدرسي

شيّده 47 ألف مصري وأعاد إليهم الثقة بأنفسهم وقدراتهم...وأغنيات المطربين خلّدت المشروع

وصفت المفوضية الدولية السد العالي بمشروع القرن (أ.ف.ب)

بين الشتاءِ والصيفِ تواريخ فارقة وحكايات تشكّل ذاكرة المصريين، شتاءُ العام 1960 قارس البرودة تحوّل إلى فصلٍ من المشاعر المشتعلة بفرحةٍ عارمةٍ عمَّت أرجاء كل نجع وحارة في مصر.

اليوم 9 يناير (كانون الثاني) العام 1960، والمناسبة وضع حجر الأساس لمشروع مصر القومي الذي لم يكن فقط الخُطوة الأولى فقط لبناء السد العالي، والمُلقب مصرياً بالأعظم في التاريخ، بل اللبنة الأقوى في استعادة ثقة المصريين بأنفسهم وقدراتهم.

وفي صيف العام 1970، اكتمل بناء الحلم وأصبح لمصر سدٌّ هو أحد أعظم عشرة مشروعات هندسية نُفّذت في القرن العشرين، وذلك حسب المفوضية الدولية للسدود، التي لقّبته بـ"مشروع القرن".

مشروع القرن
السد العالي يطل اليوم برأسه وجسمه وقصته التي ما زالت تدغدغ ذكريات من عاصر ملحمة البناء، وتداعب مخيلة من سمع عنه أو ذاكر قصة بنائه أو مرّ ولو مرور الكرام في محيطه.

محيط السد لو قُدر له أن يحكي لقال "سبحان مغير الأحوال ومقلبها، وسبحان من له الدوام"، كل تفصيلة من تفاصيل السد العالي الواقع بمدينة أسوان المصرية في صعيد مصر تحكي قصة، وترمز إلى معنى وتكشف فكرة.

 

وحسب الوثائق الموجودة في مجلس الوزراء المصري، ظهرت فكرة بناء السد للمرة الأولى في أواخر أربعينيات القرن الماضي، وذلك حين فكَّر مهندس زراعي مصري من أصل يوناني اسمه أدريان دانينوس في إنشاء سد لتخزين مياه النيل بديلاً عن التخزين الموسمي أمام سد أسوان القديم، إلا أن فكرته لم تلقَ قبولاً من القائمين على أمر وزارة الأشغال العمومية آنذاك.

وعقب ثورة يوليو (تموز) العام 1952، عاودت الفكرة الظهور، هذه المرة أبدت القيادة المصرية قبولاً للفكرة، وكلَّفت مجموعة من الخبراء بدراستها، وصدر التقرير المُنتظر في ديسمبر (كانون الأول) عام 1954 لتؤكد صلاحيته فنياً واقتصادياً.

مُلخص الدراسة أشار إلى أن السد المُقترح "سيكون قادراً على حماية مصر من خطر الجفاف والفيضانات العاتية، مع ضمان الإبقاء على كميات ثابتة من مياه النيل سنوياً"، وهو ما يسمح بالتوسع الزراعي ويوفر الطاقة الكهربائية، وكلتاهما من ركائز التنمية الزراعية والصناعية.

إرث ناصر
لكن، الدراسة الصادرة حينئذ لم تشر إلى حاجة المصريين الماسة إلى شيء ما يحفّزهم أو يحمّسهم أو يضعهم في طريق التحديات التي عادة تشعل حماسة الشعوب، وكان لهم ما أرادوا! فقد صالت مصر وجالت بحثاً عن مخرج من أزمة التمويل.

يقول المهندس سليمان الشاعر (مهندس متقاعد) الذي يفاخر بما تحمله غرفة مكتبه من "إرث ناصر"، "السد وما يمثله نفسياً يعد المشروع الأعظم في تاريخ مصر"، مضيفاً "ما يفعله الرئيس عبد الفتاح السيسي حالياً من مشروعات كبرى وعظمى ربما تنافس السد العالي في هذه العظمة، مع فرق الزمن".

يمدّ الشاعر يده إلى شريط كاسيت عتيق مُثبّت في عناية بالمكتبة، ويضعه في جهاز تشغيل أكثر عتاقة، لينطلق الصوت الرخيم الذي عشقه المصريون. "السد العالي رمز لمعان كبيرة. رمز لإعادة صنع الحياة على الأرض العربية (تصفيق حاد وصراخ وتهليل)، رمز للنضال المادي، رمز للنضال المعنوي، رمز للقضاء على الاستعمار (تصفيق حاد وصراخ وتهليل)، رمز للتصميم. أردنا أن نبني السد العالي، وأردنا أن نستعين بالخبرة الأجنبية الأميركية والإنجليزية، لكن الأميركان والإنجليز في سنة 56 أعلنوا رفضهم العمل من أجل بناء السد العالي (صراخ غاضب)، لكن التصميم مكنا من أن نبني السد العالي (تصفيق حاد وصراخ وتهليل).. ومكنا من أن نقف اليوم هنا على مشارف السد العالي، ونراه وهو يرتفع. إننا بهذا استطعنا أن نضع إرادتنا موضع التنفيذ (تصفيق متناهي وصراخ متعالي وتهليل رهيب)".

تترقرق الدموع في عيني المهندس سليمان الشاعر، ويسهب في التغني بمآثر وسد عالي ناصر.

عم أبو خالد جاي يزورنا
يخرج الشريط الذي يحمل مقتطفات من خُطب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ويضع شريطاً آخر لتنطلق هذه المرة الراحلة شادية تشدو أغنية قلما تبث في الإذاعة، "عدى شوية العمال هتفوا، يوم الإتنين بكرة يا جدعان، عم أبو خالد جاي يزورنا، ويبارك أكبر خزان، قرب جنبي أبو نار قايدة، قال يا حبيبي هنا في غلطة، بكرة مش الإتنين يا حبيبي، بكرة اسمه يوم الأحد، ردّ عليه جدع أسمر عترة قال يا خواجة دي بلد السد، بص يمينك عرق العافية، شوف إزاي بينقط صهد، بص شمالك شوف ضوافيرنا، في الجرانيت لها برق ورعد، هنا أهوه الوقت بيسبق روحه، والبنا ماشي قبل الهد، علشان كده قربنا وجبنا، يوم الإتنين قبل يوم الأحد".

 

كلمات الأغنية التي تقول الكثير عن روح التحدي وفرحة الانتصار على المعضلات تكشف التاريخ الذي لا يعرفه كثيرون.

تشير الوثائق المصرية إلى أن المعضلات تواترت لعرقلة تنفيذ المشروع، وفي مقدمتها توفير التمويل اللازم. المحاولة الأولى كانت مع البنك الدولي الذي أجرى دراسات مستفيضة واستطلاعات متعمقة.

وفي ديسمبر (كانون الأول) عام 1955 تقدّم البنك بعرض أغضب المصريين، قال مسؤولوه إن البنك "مستعد لسداد ربع تكلفة البناء"، وفي 19 يوليو (تموز)، أذعن البنك للضغوط الاستعمارية وسحب العرض المقدم، فما كان من الرئيس الراحل إلا أن أعلن تأميم الشركة العالمية لقناة السويس لتصبح "شركة مساهمة مصرية"، وذلك في خطاب آخر استمع إليه المهندس سليمان الشاعر حتى آخر كلمة.

القضاء على الماضي
"لن نكرر الماضي أبداً، لكن سنقضي على الماضي، سنقضي على الماضي بأن نستعيد حقوقنا في قنال السويس. هذه الأموال أموالنا، هذه القنال ملك لمصر، لأنها شركة مساهمة مصرية. حفرت قنال السويس بواسطة أبناء مصر. 120 ألف مصري ماتوا أثناء حفرها... التاريخ لن يعيد نفسه، بل بالعكس سنبني السد العالي. سنبني السد العالي كما نريد... ولهذا.. لهذا.. إننا اليوم أيها المواطنون حينما نبني السد العالي نبني أيضاً سد العزة والحرية والكرامة، ونقضي على سدود الذل والهوان".

واستمرت سدود الذل في الانهيار بإصرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على البناء، ووقعت اتفاقية مع الاتحاد السوفييتي (روسيا حالياً) حصلت مصر بموجبها على 400 مليون روبل لتنفيذ المرحلة الأولى من الحفر والبناء.

وفي مايو (أيار) عام 1959، راجع الخبراء السوفييت تصميمات السد، واقترحوا بعض التغييرات، وأبرزها تغيير موقع محطة القوى، واستخدام تقنية خاصة في غسل وضم الرمال عند استخدامها في بناء جسم السد.

وفي 27 أغسطس (آب) عام 1960، وقعت الاتفاقية الثانية بين البلدين لإقراض مصر 500 مليون روبل إضافية لتمويل المرحلة الثانية من البناء، وبلغت تكلفة البناء نحو 450 مليون جنيه مصري.

مسيرة شد وجذب
تأريخ مسيرة الشد والجذب، ووضع العراقيل وإزالتها، ومراحل البناء، وفرحة الافتتاح جرى على قدم وساق على مدار السنوات العشر الفاصلة بين الإعلان الرسمي عن المشروع والافتتاح.

 

حفل أضواء المدينة الدوري تقرر إقامته في أسوان يوم 9 يناير (كانون الثاني) عام 1960، وحضره الرئيس الراحل عبد الناصر، وفيه شدا العندليب عبد الحليم حافظ برائعته "حكاية شعب"، وأعاد غناءها بالعام التالي في بورسعيد أثناء الاحتفال بعيد النصر في 23 ديسمبر (كانون الأول) عام 1961.

"قلنا حنبني وآدي إحنا بنينا السد العالي، يا استعمار بنيناه بإيدينا، السد العالي من أموالنا، بإيد عمالنا، هي الكلمة، وآدي إحنا بنينا... الحكاية مش حكاية السد، حكاية الكفاح اللي ورا السد... هي حكاية حرب وثار بينا وبين الاستعمار".

كان حلماً فخاطراً
وسبقته كوكب الشرق أم كلثوم بـ"قصة السد العالي" في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1959 في حفلة حضرها الرئيس الراحل عبد الناصر أيضاً. تقول كلماتها: "كان حلماً فخاطراً فاحتمالاً، ثم أضحى حقيقة لا خيالاً. عمل من روائع العقل جئناه بعلم ولم نجئه ارتجالاً، إنه السد فراقبوا مولد السد، وباهوا بيومه الأجيال. ويبقى النهر نزوة المسرف يلهو فينثر الأموال، حقق المعجزات عزم جمال فاحمدوا الله أن حباكم جمالا.. حين ألوى بعهدة مقرض المل، وحاد الصديق عنا ومالا".

"ساعة الجد" غنّاها موسيقار الأجيال الراحل محمد عبد الوهاب في الإذاعة المصرية في عام 1960. "اليوم ده يومنا وله معنى كبير في قلوبنا، علشانه جاهدنا وكتبنا تاريخنا بإيدنا، عزم إيدينا كان في جبال تحت المية في أرض قنال، لما نطقها وقالها جمال جبنا إيدينا يقيموا السد ساعة الجد".

وتواترت الأغنيات التي تغني بها عتاولة الغناء ومعهم بقية الشعب الذي كان في أوج حماسه طيلة سنوات الإجراءات والبناء العشر. الراحل فريد الأطرش قدم أغنية "يا أسطى سيد" المحفزة للعامل المصري على البناء والتشييد، ومحمد قنديل غنّى "حديد أسوان"، ومحمد عبد المطلب شدا "على أسوان يا ريس"، ومحرم فؤاد "هنا في مكان السد"، وغنّت هدى سلطان "طول ما أنت معانا يا ريس"، وغيرهم كثيرون.

المشاعر الوطنية
وظلت أغاني السد تتردد من كل بيت في مصر دون إملاءات أو توجيهات، باستثناء إملاء المشاعر الوطنية الخالصة، وكانت الإذاعة وقتها صاحبة اليد العليا في مجال الإعلام والترفيه، حتى إن حفل الافتتاح يتذكره من عاصروه بفضل الإذاعة.

تقول آمال ثروت (معلمة متقاعدة)، إن "أجواء الخمسينيات والستينيات المحفزة البناء واسترداد الكرامة بفعل السد العالي ما زالت تتذكرها وتثير القشعريرة في جسدها".

وتضيف، "كنا نحفظ كلمات أغنيات شادية وفريد الأطرش وأم كلثوم عن السد عن ظهر قلب. وأتذكر جيداً حين ذهبت ضمن رحلة إلى منطقة بناء السد العالي في أواخر الستينيات قبل افتتاحه، وكيف أن السائق الذي كان يقلنا من وإلى الفندق يحكي لنا عن بطولات المهندسين والعمال المصريين أثناء البناء، التي كانت عملية بالغة الصعوبة والمشقة، لدرجة أن البعض منهم استشهد".

شهداء البناء
استخدم المصريون لقب "شهيد" للإشارة إلى من قضوا أثناء عملية البناء، واستقبلوا الافتتاح بفرحة عارمة، واعتبروا السد العالي علامة فارقة في مسيرتهم بعد ثورة يوليو (تموز) 1952 جاءت لتثبت أنهم يستطيعون.

الروائي والكاتب المصري صنع الله إبراهيم أرّخ مجريات وتفاصيل ولقطات بناء السد روائياً في عمل فريد من نوعه بعنوان "نجمة أغسطس"، الصفحة الأولى من الكتاب تحوي هذه الكلمات للرسّام العالمي مايكل أنجلو "لا تخطر فكرة للفنان مهما كانت عظمته وليس لها وجود في قشرة الصخر. وكل ما تستطيعه اليد التي تخدم العقل هو أن تفك سحر الرخام"، وأهداها صنع الله إبراهيم إلى "الشهيد" شهدي عطية الشافعي في رسالة سياسية جديدة.

 

صنع الله إبراهيم من أصحاب التوجهات اليسارية، وسُجن لما يزيد على خمس سنوات بين عامي 1959 و1964، وذلك ضمن حملة شنّها الرئيس عبد الناصر ضد التيار اليساري. أمَّا الراحل شهدي عطية الشافعي، فهو أحد رموز التيار الشيوعي بمصر في الخمسينيات والستينيات، الذي أيد ثورة 1952، ورغم ذلك لقي حتفه متأثراً بالتعذيب في أحد السجون عام 1960.

الغريب أن صنع الله إبراهيم كان الشخص الذي سجّل ملحمة بناء السد في هذه الرواية الفريدة، سواء لملابساتها السياسية أو لقدرتها على تأريخ هذا العمل الوطني في إطار أدبي بليغ.

الأعظم بعد الأهرامات
وأبلغ ما يلخص قيمة السد العالي السياسية قبل الاقتصادية أو حتى الهندسية هو المقال الذي نشر في "نيويورك تايمز" الأميركية في 22 يوليو (تموز) عام 1970 تحت عنوان خبري "مصر تكمل بناء السد العالي".

جاء في المقال أنه بينما المقاتلات الإسرائيلية لا تزال تحوم فوق قناة السويس، فإن حدثاً آخر ذا قيمة استراتيجية أكبر كان يجري على بعدد 400 ميل على نهر النيل. ففي احتفالية، اُستثنى الغربيون من حضورها، "احتفل المسؤولون المصريون والسوفييت بتشغيل واحدة من الـ12 محركاً توربينياً في السد العالي بأسوان".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ووصفت الجريدة الأميركية العمل بأنه "أعظم بناء هندسي منذ الأهرامات"، وأن قرار بناء السد أجج حرباً، وربما يؤدي اكتمال عملية البناء إلى "إشعال حرب أخرى".

قصة السد الذي شارك في بنائه بمرحلته الأولى نحو 33 ألف مصري، ومرحلته الثانية نحو 14 ألفاً، إضافة إلى 400 خبير روسي  جديرة بالتدريس في كليات السياسة، حيث القوى العظمى تتنحار عبر دول الكوكب، ودول الكوكب الذكية تصارع من أجل البقاء بل والازدهار، وفي كليات الهندسة حيث الخبراء يشهدون بتفرد البناء والتصميم، وفي كليات علم النفس يلقب السد بالمشروع الذي عالج نفسية ملايين المصريين، وما زال في ذكرى إعلان بدء إنشائه الستين، وعيد إتمام بنائه الخمسين، إذ يتزامن التاريخان في شهر يناير (كانون الثاني) من كل عام بفارق عشر سنوات.

هذه السنوات الكثيرة لم تمنع شدو الأولاد والبنات في حفل منتصف العام بإحدى المدارس في القاهرة بكل حماسة وسعادة بـ"قولنا هنبني وآدي إحنا بنينا السد العالي".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات