Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الاميركي فيليب روث روائي ما بعد الحداثة… وفنان السرد الموسوعي

من يقرأ رواية "حكاية أميركية" لا بدّ من أن تلفته ظواهر عدّة فيها صنعت تمايزها وارتقت به إلى مرتبة الرائعة الأدبية

الروائي الاميركي الراحل فيليب روث (أ.ف.ب)

من حصاد الروايات الأجنبية المترجمة إلى العربية، رواية للكاتب الأميركي فيليب روث (1933-2018)، عنوانها "حكاية أميركية"، نقلها إلى العربية المترجم حارث النبهان، بأسلوب بليغ، وصدرت عن دار التنوير. ولا تنفرد الرواية بكونها ضخمة نسبياً (525 صفحة)، بل إنها تمتاز بكونها تعالج واحدةً من أهمّ المشكلات التي تعانيها المجتمعات الأميركية، ولا سيما تلك التي لم تقوَ على الصمود في وجه نزعة التفتيت، بل التذرّر الفردي التي دأبت حضارة الرفاه الأميركي على إحداثه في الجماعات والعائلات التي وفدت إلى أميركا الشمالية من كلّ حدب وصوب، ومن هذه الجماعات، العائلات اليهودية التي قدِمت من السويد أواخر القرن التاسع عشر، عنيتُ مشكلة الصراع غير المتكافىء بين شرور الفردية وقيَم العائلة والبنوّة والتربية والرفاه، ودور السياسة الأميركية الفاعل (حرب فييتنام) في تحفيز الأجيال

الفتية على مواجهة آبائهم وأمهاتهم، وبعنف يحاكي ذلك الذي يحدث خارجاً، في أصقاع بعيدة آلاف الكيلومترات عن القارة الأميركية وشوارع مدينة نيوارك، مسرح الأحداث في الرواية التي نحن بصددها. ولكن، قبل الشروع في الكلام عن الرواية التي اعتبرها النقّاد الأميركيون والأجانب أهمّ روائعه الروائية، لا بدّ لنا من كلمة نعرّف بها بالروائي وبأهمّ أعماله.

نقد النمط الأميركي

يُعدّ الكاتب فيليب روث من أهمّ روائيي تيار ما بعد الحداثة، في أميركا الشمالية على الرغم من تأثّره بكتّاب القرن التاسع عشر أمثال بلزاك وفلوبير وغيرهما، إلى كونه معجباً بمن سبقه من الكتّاب اليهود، وأهمهم صول بيلو وبرنار مالامود. ويُعدّ أكثر هؤلاء الكتّاب تداولاً بمسألة الهوية الأميركية وتبعاتها على الفرد وربما أكثرهم انتقاداً لأسلوب الحياة الأميركية. وللكاتب فيليب روث ثلاث وعشرون رواية، منها: كاتب الظلال (1981)، زوكرمان المحرَّر (1981)، درس التشريح (1985)، عربدة في براغ (1987)، الحياة المضادة (1989)، حياة رعوية أميركية (1997)، المترجمة إلى العربية التي شاء الروائي أن يوحي من خلال العنوان American pastoral بالبعد الديني (اليهودي) الذي تحمله كلمة "الرعية" والتي تعني مجموع المؤمنين الواقعين في إطار مكانيّ واحد.  ثم كانت له روايات: "تزوّجتُ شيوعياً" (2001)، و"المهمّة" (2002) و"مخرجٌ للشبح" (2009) وغيرها.

إذاً، يتناول الروائي الأميركي فيليب روث، الحاصل على العشرات من الجوائز الأدبية في بلاده والعالم، والذي كان مرشّحاً دائماً لجائزة نوبل للآداب، أسطورة الرّفاه الأميركية بالنقد والوصف وصفًا نافذاً حتى النخاع لمفاصل الحياة الأميركية الفردية والعائلية، وحتى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، على حدّ سواء. وباختصار شديد، تدور أحداث الرواية حول محور وحيد، هو كناية عن معضلة إنسانية أو إشكالية بالمعنى الفكري، ومؤدّاها: كيف يمكن لرجل أعمال أميركي، في أوائل السبعينيات من القرن العشرين، ذائع الصيت بمنجزاته في صناعة القفازات، والزوج "الصالح" لامرأة كانت قد تُوّجت في صباها ملكة لجمال نيوجرسي، وهو المتحرر وإن كان يهوديّ المنبت، كيف يمكن له أن يقبل بخيانة ابنته الوحيدة "ميريديث" (أو ميري) مبادئه الوطنية وأخلاقه التي رُبّي عليها، وأن تعاكس مصالح طبقته البورجوازية التي بلغها بكفاحه وصموده - في عزّ ثورة الزنوج في ستينيات القرن الماضي بمدينته نيوارك - وكيف يرضى عن مخالفتها شرائعه الدينية المستمدّة من التوراة، حين انضوت (ميري) تحت لواء زمرة من الشيوعيين الثوريين، ودسّت مجموعة من العبوات الناسفة في أحد المخازن الكبرى، وقد أدّى انفجارها إلى مقتل طبيب مسالم، صودف مروره في تلك المحلة، إضافة إلى ثلاثة آخرين من المارّة؟

على أنّ الروائي، فيليب روث، يتقن رسم السياق التاريخي والاقتصادي والسياسي، داخل الولايات المتحدة الأميركية لأواخر الستينيات من القرن الماضي: فمن جهة، كان ثمة ازدهار اقتصادي، حفّز الشخصية الرئيسة فيها، أي "السويدي ليفوف" صاحب السيرة الرياضية الأسطورية في لعبة الغولف، والشهير في مدينته نيوارك، على المضيّ في صناعة القفازات، والانتقال للسكن في بيت حجري منفرد في قرية أولد ريمروك الشاعرية، ومن جهة أخرى، كان ثمة تحدّ سياسي ماثل في الخارج، وتتردّد مفاعيله في الداخل، عنيتُ حرب فييتنام التي كانت وقائعها تجري في أماكن بعيدة جداً، إلاّ أنّ ارتداداتها على الواقعين المعيشي والسياسي ما كانت لتبدو أقل تأثيراً في يوميات الناس من وقائع الترقّي الاجتماعي الذي كانت عائلة جيري ليفوف تحياه لتبلغ ذروته، ولتشهد انحدارها المدوّي لاحقاً، باقتراف ابنتها الوحيدة، المصابة بالتأتأة، جريمة إرهابية سبق وصفها.

 طابع موسوعي

إنّ من يقرأ رواية "حكاية أميركية" بهذا الاتساع (525صفحة) لا بدّ من أن تلفته ظواهر عدّة فيها، ربما صنعت تمايز هذا العمل، وارتقت به إلى مرتبة الرائعة الأدبية التي أجمع النقّاد الأجانب على وصفها به حال صدورها، ومن هذه الظواهر:

أولاً- الموسوعية: ولئن كان الكاتب نفسه من مواليد مدينة نيوارك، الواقعة في نيوجرسي، ويفترض به معرفة الكثير من وقائعها بفعل معايشته إياها في سيرته اليومية، فإنّ تضمين الرواية الكثير من التفاصيل في ما خصّ الحركة الصناعية في المدينة، وصناعة الجلود والقفازات وانخراط كثيرين من الأميركيين السود في صفوف العمال، ثمّ قيامهم بحركات اعتراض وانتفاضة، إبان الستينيات من القرن الماضي، استدعى قيامه بأبحاث تعينه على الإحاطة التامة بالسياق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي حيث تجري أحداث الرواية، وتقع المأساة المدوّية، وهي التي يدعوها لوكاش "بأشكال المعاني" في العمل الفني، ومن دون أن تفقد هذه التفاصيل المستمدة من التأريخ والواقع الاقتصادي والسياسي وهجها الأدبي ودلالاتها المرتبطة برؤية الكاتب الإنسانية، بل الإصلاحية التي تتجاوز الحدود الطبقية والعرقية والدينية لصالح الإنسان المطلق والمنسجم مع ذاته ونواقصه ورغباته وأوهامه عن العالم وما بعده.

ثانياً- الحوارات: يمكن القول إنّ الحوارات التي دوّن الروائي بعضها، بين الشخصية الرئيسة "جيري" وبين ابنته "ميري" بعد خمس سنوات من البحث المضني عنها، ودفع فدية أربعين ألف دولار لقاء معلومة عن مكان إقامتها لريتا كوهين، إحدى المنتميات الى حركة ماركسية إرهابية، هي الخزين العاطفي والوجداني الأهمّ في الرواية، ما دامت تعبّر عن عمق المشاعر الإنسانية الجيّاشة التي لطالما حبسها الوالد (جيري) إثر قيامها بعملها التخريبي، واضطرارها إلى الاختباء عن عيون الشرطة الفيدرالية لدى معارفها ممن لا تحوم حولهم الشبهات. وقد لا يبالغ القارىء، شأني، في القول إنّ هذه الحوارات المتأخّرة التي توالت بين الابنة الوحيدة -المدلّلة والمرتكبة، بوعيها الطفولي، جرماً سياسيا وإنسانياً كبيراً، كانت لتكشف عن عمق الهوّة بين جيلين ونظرتين إلى العالم: نظرة الأب المتباهي بما أنجزه من رفاه مادي وإقامته بيتاً مفرداً بعد عمر حافل بالتضحيات والجهاد العصامي لتحقيق الحلم الأميركي، في مقابل نظرة الابنة الرافضة هذا الرّخاء المطلق، والمستنكرة الحرب الضروس التي تشنّها أميركا، برجالها ومجتمعها، على فقراء فييتنام، والمعبّرة عن غضبها العارم حيال النهج التربوي المنحلّ الذي اعتمدته والدتها "داون"، إذ فضّلت تربية الأبقار، والقيام بعمل مجزٍ، على تربية ابنتها واحتضان وليدتها الطفلة، عملاً بالدرجة الشائعة بين نساء أميركا من الطبقة الصاعدة ممن كنّ يعهدن الى الحاضنات بتربية أطفالهن بغية الانصراف الى أشغالهنّ الكثيرة.

 ثالثاً- رواية القضايا: في الجزء الثالث والأخير من الرواية، وهو بعنوان "الفردوس المفقود"، تنكشف للقارىء أمور كانت لا تزال خافية عنه في الجزأين الأوّلين، وتتّصل بخيانة "داون" لزوجها السويدي، مع رجل يُدعى "ويليام أوركوت"، وخيانة السويدي زوجته مع امرأة تُدعى "شيلا"، واتفاق الثنائيين على تدبير انتقالهما، كل إلى عشيقه، حالما يصير الوقت مناسباً. وبعد، ألا يصير اتّهام الفتاة "ميري" بارتكاب المعصية الكبيرة، وزجّها في السجن لسبع سنوات جزاء لها لجرم سياسي اقترفته، باطلاً حيال الفساد الذي يعتري الهيكل الأميركي برمّته، على ما قصد إليه فيليب روث؟ "فالخارجون عن القانون موجودون في كلّ مكان. إنهم الآن داخل الأسوار.." (ص:455).

 يمكن اعتبار الرواية "حكاية أميركية" ميداناً لتداول وجهات نظر رسمية، في مسائل مثل التربية والمسؤوليات المتنازعة فيها، وبروز النزعات العنفية لدى الأبناء والبنات على نحو صادم. ومسألة التربية الدينية وما تورثه من محرّمات ومقدّسات في أذهان أتباعها. كما تعرض الرواية لأسطورة الحلُم الأميركي في الربح المادي والإنجاز، من دون التنبّه إلى عوامل الفساد الكامنة فيه، وهي تعادل المفجّرات من داخله.

ولدى العودة إلى عناوين الأجزاء الثلاثة التي تتكوّن منها الرواية، على التوالي (ذكريات الفردوس، السقوط، الفردوس المفقود)، يتسنّى للقارىء أن يستخلص تصوّر المؤلف في سقوط الحلم الأميركي من داخل إنسانه ومجتمعه.

المزيد من ثقافة