يرجع المؤرخون بدء الموسيقى في العالم الى أكثر من 40 ألف سنة مع نشوء "الإنسان العاقل" Homo Sapiens عندما بدأ يقلّد ما حوله من أصوات ويتنبّه الى أن تكرارها في أنماط معينة ومساحات زمنية محددة يروق لأذنه. وعلى مر العصور ميّزت الموسيقى نفسها عن بقية ضروب التراث الإنساني بأنها اللغة الوحيدة المشتركة بين مختلف الشعوب وإن اختلفت أساليب إنتاجها ولوازمها.
وفي هذه المقالة نتناول التيارات الرئيسية التي تشكّل هذا المحيط العريض من النغم، لكننا نستبعد الموسيقى الفوكلورية (أي الشعبية المجهولة المؤلف) لكونها سجينة الجغرافيا وتستحيل الإحاطة بها على أية حال.
الشرقية
تشمل - في معناها الواسع - موسيقى الشرق الأقصى (كالصين واليابان) وموسيقى شبه القارة الهندية وموسيقى الشرق الأوسط الكبير (العربية والكردية والشمال افريقية والتركية والإيرانية والآسيوية الوسطى وكلها ذات جذور آشورية وصارت تعرف تجاوزاً بـ"الموسيقى الشرقية").
العربية
الجوقة الموسيقية العربية الأصلية هي التخت - نظير الاوركسترا الغربية - وتتألف من العود، ومختلف الوتريات الأحادية المعزوفة بالقوس، والمزامير، والدفوف والصناجات، إضافة الى القانون (التركستاني أو الفارسي المسمى السنتور). وعندما أدخلت الجوقة العربية الآلات الغربية الى ترسانتها الموسيقية تخيّرت الوتريات القوسية وهي الكمان وأبناء عمومته مثل التشيلو والكونترباص. والسبب في هذا هو أن العنق في هذه الآلات خال من التقسيمات النغمية frets (على غرار الجيتار). ويتيح العنق الخالي هذا للعازف على السلالم الشرقية الانزلاق قدر ما أراد من ربع النغمة الى ثلاثة أرباعها بدون عائق أو مانع.
ومثل سائر الأشكال الموسيقية الحديثة في عموم الشرق الأوسط الكبير، تأثرت الموسيقى العربية بالموسيقى الكلاسيكية الغربية على الأقل في استعارتها شكل الاوركسترا والآلات على شاكلة الكمان والتشيلو والكونترباص، ثم التنويط في بعض الحالات. لكنها لم تستعر عصب الغربية وهو التعدد الصوتي (الهارموني) فظلت – كما كانت – أحادية البعد اللحني.
هذه الأحادية هي أحد وجهين يميزان الموسيقى الشرقية عموما عن الغربية وإن تبنّت الاوركسترا الغربية وآلاتها. أما الوجه الآخر فهو "المقام" (السلّم الموسيقي). فبينما يتألف السلم الغربي من سبع عتبات، يتألف المقام من ثمان أساسية في معظم المقامات إلى أربع وعشرين (نظريا ووفقا للمؤرخ والموسيقي اللبناني – اليوناني ميخايل مشاقة)، لأن المسافات الموسيقية بين العتبات الرئيسية قد تشمل ربع المسافة إلى ثلاثة أرباعها.
والمقامات الشرقية الأساسية تسعة ولكل منها تفرعاته العديدة الخاصة به يبلغ عددها مجتمعة ما بين 180 و360 مقاما وفقا للأكاديميين الشرقيين. والأساسية هي: الراست والنهاوند والنوا أثر والبياتي والكرد والحجاز والصبا والسيكاه والعجم.
وبالطبع لا يكتمل الحديث عن الموسيقى العربية بدون الإشارة إلى الموشح الذي يعيد البعض أصله إلى التراتيل السريانية والبعض الآخر الى الغناء الأندلسي أواخر القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي). وهو في تعريفه البسيط قصيدة متعددة الأوزان والقوافي (على عكس القصيدة التقليدية) صيغت أصلا لتكون أغنية. هو يقع في فئات حسب تعدد الإيقاعات وأزمنتها وأهمها الكار والنقش والزنجير والضربان، ويتألف في الأغلب من ثلاثة أجزاء مختلفة الألحان يُسمّى كل من اولها وثانيها "الدور" ثم الأخير "الخانة". وقد توارى الموشح في بدايات القرن العشرين وعاد مجددا منذ أوائل الستينات مع تشكيل جوقات مصرية خاصة به وبعدما صدح به مغنون كبار مثل فيروز في لبنان وصباح فخري في سوريا وام كلثوم ومحمد الموجي في مصر.
* استمع لموسيقى التخت مع اوركسترا ميشيغان العربية
* استمع للبنانية غادة شبير تغني "جادك الغيث"
* استمع للعراقية فريدة تغني "يا مليح اللمى"
ومثلما تأثرت الموسيقى الشرق أوسطية الحديثة بالغربية (خاصة في تركيا التي أوغلت مؤخرا في "غربنة" موسيقاها) تمكن نفر من الموسيقيين الشرقيين الشباب من إسماع أصواتهم عالية في عالم الموسيقى الغربية، عبر مزاوجة ناجحة بين الشرقي والغربي يمكن تصنيفها في خانة ما يسمى "الجاز الناعم". ومن الأسماء المذكورة في هذا المجال ظافر يوسف وأنور إبراهيم واللبنانييْن ابراهيم معلوف وربيع ابو خليل، الذين غدوا في زمرة الكواكب الساطعة في الغرب، وصار هذا نفسه سبب شهرتهم في الشرق.
الكلاسيكية الغربية
المساحة الزمنية التي تقع فيها الموسيقى الكلاسيكية الغربية تبدأ بالقرن السادس عشر وتنتهي مع إسدال الستار على القرن التاسع عشر. وسبب تحديد هذه المساحة الزمنية هو ان الفترة التي سبقت القرن السادس عشر غير واضحة المعالم في ما يتعلق بأشكال الموسيقى نفسها (مثل السيمفونية والكونشيرتو والسوناتا والأوبرا)، وأن القرن العشرين شهد انصراف الجماهير عن هذا النوع من التأليف الموسيقي الى أنواع أخرى أكثر مرونة وأقل تعقيدا.
والواقع ان مصطلح "الموسيقى الكلاسيكية" نفسه لم يظهر الا في أواخر القرن التاسع عشر محددا حقبتها الذهبية بين يوهان سيباستيان باخ ولودفيغ فان بيتهوفن. ورغم أن أعمالا عديدة لازالت تُقدم في "قالب" الموسيقى الكلاسيكية (معظم الموسيقى التصويرية الهوليوودية كمثال)، فإن المصطلح نفسه يشير فقط الى هذه الحقبة.
ومن العناصر المهمة التي تميز الموسيقى الكلاسيكية الغربية عن الكلاسيكيات الأخرى - مثل الهندية واليابانية والصينية – هو أن الأولى زاوجت بين الموسيقى الدنيوية والدينية بينما كانت الأخيرة مستوحاة من التعاليم الدينية الهندوسية والبوذية وصارت جزءا عضويا منها وبالتالي أحد أشكال العبادة في العدد الأكبر من الأحيان.
والكلاسيكية الغربية تتفرّد عما عداها باثنين هما نظام النوطة الموسيقية (تدوين الموسيقى على الورق) و"الهارموني" أو "تناغم التعدد الصوتي". أما النوطة فتحدد سلم العمل الموسيقي على لوحة مفاتيح البيانو ومواقع النغمات على هذه اللوحة والفترة الزمنية بين كل نغمة وتاليتها، إضافة الى الإيقاع الذي يجب ان يتبعه العمل الموسيقي أو سرعته إذا كان الإيقاع المنتظم ليس مطلوبا. وهكذا صار تدوين الموسيقى على هذا النحو وفي تلك الحقبة على الأقل حكرا على الغرب دون بقية الحضارات الإنسانية. وأما الهارموني فهو عزف نغمتين أو أكثر على السلم الموسيقى في الآن نفسه. وهذا شيء لا يُفعل اعتباطا لأن الأذن تنفر منه وتعتبره مجرد إزعاج. لكن التوفيق في الاختيار الصحيح للنغمات التي يمكن ان تأتي مجتمعة يضفي على الموسيقى حلاوة وبعدا يحلان بردا وسلاما على الروح. وكل هذا يتخلل سائر أشكال الكلاسيكية الغربية.
* استمع الى نماذج لعمالقة الكلاسيكية
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الموسيقى السوداء
هذه مظلة كبيرة لسائر أنماط الموسيقى ذات الأصول الأفريقية، وهي النبع الذي تدفقت منه أي موسيقى تُعزف بالآلات الغربية أينما اخترت في العالم (عدا الكلاسيكية من باخ الى بيتهوفن). وقد تفتقت هذه الموسيقى من تجربة العبودية في الجنوب الأميركي وأنجبت البلوز والجاز والغوسبيل (الترانيم الكنسية السوداء) والروك آند رول والبوب والهيب هوب والراب وكل أنماط الغناء المتفرعة منها. ويتمثل الرئيسي من هذه الأنماط في الآفروأميركي والآفرولاتيني والآفروكاريبي والموسيقى الغربية الحديثة على شاكلة الروك آند رول والبوب.
* استمع الى الغوسبيل مع كورال مسيسيبي
الافريقية
هذه هي الجذر الذي نمت منه الموسيقى الحديثة في العالم اليوم بما في ذلك دول عربية اتخذت منه جزءا من تراثها، مثل المغرب حيث "الكناوة" ودول الخليج حيث "الليوة" وموسيقاها (انظر "الموسيقى الآفروأميركية... هكذا صار الألم كائنا حيّاً يشع نوراً وبهجة" – "اندبندنت عربية" - 3 ديسمبر / كانون الأول 2019).
وأهم سمات الموسيقى الأفريقية الآلات الإيقاعية من الطبل الى عائلة الزايلفون والغناء الجماعي أو الفردي المصاحب بالجماعة. وهي، سواء كانت بالإيقاعات أو الغناء تتبع نهج "النداء والجواب"، بمعنى أن الطبل الرئيسي أو المغني يلقي بأصواته فتستجيب له مجموعة من الطبول أو المغنين - المعادلين للكورس - بأصواتها / أصواتهم.
أما الذي يميز الموسيقى الافريقية عن بقية العالم فهو اتصالها العضوي بالأنشطة الحياتية اليومية، لأنها بمثابة الجهاز العصبي في ما يسمى "الموروث الشفاهي". هذا الموروث هو الذي ظل – حتى خضوع القارة للاستعمار الأوروبي في القرن 19 - ينظم الحياة الاجتماعية ويحفظ العقيدة والتاريخ ويرسم الجغرافيا ويضع أسس الاقتصاد ويربي الأجيال الجديدة. ولأن هذه موسيقى قارة بأكملها فإن السلالم التي تستخدمها تغطي كل المساحة من الثلاثي إلى السباعي تبعا للجغرافيا والتراث. وتجدر الإشارة هنا الى آلة "الكورا"، وهي أهم الآلات الوترية الافريقية القُح وتنتشر خصوصا في غرب القارة. وهي ولا شك آلة مدهشة تشبه الربابة وتتألف من 21 وترا تُعزف بالإبهام والسبابة فيأتي صوتها أقرب شيء الى آلة القانون الشرقية.
* استمع الى الكورا مع اثنين من أشهر العازفين عليها
* استمع الى الطبول الافريقية مع فرقة جاليكوندا
الأميركية اللاتينية
هذه بوتقة ضخمة انصهرت فيها موسيقى السكان الأميركيين الأصليين مع موسيقى الغزاة الاسباني والبرتغاليين وأيضا مع الموسيقى السوداء، سواء المحلية التي تعود الى أزمان العبودية أو الآفرواميركية الحديثة.
ولهذا السبب ولأنها انتشرت على رقعة واسعة (اميركا اللاتينية والجنوبية إضافة الى المكسيك والكاريبي) متشربة من كل رقعة أفضل ما فيها، فقد غدت شجرة موسيقية يصعب حساب أغصانها ومتفرعاتها. وبين أبرز هذه البوسانوفا والسامبا والرومبا والسالسا (أو الصلصة) والتشاتشاتشا والتانغو والريغي، وأيضا الجاز والسول والهيب هوب وغيرها من تيارات الموسيقى الآفرواميركية المخلوطة بالنكهة اللاتينية.
* استمع لمثال من التشاتشاتشا أداء سانتانا وفرقته
الموسيقى الهندية (شبه القارة)
هذه تنقسم أيضا الى كلاسيكية وحديثة. وفي تعريفها الابتدائي - خاصة الكلاسيكية - أنها نشأت (منذ آلاف السنين مصحوبة بالرقص الإيحائي) كوسيلة لنشر الثقافة الدينية في غياب الجهل العام بالكتابة والقراءة. وضمن ما تتميز به أن أكبر سلالمها الموسيقية يحوي 22 عتبة (تسمى شروتي) ومعظمها يعادل ربع مسافة أو أقل على السلم السباعي التقليدي.
وأهم الآلات التي تميز هذه الموسيقى "السيتار" الذي يعود تاريخه الى بدايات القرن 16 في عصر الامبراطورية المغولية، ويحوي ما بين 18 و21 وترا ونفذ الى العالمية بفضل عازفين أمثال رافي شانكار وتبنّيه من جانب أشهر الفرق الموسيقية مثل "البيتلز" و"الرولينغ ستونز".
* استمع الى رافي شانكار على السيتار…
* ... والمزمار الكلاسيكي (البانسوري)
موسيقى الشرق الأقصى
النكهة المتميزة التي لا تخطئها الأذن كلما استمع المرء الى الموسيقى الصينية أو اليابانية أو الكورية تتأتى من أن موسيقى هذه المنطقة عموما تقوم على السلم "الخماسي". وكما يتضح من اسمه، فهو سلم يتألف من 5 عتبات. فبينما يتألف السلم السباعي من "دو، ريه، مي، فا، صول لا، سي" تجد أن الموسيقى الصينية ( تتألف من "دو، ريه مي، صول، لا" (بإهمال "فا" و"سي"). وكذلك فإن اليابانية تقوم على "دو، مي، فا، ، لا سي" (بإهمال "ريه" و"صول")، وهكذا يصبح السلم خماسيا. والكلاسيكية منها دينية ايضا وتفسح حيزا أكبر من أي موسيقى أخرى للتأمل وتغذية الروح. ويجدر بالذكر هنا أن السودان هو البلد الوحيد الذي يعتمد هذا السلم بين الدول الناطقة بالعربية.